تسود العالم العربي ـ الإسلامي ظاهرة شديدة التناقض تتمثل في العلاقة الطردية بين تزايد أعداد المتدينين، وفي نفس الوقت، انتشار ممارسات وسلوكيات الإنحلال الأخلاقي مثل التحرش الجنسي والرشوة والغش والفساد بكل أشكاله. فقد تحوّل الدين ـ وللمفارقة ـ في الحقبة التي يُطلق عليها صفة « الصحوة الإسلامية» إلي مجرد تدين شكلاني يهتم بالمظهر والرمزية البرانية، علي حساب جوهر الدين. فهناك نوع من التضخم الديني الذي قلل من القيمة الحقيقية للدين. فنحن نلاحظ أن عدد المساجد وأعداد المترددين عليها، وأن أرقام المهرولين للحج والعمرة، قد تضاعفت. وتتحدث الاحصائيات عن أن المنطقة هي الأكثر تدينا في العالم، كان آخرها تقرير معهد جالوب. وتؤكد الشوارع العربية، بلا حاجة لأرقام، تفشى ظاهرة التدين الشكلاني، كما تعبر عنها كتل الرجال الملتحين والنساء المنقبات والمحجبات. ورغم كل هذه المظاهر، يختفي أثر الدين ولا ينعكس علي سلوك الأفراد وأخلاقهم، ولا علي مجتمعاتهم بجعلها تسعى لكي تكون مجتمعات فاضلة، ومتقدمة روحيا وماديا. وتعريف الدين الحقيقي هو ببساطة البحث عن المعنى، والاقتناع برؤية متعالية للكون والوجود، مع الالتزام بسلم صارم للقيم والأخلاق.
للمفارقة، يتزامن مع هذا التضخم الديني وفيضان الشوارع بالمتدينين، انتشار جارف لممارسات غير دينية ولاأخلاقية، أخطرها التحرش الجنسي، والذي قد يقوم بها متدينون وضد محجبات أيضا. ولم يعد مبرر الملابس المغرية أو الخليعة ضروريا للإثارة والتحرش. فالمرأة في شوارع المدن الإسلامية صيد سهل وحلال للقنّاصين من المتحرشين. وغالبا ما ُتطبق علي المرأة، نظرية مفتي استراليا ـ الشيخ الهلالي ـ عن اللحم المكشوف والقطط. كذلك من الظواهر اللا أخلاقية التي تتعايش وتتساكن مع التدين الشكلاني، إنتشار الرشوة والغش في كل مجالات الحياة العامة. وأخطر ما في الأمر أن هذه الظواهر السلبية تم تطبيعها وتعميمها تدريجيا. وأقصد بذلك، أنها صارت سلوكيات وممارسات طبيعية أو عادية لا تجلب الإدانة والاستنكار. فالرشوة لم تعد مرتبطة بالموظف ذي الدخل البائس بل قد تبدأ من الوزير. وقد أخذت الرشوة تسميات تجميلية مثل الاكرامية والسعي والحافز. أما الغِش، فقد تجاوز الأسواق إلي دور العلم والمعرفة. وهذه كارثة حقيقية، تنبئ جليا كيف ستكون ملامح مستقبل بلادنا؟ فالظاهرة تُبشر بأجيال عاطلة من القيم الاخلاقية وتأنيب الضمير، حين يعتبر الطالب أن الغش في الامتحانات أمر عادي. لقد صعقت في الصيف الماضي حين تابعت أخبار الامتحانات في أجهزة الإعلام. فقد وردت أرقاما مفزعة لحالات الغش وتسريب الامتحانات. وما صدمني حقيقة، تلك النسب العالية للغش بين طلاب المعاهد الدينية بالذات! ويأتي ضمن أشكال التعايش، انتشار الفساد في أجهزة الدولة، فقد صار المال العام مستباحا. ولكن الحراك الشعبي ضد الفساد في بعض البلدان العربية، رغم أن المبادرة لم يطلقها متدينون، إلا أنها دليل عافية. فمن غير المعقول أن يتساكن التدين والفساد في مجتمع واحد، لابد أن ينفي أحدهما الآخر.
تجدد اهتمام حاليا بالتدين الشكلاني مع مقدم عيد الأضحى، ففي هذه المناسبة تظهر المظهرية في أجلى صورها. فقد تحول الفعل الديني إلي عادة اجتماعية وطقس لابراز المكانة الاجتماعية أو الوضع المادي. فالضحية ليست فرضا بل هي سنة كفاية أو مستحبة، ولكن التنافس حولها يرفعها لدرجة فرض عين. والآية الكريمة واضحة المعاني: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله علي ما هداكم وبشر المحسنين) الحج-37. ورغم إنعدام الاستطاعة في حالات كثيرة، يتباري رجال الدين في ايجاد مخارج مثل إمكانية شراء الخروف بالتقسيط، ولكن يظهر بينهم من يحرم التقسيط في الاضحية. وهنا يختلط الديني مع الاجتماعي، ويقع عدم الذبح بين هل هو عيب أم حرام؟ وينسحب هذا التفكير علي صيام رمضان، فالكثيرون لا يؤدون كل الواجبات الدينية ولكن «لا يلعبون في أمر رمضان» ـ حسب قولهم. فقد صار الصيام عادة اجتماعية صرفة، بل يُعتبر عند البعض من معايير الرجولة والقدرة علي التحمل. ومن ناحية أخرى، تدخل مأساة التدافع الأخيرة بين الحجاج في منى، تجسيدا بيّنا لتعايش التدين مع سلوكيات غير دينية. فالعنف، والجلافة، وعدم الرحمة، وعدم توقير الكبير؛ هي انماط السلوك السائدة بين كثير من المسلمين في أكثر الأماكن قدسية. فالمسلمون يتسابقون ويتزاحمون ويدوسون علي بعضهم، بعيدا عن كل أشكال الذوق والأدب. علما بأن هذا الدين قد جاء رسوله الكريم ليكمل مكارم الأخلاق.
إن هذه الأزمة التي حاقت بالمسلمين ودينهم، وهم يتجاهلون مواجهتها، ليست عصية علي التفسير كظاهرة اجتماعية ـ ثقافية وتاريخية. فهي تكمن في فهم طبيعة العصر الذي يعيش فيه المسلمون الآن. فقد جاءوا إلي دنيا تجرفها العولمة، وتتخللها العلمنة في كل التفاصيل، وهم يحاولون أن يحافظ علي دينهم بوهجه كما انبثق في أول يوم للبعثة النبوية. والآن، قد صار الممسك بالدين الحق كالممسك بالجمرة فعلا.
ويرجع ذلك إلي حقيقة التغييرات الجذرية التي اجتاحت العالم ولم يكن المسلمون ضمن الصانعين الاصيلين لها، ولكن عليهم أن يعيشوها مثل الآخرين. ورأى المسلمون في الدين مركب نوح الذي يمكن أن ينجيهم من هذا الطوفان. ولكن السؤال هو أيُّ دين هو القادر علي حمايتهم من عواصف العولمة والعلمنة؟ وقال كثيرون ببساطة بأننا لن نفلح إلا بما صلح به أسلافنا. لذلك لا بد من العودة للنبع الأول للدين أو الاصول. ومن هنا كان انتشار الاصولية التي اقنعت الكثيرين من المسلمين أن مستقبلهم خلفهم وليس أمامهم. وهذه كانت بداية الانفصام بين الدين الأصيل والتدين الشكلي. فقد كان علي المسلمين أن يعيشوا المثال في فكرهم والواقع الحقيقي في معيشهم اليومي. فالنصوص تقول شيئا والواقع يقدم شيئا مختلفا تماما. فالحياة العصرية تطرح علي المسلمين أسئلة تشكك في كثير من الثوابت. وهذا مصدر الارتباك النفسي الذي يعيشه المسلمون في محاولاتهم للتكيف مما يؤدي للتناقضات السلوكية.
ترجع جذور هذه الأزمة إلي صدمة الاحتكاك مع الغرب، وقد تكون البداية حملة نابليون 1798. وكان من الطبيعي أن يتساءل (شكيب أرسلان) عن لماذا تأخر المسلمون بينما تقدم غيرهم؟ وأن يتحسر (محمد عبده) عن وجود إسلام بلا مسلمين في أوروبا، والعكس في بلاد المسلمين. ثم تتالت محاولات ما يسمى الإصلاح أو التجديد، وهي ببساطة تأويل النصوص لكي تقترب مع فهم الواقع والتعامل معه. فالنصوص الدينية لم تعد قادرة علي مواكبة المستحدثات التي ينتجها الواقع. وكان علي المصلحين حل معادلة أن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية. وقد ظهرت الفتوى منذ بداية الفتوحات والتفاعل بين المسلمين وثقافات جديدة، والتي لم تكن معروفة في زمن الرسول والصحابة. وحاول التدين الشكلاني إضفاء الشرعية علي ممارساته، فظهرت ما سميت بالحيل الفقهية. كما أصول الفقة لمفاهيم عديدة مثل فقه المقاصد، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات أو فقه الضرورة، والمصالح المرسلة. فهي تسمح بقدر من المرونة يستفيد منها التدين عموما، ولكن يجب ألا يكون ذلك علي حساب الدين «القويم». وهذه مهمة أي تجديد حقيقي يسعى لرفع تناقضات التدين الشكلاني، ولكن الواقع يبحث عن الأسهل، لذلك فضّل كثير من المسلمين تساكن وتعايش التدين الشكلاني مع سلوكيات تناقض الدين والأخلاق معا.