تعريف “الكوزنة” عند ميسون 

 


 

 

هنالك لحظات وأشياء لا تنسي. من تلك اللحظات -في حالة سودان الثورة- لحظة دخول الثوار لميدان القيادة يوم 6 ابريل 2019 ولحظة سقوط البشير بالبيان العسكري. ومن تلك الاشياء التي لا تنسي، تسجيلان ‘لايف‘ التصقا بذاكرتي عند سماعهما. أولهما في أوائل أيام الثورة ، قبل نهاية الاسبوع الثاني لاندلاعها ، يوم 28 ديسمبر 2018 ( تسجيل هبة) والثاني (تسجيل ميسون) يوم 7 ابريل 2019.  التسجيل الاول من شابة/كنداكة (بالكتير في عمر الجامعة)، لا يمكن لمن سمعه حينها من الشباب/الاولاد الا أن يخرج في المظاهرات، وذلك لشحنة التحدي الكبيرة للنظام في التسجيل ، والظاهرة كذلك في صوتها الواثق وفي تعبيرات وجهها وذكر اسمها " أنا هبة دي ما خايفة منكم وحأطلع حأطلع يا كلاب........". كان تسجيلها كامل الفروسية ويترك أثرا وحماسا في النفس مثلما تترك أغاني الحكَّامات من أثرعلي أبناء عمومتهن في حروب أزمان مضت، حروب-مهما كانت أسبابها- لايُعرِّد عن ميدانها ووطيسها شاب أو شايب.

ثاني التسجيلات كان بعد نجاح الثورة وكان مختلفا، تسجيل ميسون يوم 7 ابريل 2019. رسخ في ذاكرتي واحتفظت به لجرعة الوعي العالية التي حملتها رسالتها القصيرة والرصينة للثوارحول أهم مطلوبات مرحلة ما بعد سقوط الطاغية. قالت بصوت هادئ ورزين "قوتنا في وحدتنا، ووحدتنا في سلميتنا. أي زول يخت مصلحتو قدام مصلحة الوطن ده كوز، وأي زول يخت مصلحة حزبو قدام مصلحة الوطن ده كوز". الرسالة كانت شديدة الوضوح لأنها عرفت الكوزنة ك "سلوك" وليس كانتماء لحزب بعينه (المؤتمر الوطني)، وربما تعريفها ذاك هوالذي أوحي بتعابير مثل " الحصة وطن". لا يفوتني هنا أن أشير الي ما جاء في عنوان مقال للاستاذ صلاح شعيب قبل عدة أيام في سودانايل من ان الكوزنة سلوك وهو عين ما قالت به ميسون ولذا وجب التنويه. (المسودة الاولي لهذا المقال كتبت أيام عيد الأضحي).

للأسف كثيرون ، أفرادا واحزاب ، لم يتحاشوا – في مقبل أيام الثورة- أن تنحدر ممارساتهم الي مستوي الحوض الآسن لمفهوم "الكوزنة" الذي صَكَّته "ميسون". كثيرون فعلوا بالضبط ما حدده المفهوم الواسع من أن "الكوزنة سلوك" وليست إنتماء لحزب بعينه (المؤتمر الوطني، الذي مثل الحاضنة السياسية لذلك السلوك) أونظاما فاسدا بعينه أسقطه الثوار(الانقاذ). إن "الكوزنة" بهذا المعني هي مصطلح محدد في فضاء السياسة السودانية يشي بكل ما هو سئ من ممارسات من قبل الأحزاب السياسية وقياداتها والافراد المتطلعين للمناصب، ويمكننا القول هنا أن "الثوري المتكوزن"  هوسيِّئ بالكلية، لأنه ارتدي لبوس الثورة لتحقيق أغراض لا تخدم الا مصلحتة الشخصية أو الحزبية. وبهذا فإن "عدم الكوزنة" كسلوك، بمعني عدم التعدي علي المال العام وعدم تقديم أي مصلحة أخري علي مصلحة الوطن-بما في ذلك السعي أو التوسط لاحتلال موقع ما عن طريق التوسط - ، يمكن أن يتم تطويره ليكون التزاما مصاحبا لمتطلبات تبرئة الذمة عند تعيين المسئول الدستوري الجديد،عقوبته المادية (محاكمة علنية) وعقوبته المعنوية (الفضح والنشرفي وسائل الاعلام ". أن السلوك "المتكوزن" يجب أن يكون جريمة واضحة وملزمة التبليغ عنها علي كل مواطن، والسكوت عليها يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون .

وإذا طبقنا مفهوم الكوزنة كما جاء إعلاه، علي الأفراد والتنظيمات الذين تولوا أمر البلاد فيما بعد الثورة فسنجد أن عددا كبيرا منهم قد سجل رسوبا معتبرا إن لم نقل مدويا في هذا الامر. رسوبهم نتيجة سلوك متكوزن بامتياز ، بالتكالب والتهافت علي المواقع والوظائف القيادية/العامة دون مراعاة لشفافية الاختيار ووضع أو البحث عن الشخص المناسب بالاعلان عن الشواغر أوحتي بقوائم مختصرة للمتنافسين يتم الاختيار من بينهم بواسطة لجان محايدة أو ذات دراية بالموضوع. كم من سعي الي الموقع المعيَّن  بظفره ونابه مستعملا كل رصيده من العلاقات الاجتماعية والحزبية والاخري المستترة، او ترشيحه "شُلليا" وهو خال من المؤهلات والخبرة المطلوبة للموقع المستهدف، وكم من تم إعافؤه أو الحفر لإزاحته من موقعه لتصفية حسابات وضغائن شخصية أو لصالح آخرين، في تقديم واضح للمصلحة الشخصية والحزبية علي مصلحة الوطن ، وكم من خاض في وحل التآمر مع جهات مختلفة لذات المصالح غض النظر عن تكلفة ذلك للمصلحة العامة للسودان.

هذا السلوك ليس جديدا بكلياته ، لكن الفرق الذي أحدثته الانقاذ هوأنها حولت هذا السلوك شبه الطبيعي في المجتمعات المتخلفة إلي "كوفيد متحوِّر" مختلف الملامح لتقنين الفساد الإداري والمالي وجعلت منه غُولا يتعدي علي المال العام ويخرج مرتكبو جرائمه من المحاكمات مٌغتسلين من جرائمهم فقط بظهورهم في المحاكم ، مع حجب الاسماء عن الصحف والأجهزة الاعلامية ، ثم بهدوء يتحولون أو يتم نقلهم لمواقع أخري لتبدأ المأكلة من جديد، فأصبح إسمه "الكوزنة". ويري أحد الاصدقاء، بأن الكوزنة كمفهوم أشمل مما ذكرنا، إذ هو داء وبيل يتعدي بما لا يقاس حدود الفساد الاداري والمالي وتحقيق مصالح شخصية؛ يتعداها الي ارتباطه بجرائم القتل البشعة والتعذيب وهدر للموارد بالنهب، والاستهتار بمصالح الوطن القومية بربطه بمحاور الارهاب وفصل ثلث اراضية. صحيح ، لكن رغم ذلك جازلنا أن نصف السلوك بالكوزنة وأن ندينه ،مع ميسون، من باب "من يتعاطي المكروهة عمدا ، غير شك يتعاطي الحرام"، إذ من يدري الحد الذي يمكن أن يقف عنده "المُتكَوزِن".

دعونا نجتهد لوضع لائحة سلوك شخصي وحزبي يقنن لعدم "الكوزنة" ومحاربتها بضراوة وذلك أولا بالشفافية في إختيار الوظائف العامة لكبار المسئولين، بوضع أشراط لشغل الموقع القيادي في الدولة. مثلا بمقابلة برلمانية علي الملأ كما يفعل الامريكان أو أي نوع من "الانترفيوهات" يتم الاتفاق علي كيفيته، بالاضافة بالطبع الي الحد الأدني من المؤهلات والخبرات، أي العمل علي إدخال تعديلات في شروط النظام الديمقراطي نفسه حتي يناسب حالنا. كما نجتهد لابتداع وسائل كفيلة بجعل هذا السلوك مساويا للفضيحة كما سبفت الاشارة، وبالتحديد علي مستوي سلوك الأحزاب في تقديمها لمنسوبيها الذين يتولون المواقع التنفيذية والقيادية في الدولة بحيث لا تقتصر الأهلية علي المؤهلات العلمية  والأكاديمية فقط وإنما تجرم أيضا وراثة المواقع القيادية التنفيذية بدون شروط الأهلية المتفق عليها.

وشخصيا لا أخفي إعجابي  بتجربة "لي كوان يو" في سنغافورة حيث وصل هو وحزبه الي درجة عالية من التجرد الحزبي ، حيث أجازوا  البحث عن الوزير المناسب حتي لو كان من خارج الحزب، وقد عملوا بتلك الطريقة وطوروها  باختبارات مختلفة للمرشحين-بما في ذلك اختبارات سايكولوجية لهم من حيث هل المرشح مناسب وله المقدرة علي تحمل أعباء الموقع القيادي المحدد أم لا. ونتيجة ذلك أنظر أين سنغافورة الان؟

صديق امبده

22 يوليو2021

 

sumbadda@gmail.com

 

 

آراء