تعقيبا على السيد ثروت قاسم 2-2
بسم الله الرحمن الرحيم
المدنية أن تتركوا لنا الخيار!
كنا وفي حضرة ثورتنا قد عبثت بنا الأشواق، فحدقنا بلا جنس نشدانا للانعتاق، ونسينا حرقتنا بالنوع الحراق. لكننا اضطررنا لبعث حرقة النوع مرة ونحن نعلق على حديث الكاتب القامة السيد ثروت قاسم. في الجزء الأول من هذا المقال عقبنا على ما يلي طبيعة ثورة النيم: ثورة الشباب السوداني، وفي هذه نركز على حرقة النوع وما يليها من أفكار الكاتب. قلنا إن ما رآه تكريما للمرأة في تونس ليس كذلك إذ يتم التدخل في خيارات زيها وكذلك في تركيا وفي مصر بدرجات مختلفة. وقال السيد ثروت إن في تونس مزاوجة بين الواقع والواجب، وإن (الحجاب) منع فيها بسبب الدولة المدنية التي تمنع اضطهاد النساء وتفرض المساواة استنادا للمواطنة.
زي النساء والدولة المدنية
أوضحنا في المقال السابق مسألة المصطلحات وقلنا إن (الحجاب) ليس هو الصيغة الصحيحة للإشارة للزي الشرعي للنساء وإن كان خطأ شائعا. واليوم نسوق مداخلة لرأي السيد ثروت المذكور في سبع نقاط:
أولا: نحن نرفض اضطهاد النساء وننادي بالمساواة ونؤيد فكرة أن الفقه الذي نحتاجه يزاوج بين الواجب الديني والواقع الدنيوي مزاوجة لطيفة هي فقه التنزيل الذي ننادي به والذي يختلف مع الزمان والمكان.
ثانيا: المساواة المطلوبة لا تعني تقليد الغرب ولا أزيائه، فالغرب مثلما يحتوي على مكونات حضارية إنسانية وعامة يحتوي على مكونات ذاتية متعلقة بتاريخه وثقافاته ومكوناتها الخاصة التي لا تعنينا في شيء.
ثالثا: الواقع الحالي الذين نعيشه يتعلق فعلا بفروقات كثيرة في أدوار كل من النساء والرجال في المجتمع، ويتعلق كذلك بتطلعات النساء، وبحقوق الإنسان العالمية.
رابعا: حقوق الإنسان كل لا يتجزأ ومن ضمنها الحقوق الثقافية والدينية. ولا بد من تقرير مسألة أساسية وهي حرية المرأة المسلمة أو غير المسلمة في أن تختار ما تشاء من مواقف.. تلك الحرية هي أصل في المواثيق الدولية وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي أصل في الدين إذ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وهي الحرية التي على أساسها يكون الجزاء الأخروي. كما أن حق الإنسان الثقافي صار يعتبر حقا أساسيا بتوصية تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الصادر في نوفمبر 1995م بعنوان "تنوعنا البشري الخلاق"، وبتقرير الإعلان العالمي للتنوع الثقافي الذي أصدرته اليونسكو. ففي نوفمبر 2001م ومباشرة عقب أحداث سبتمبر انعقدت الدورة 31 لمؤتمر عام اليونسكو حيث كان واضحا للمجتمعين الأسباب الثقافية للأحداث. خرجت تلك الدورة بالإعلان العالمي للتنوع الثقافي، مرفقا بخطوط أساسية لخطة العمل باعتباره ( أداة أساسية "لأنسنة العولمة") واحتوى الإعلان على 12 مادة تعالج التنوع الثقافي بوصفه تراثاً مشتركاً للإنسانية، وتضمن الانتقال من التنوع الثقافي إلى التعددية الثقافية، وتنظر للتنوع الثقافي بوصفه عاملا محركا للتنمية، ولحقوق الإنسان بوصفها ضمانا للتنوع الثقافي، وللحقوق الثقافية بوصفها إطاراً ملائماً للتنوع الثقافي، وتعمل من أجل تنوع ثقافي متاح للجميع، وغير ذلك.. وقد أكد مدير عام اليونسكو أن الإعلان أداة معيارية للأسرة الدولية لرفع "التنوع الثقافي إلى مستوى التراث المشترك للإنسانية" كما أكد الإعلان أن التنوع الثقافي "ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية"، اعتبرت اليونسكو بلسان مديرها العام أن الدفاع عن التنوع الثقافي "أمر أخلاقي أساسي، لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان".
خامسا: النظام التونسي البائد ما كان يستطيع الحديث عن مزاوجة واقع بواجب، فمن أوجب واجبات السلطة التشريعية التي تقوم بذلك أن تؤسس على الشورى (الديمقراطية بحكم الواقع اليوم)، وأية سلطة شمولية تقوم باجتهادات مهما ادعت الحديث باسم الدين وتكلم باسمها فقهاء فهم فقهاء سلطان وهي أحكام سلطانية لا تقدر أن تبلغ الشريعة ولا تستطيع ادعاء الحديث باسمها.. النظام التونسي البائد وإجراءاته السلطانية ليست ضربا من مزاوجة الواقع بالواجب بل ضرب من سوق الأمم قطعانا في مسيرة الفرعون المستبد.
سادسا: حقوق النساء وإنصافهن وتمكينهن في أي مجتمع لا يقاس بالإجراءات السلطانية، ولو قدر لمقياس حقوق النساء وتمكينهن أن يكون دقيقا فلا بد أن يشمل أيضا مقاييس اجتماعية وثقافية (وأحث القارئ الكريم للاطلاع على مقالة أستاذنا عبد الله علي إبراهيم: ما وراء حجاب أحاجي المرأة السودانية) ليدرك بعضا مما أشير إليه هنا.
سابعا: يعرف العالم متلازمة الحرب واضطهاد النساء إذ صار معروفا الآن في مضابط الأمم المتحدة أن المجتمعات الحربية هي مجتمعات تضطهد النساء، وهذه مسألة تم تتبعها تاريخيا ولنا فيها نظرات ليس هذا أوان تحديجها، كذلك أضاف بعض الدارسين متلازمة الفساد واضطهاد النساء أو العلاقة بين الثقافة الحاطة بالنساء أو اللا مساواة الثقافية وبين الفساد وهنا أيضا ليس أوان التحديج في ذلك. ولكننا نحب أن نضيف لهاتين المتلازمتين متلازمة القهر واضطهاد النساء (والحرب والفساد والقهر أخوة أولاد علات أبوهم واحد وأمهاتهم شتى)، وذلك حتى ولو ادعى القاهرون احترام النساء. السجل الحسن للديكتاتورية المايوية مثلا في تمثيل النساء وتبني قضاياهن دليل على أن تبني الحقوق شموليا لا يحدث الأثر الاجتماعي والثقافي المطلوب فيظل قشريا، كما أن الديكتاتورية تضيف للنساء أعباء مادية ونفسية وسياسية ضخمة وفي المحصلة تكون خصما عليهن بالمعاناة وبالتشريد والقتل والتعذيب لذويهن وأحيانا لهن. لذلك لم نستغرب أن النساء كن ضمن الثائرات على الاستبداد التونسي.. وفي الحقيقة إنه لو كانت تونس تحترم المرأة حقيقة لما كان ذلك محفزا للثورة بل لكان مثبطا لها. هنالك احتمالان في تفسير ربط ثروت لتقدمية وضع النساء بالثورة في تونس. الأول أن السيد ثروت يقصد أن بوعزيزي شرارة الثورة إنما فعل ذلك لأن الضابطة ميادة استفزت ذهنيته التقليدية فأشعل في نفسه النيران، وبالتالي علينا ألا نحلم بتكرار حادثة بوعزيزي في السودان من ناحية أن تندلع شرارة بسبب استياء أحدهم من وضع النساء المتقدم! لا أظن السيد ثروت قصد ذلك، ولا يمكن تخيل نقل (بالذبابة) أكثر من مثل ذلك الحلم لو راود عقل واحد أو واحدة منا! وهو بعد حلم أعرج لو كانت الأحلام تمشي! والثاني وهو الأقرب لمنطق مقال السيد ثروت أن المجتمع التونسي أكثر حضارة ورقيا من مجتمعنا ولذلك ثار. وهو نفس المنطق الذي رفض به بعض الكتاب احتمال الثورة المصرية وقد كذبهم الواقع، إن الثورة ليست مربوطة بدرجة التعليم والتحضر والرقي برأينا، ولكن بعوامل كثيرة أخرى ولولا ذلك لما ثرنا في أكتوبر يوم كان الأميون هم السواد الأعظم.
نقول من بعد: إن حق الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الذي يناسبهن حق إنساني ديني وثقافي أساسي. وهو هو المدنية بعينها.
كانت فرنسا إبان ضلالها المتجلي في الألفية الجديدة مع ازدياد كراهية الأجانب أثارت مسألة زي المسلمات باعتباره مضاد لقيم العلمانية (والمدنية)، وقامت باتخاذ إجراءات شبيهة للضلالين التونسي والتركي، ولكن المسلمات اللائي اضطهدن يومها لم يلقين التعاطف المطلوب عالميا ولم يتم اعتبار التعرض لحقوقهن مناف للمدنية. قال الدكتور شريف عبد العظيم الأستاذ في جامعة كوينز بكندا: "إن منظر رجال الشرطة الفرنسيين وهم يمنعون النساء المسلمات الصغيرات من دخول مدارسهن الثانوية لا ينسى، وهو يثير ذكريات منظر مشين مماثل حينما كان حاكم ألباما جورج والاس يقف أمام بوابة مدرسة ليمنع التلاميذ السود من الدخول في محاولة لمنع إيقاف الفصل العنصري في مدارس ألباما عام 1952م. والفرق بين المشهدين أن التلاميذ السود لاقوا تعاطفا كبيرا من كل أنحاء الولايات المتحدة والعالم حتى قام الرئيس كينيدي بإرسال الحرس الوطني لإدخال التلاميذ السود بالقوة، بينما البنات المسلمات في المقابل لا يتلقين مساعدة من أحد"!
أي اتجاه ليبرالي حقيقي في العالم أو في بلدان المسلمين لا بد أن يسمح للناس بممارسة حرياتهم الدينية وخصوصياتهم الثقافية إذا لم يكن ذلك يتعارض حقيقة مع سلامة المجتمع. لا أتصور أن يكون غطاء الجسم والرأس مساويا لاضطهاد النساء إذا كان طوعيا، إلا لو اعتبرنا تعريهن والتعامل معهن كجسد معروض للسابلة اضطهادا حتى لو كان طوعيا، ففي الحالتين يتم الانتباه لجسد المرأة كقيمة (بعضهم يريد حصرها والآخرون يريدونها متاحة للجميع) حيث يكون جسد النساء وأزيائهن مادة للإعلان واهتمام بيوت الأزياء يلبسن الضيق والعاري والمنفوش وزي الطاووس والكعب العالي والذي لا يناسب المناخ، ويضعن الأصباغ والحناء بالنقوش لإرضاء الأذواق الذكورية أو لخلق حالة الانجذاب المادي بينما الرجال في حل عن هذا وذاك يلبسون من الثياب العملي والمناسب للمناخ والأحذية المريحة والمتينة.
الاهتمام بجسد المرأة وبزينتها بشكل يقارب الهوس لا يأتي من داع فطري ولا وظيفي لحفظ النوع بالتكاثر كما يقول البعض، والدين الذي ينظم الفطرة يقول باهتمام الجنسين ببعضهما الآخر والرسول (ص) يقول: تصنعوا لنسائكم، ولكنه بسبب إلغاء وجود الأنثى خارج الجسد وبالتالي تهب النساء للوجود بذلك الشكل على حساب صحتهن ومالهن ووقتهن وغير ذلك. هوس التغطية المجنون الذي يتخيل فساد العالم لو ظهرت وجنة امرأة أو حاجبها، وهوس التعري المجنون الذي يقضي الوقت في التفكير كيف يظهر جسد امرأة بشكل مثير كلاهما مرض وهوس بالجسد الذي لا ينظر له الإله!
إن حالتي ستر جسد النساء احتشاما أو تعريه صيدا للإثارة ناجمتان كما قلنا من فكرة أو خاصية عالمية وربما إنسانية ولا أظننا نحلم بيوم لا يكون جسد المرأة فيه ذي قيمة للذكور وغاية ما نطمح إليه أن يراعى كذلك عقلها وروحها. وهنالك دول ليبرالية كثيرة في الدنيا تتيح غطاء الرأس والجسم لمن تريد كما تتيح التعري لمن تريد كما في الولايات المتحدة مثلا وفي بريطانيا. فرنسا (ولدرجة ما ألمانيا) لم (تعصلج) في رفض الاختمار إلا لأنها تحتوي على شمولية ثقافية تصر على الفرنسة وتفشل في استيعاب الحق في التنوع والتعايش. سياسة الاستيعاب الثقافي الفرنسية للآخرين شهيرة تاريخيا وهي التي أدت بردة الفعل لبعض المثقفين الأفارقة من الشعوب الفرانكفونية من قبل أن يطوروا حركة النجرتيود أو العزة الزنجية والانتماء للإفريقية بشكل عنصري متعصب. هذه مواقف مريضة!
أما تركيا فلم يدافع عنها الأستاذ ثروت باعتبارها تزاوج بين الواجب (الديني) والواقع (الدنيوي) ولا أظنه يفعل. فتركيا إنما لفظت كل ما هو ديني وإسلامي بيدي كمال أتاتورك أبو تركيا الحديثة وأستاذه ضياء غوك ألب، كاتجاه لنزع أي (واجب إسلامي) من دفاتر تركيا ولحاقها بالعصر واعتبار المكون الإسلامي سببا للتخلف في الدولة العثمانية. ومن الممتع ترقب تراجع تلك الفرنجة القسرية وما آلت وستؤول إليه في تركيا فقد شهدنا مؤخرا في بعض الفضائيات عروض أزياء في تركيا (للمحجبات) بالاصطلاح الخاطئ أي المحتشمات. فرض المجتمع التركي ما لفظته السلطة وتسرب الانتماء الإسلامي تحت الشعار العلماني عبر المسميات المختلفة. تجربة أكثر راديكالية حدثت من قبل في إيران الشاه التي كانت تفرض السفور ومن النوادر أن أحدهم –وكان من القيادات الدينية المحافظة- استأجر بائعة هوى لتظهر معه في حفل استقبال رسمي على أنها زوجته لكيلا يضطر لاصطحاب زوجته سافرة أمام جمع رجالي! والنهاية كانت الثورة الإيرانية التي في المقابل فرضت (الحجاب).. لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه!
هذا ليس مدنية ولا تقدم ولا مساواة، إنه تكبر وإذلال للشعوب والتسلط في خيارات الأشخاص الدينية وحقوقهم الثقافية.
إن من ضلال الديكتاتورية أنها تظن نفسها قيمة على سلوك الناس وبذا تصادر حرياتهم في التنقل والتعبير والاعتقاد والعقيدة ومن أضل ضلالها أن تقول للنساء: غطوا رؤوسكن أو اكشفوها! وهنا فإن النساء لا يكن سوى متاع يتزيين بما يوافق هوى الفرعون فإن كان هواه إسلاميا اختمرن بالقوة أو كان مزاجه غربيا لبسن البنطال ونزعن الخمار بالقوة! هذا ليس من المدنية في شيء. هذه الفكرة هي التي عبرت عنها المسيرة الرافضة لقرارات شيراك الفرنسي قبل سبع سنين والتي قادتها في شوارع باريس ثلاث نساء: إحداهن محجوبة بشكل كامل، والأخرى تلبس الخمار مع الزي الأوربي، والثالثة سافرة الرأس ترتدي البنطلون قلن فيها: اتركوا لنا الخيار!.
لقد خرجنا نتظاهر من قبل دفاعا عن حق الأستاذة لبنى أحمد حسين في لبس البنطلون تارة واستنكارا لجلد فتاة الشريط تارة أخرى، واعتقلنا جراء ذلك وقال بعض سفهاء القوم (خاصة البوم الناعق بانتباهة الخراب) أننا ضد شرع الله، ونعقت غربان بأكاذيب أننا ننادي بالسفور ونتخذه سلوكا خارج البلاد، وها نحن اليوم نجد أنفسنا ندافع عن التونسيات والتركيات وغيرهن ألا تصادر حقوقهن الدينية باسم المدنية أو القرن الحادي والعشرين ففي القرن الحادي والثلاثين نفسه لن نحلم بزي واحد ينتظم بين نساء الإكوادور وألمانيا والفلبين والسودان وبين رجال السعودية وكندا والرأس الأخضر وفنلندة والصين.. هي خيارات ثقافية مفتوحة للشعوب نساء ورجالا يأخذون فيها من الحاضر ومن التاريخ ومن البيئة ومن الثقافة والدين.
وختام قولنا إن الاستبداد حقا ملة واحدة، ومثلما آخت المنظمة الدولية بين المجتمعات الحربية واضطهاد النساء، وآخى الدارسون بين الفساد واضطهادهن، نؤاخي اليوم بين المجتمعات المستبدة وذلك الاضطهاد ونقول إن تونس مثلما السودان وكل المستبدين على الأرض مهما رفعوا من شعارات حقوق المرأة فإنهم يضطهدون النساء بمثلما يضطهدون الإنسان.
ونقول لحاملس شعار المدنية اليوم كما قالت فتيات باريس قبل سنوات سبع: اتركوا لنا الخيار!
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]