تعقيب علي مقالات”تشريح العقل الرعوي”
درجت العرب علي القول في النقد أو التقييم أو التقويم:" لا تنظر لمن قال ولكن أنظر الي ما قيل". ولكنني في حالة مقالات النور حمد سوف أخرج عن هذه القاعدة وأنظر للاثنين معا لمن قال ولما قيل. فالكاتب خلف ناجح من سلف صالح. فقد ترك الاستاذ محمود محمد طه اتباعا يعملون الفكر بجسارة في القضايا العامة شغوفين بالنقاش والحوار والجد ل واثارة القضايا الجديدة بلا وجل. فالنور في مقالاته يطرح ضمنيا وبطريقته سؤال النهضة الذي طرحه شكيب أرسلان منذ قرابة القرن وهو:لماذا تخلف السودانيونوتقدم غيرهم؟ وأفترض أن هنالك عقلا رعويا يكمن وراء كل هذا الفشل والخيبات. ولكنه بتبني هذا المفهوم يدخل في اشكالية سال حولها كثير من الحبر واحتدمت بسببها المسجالات الساخنة فمفهوم العقل ملغوم وغير دقيق في أي تحليل حضاري وتاريخي-اجتماعي لشعب معين. فالمفهوم ينوس بين الايديولوجيا والفلسفة وضعيف في مضمونه الاجتماعي أو الانثروبولجي. وقد تعرض محمد عابد الجابري لنقد عاصف عندما كتب عن تكوين العقل العربي ويالذات من قبل جورج طرابيشي. والخلل الأهم في اتخاذ المفهوم كأداة تحليلية يتمثل في كونه يأخذ دلالة الجوهر أوهو جوهراني أو ماهوي(نسبة للماهية وليس الوجود المتغير)فهو بالتالي ساكن و ثابت ولاتاريخي. وهذا ما يظهر في تحليل النور فالعقل الرعوي السوداني ثابت ويزيد لم يتأثر بتحولات الدول ونظم الحكم ولا بتغيرات أنماط الانتاج التي سادت في البلاد .فهو عقل عابر للزمن وللحقب التاريخية والمراحل. لذلك يفضل البعض مفهوم العقلية لوصف السمات العامة والمتكررة لدي شعب أو أمة أو جماعة. ولكن هو بدوره عليه مأخذ لأنه ظهر كمفهوم في سياق عنصري كما ورد في كتاب ليفي برويل" العقلية البدائية" ولكن العقلية متغيرة حسب الزمان والمكان خلافا لمفهوم العقل. وتميل العلوم الاجتماعية والنفسية لمفهوم الشخصية الأساسية وهو المفهوم الذي استخدمه باتاي الذي رجع اليه النور في مقالاته رغم أنه أعطي دراسته عنواق "العقل العربي" حسب الترجمة العربية.وتحدث في الكتاب عن "الأساس البدوي للشخصية العربية.كما كتب جمال حمدان عن" شخصية مصر" وتجنب مفهوم العقل المصري مثلا كذلك فعل حسين فوزي في كتابه"سندباد مصري".
حاول الجابري رائد مفهوم العقل أن يتخلص من مأزق هذا المفهوم الغامض وتعامل مع مفهوم ثقافة كمترادف للعقل معلنا رفضه لمفهوم "الفكر العربي" لأن هدفه ليس هو دراسة الأفكار في حد ذاتها ولكن البحث عن الأداة المنتجة لهذه االأفكار. ولكن في هذه الحالة يكون العقل الذي يقصده هو الذي قد تكون وتشكل داخل هذه الثقافة وفي الوقت ذاته يعمل هو نفسه علي انتاج الثقافة واعادة انتاجها ورغم الاعتراف باشكالية المفهوم فقد استمر في تبنيه والدفاع عنه ففي بحثه عن عقلانية تحكم العرب يصل الي فرضية تري أن التفكير في العقل وليس فقط التفكير بالعقل هي أرقي مستويات العقلانية. وقد اكتسب مفهوم العقل كجهاز مفاهيمي جاذبية خاصة ولذلك تبناه النور رغم المآخذ ولم يحاول التدقيق فيه ونقده فارتاح له وتبناه بثقة مطلقة في عملية تشريح أسباب التخلف السوداني كنت اتمنى حسب قناعات النور الدينية والصوفية التوقف عند تفاعل الدين الوافد مع العقل الرعوي خاصة وأن هذا الدين نفسه جاء من بيئة رعوية صحراوية. علما بأن الدين عند ظهوره دخل في صراع مع ثقافة ما نسميها بفترة الجاهلية وقد أضطر أحيانا أن يحاربها بنفس منطقها ووسائلها . سؤال:هل العقل العربي الرعوي السوداني سابق لتدفق المهاجرين العرب للسودان ولماذا لم تقاوم الممالك المسيحية المتحضرة الهجمة العربية بطريقة فعالة ومستمرة؟ ولابن خلدون قول مهم عن البدو:أنهم يقيمون الدول ويهدمون العمران.وهذا تفسير وجود دول بدوية بلا حضارات متميزة.
أما المفهوم الثاني الذي تكرر في المقالات فهو الحداثة والحداثية. وكان من المفترض أن نفرق بين عمليتي الحداثة والتحديث. فما حصل في السودان هو مجرد عملية تحديث لتسهيل الأداء الاستعماري. لأن التحديث هو مجرد ادخال وسائل ومؤسسات حديثة بطريقة نفعية وعملية.بينما الحداثة هي تغيير جذري في طرائق التفكير واساليب الحياة والسلوك من خلال رؤية جديدة للكونو الطبيعة والانسان والمجتمع. وهذا ما لم يحدث في السودان حتي اليوم فظل السودان محافظا وتقليديا رغم ادخال آخر منتجات التكنولوجيا وهذا ما قال فيه الشاعر نزار قباني: قشرة الحضارة والروح جاهلية. والذي حدث في السودان هو هيمنة فئة اجتماعية جديدة وليست حديثة دشنت ما يمكن تسميته مرحلةأو حقبة الافندوية (effendism) والتي تحالفت مع الطائقية والعشائرية والعسكر تاريا. ويفضل البعض مفهوم النخبة أو الصفوة أوهي حسب التحليل الماركس" البورجوازية الصغيرة والمعروفة بتذبذها مما يجعل من الممكن ان تتبني وتمارس كل خصائص العقل البدوي -المذكورة حسب تحليل النور -وهي واعية بصورة تكاد تكون غريزية بمصالحها .وهي فئة أنانية بامتياز وتمارس الصراعات والنزاعات القبلية بمسميات وأشكال مختلفة أهمها روح التنافسواحياناالحسد التي تصاحب الأفندي المحتمل من زمن السباق حول العشرة الأوائل في ترتيب امتحانات المدرسة الأولية حتى الشوق للاستوزار مرورا بصراع الترقيات والعلاوات وبعثات الخدمة المدنية.يضاف الي ذلك النفور من العمل والانتاج المتقن في مجال عمله وتخصصه فعلي سبيل المثال تضاعف عدد الجامعات وعدد حملة الألقاب العلمية العليا من دكتور وبروفسور ولكن ذلك لم ينعكس علي زيادة في الدوريات والكتب العلمية.ومن الجدير بالذكر أن السودان يعتبر صاحب نسبة عالية جدا عالميا في ابتعاث خريجي كليات الزراعة ولكن ظل القطاع الزراعي شديد التخلف وتقليدي وضعيف الانتاجية- لأن المبعوثين لم يطبقوا معرفتهم علي واقعهم. والافندي براقماتي لدرجة الانتهازية لأنه لا يريد أن يشغل نفسه بالأفكار والمبادئ المثالية بل يهتم فقط بالنتائج ومدى النجاح في العمل بغض النظر عن الوسائل والجهد وحسب هذا الفهم فالأفندي الأكبر في التاريخ السوداني الحديث هو حسن الترابي والذي وظف الدين أو التدين الشكلاني بنجاح مكنه من الاستيلاء علي السلطة وتكوين عصبة من الأفندية بالكاكي. في وقت قياسي واستطاعت الاحتفاظ بالسلطة رغم فشل سلطته الواضح.ويرحع انحسار التجارب اليسارية السودانية في كثير من جوانبه ألي انتشار تأثيرات الأفندوية.
لذلك, ماهو موجود في السودان ليس العقل الرعوي الخالص الذي حلل به النور التاريخ والواقع في السودان فالافندوية لديها قدرة خارقة في تساكن التقليدي مع الحديث وتجنب الصدام والتناقض. لذلك ساهت في تكريس بدونة الانسان السوداني ولم تكن مخلصة في محاربة القبلية ممثلة في الادارة الأهلية لأنها مفيدة لها في تقسيم الدوائر الانتخابية مما يحقق لها الاغلبية البرلمانية.وقد كان اليسار هو الاستثناء في محاربة الادارة الأهلية. ولكنه كان ضعيف النفوذ خارج المدن. والأهم من كل هذا في تكوين الأفندوية هوأن فائض القيمة ذهب ومازال يذهب لصالح هذه الفئة بداء من التعليم المجاني الذي جعل من افندي مثل الحاج آدم يصير تائبا لرئيس المهورية ثم يعيرنا يأننا قبل الانقاذ لم نكن نملك غير قيمص واحد الاضافة للداخليات الت كانت تصرف لنا البطانيات وصابونة الغسيل(حبوبة فاطنة)ثم المرتبات والعلاوات والبعثات وقروض البنوك لتشيييد غابات الاسمنت في قلب العاصمة. والأخطر هو أن الأفندية ظلوا مخزون ايديولوجيا وسياسيا لكل النظم التي مرت بابللاد من طائفية واشتراكية واسلاموية وعشوائية.
لقد انصب تعقيبي علي مراجعة المفاهيم ولم أتعرض للتفاصيل والمقارنات والقياسات التي أوردها النور باعتيار أن المفاهيم هي التي تحدد شكل ومضمون أي تحليل.وللروائي ماركيز وصفا لمجتمعات أمريكا اللاتينية يشابه تكوين وتطور السودان حين يقول:
"نحن قارة خلقت من نفايات العالم أجمع يلا لحظة حب أبناء الاختطاف والتعذيب والخداع.قارة الأعداء ضد الأعداء. تعني كلمة هجين تعني مزج الدموع بالدم المهراق. وماذا يمكن أن ينتظرمن مثل هذا الشراب الحنظل. وأعتقد أن السودان الهجين وفاقد الدولة المركزية كان لابد أن يكون السودان مجتمعا راكدا ليثير في النور سؤال النهضة بحدة مكررا سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر السودانيون وتقدم غيرهم فركن للمفهوم السرمدي أي العقل الرعوي.السودان منذ الاستقلال- في حالة حرب ولا حرب وحالة سلم ولا سلم بسبب الافندوية المترددة والأنانية التي استولت علي السلطة في البلاد . لذلك بحثنا عن أسباب التخلف يجب أن يتجه مباشرة للواقع الاجتماعي -التاريخي وليس للعقل المفهوم التجريدي الميتا فيزيقي.
hayder.ibrahim.ali@gmail.com