تفكيك التمكين والقطيعة مع دولة الارادة الالهية

 


 

طاهر عمر
14 January, 2023

 

العالم من حولنا تعصف به الزوابع. ها هي ديناميكية النيوليبرالية تطوي آخر أشعة غروبها في زمن وصفه علماء الاجتماع بأنه لحظة ديمقراطية ضد الديمقراطية كما يقول مارسيل غوشيه. الحرب الروسية الاكرانية تجعل اوروبا الغربية في حالة تشبه لحظة أزمة الطاقة عام 1973 و بعدها قد وضحت ملامح نهاية الكينزية كديناميكية و قد حلت محلها النيوليبرالية.
أود أن ألفت إنتباه القارئ لملاحظة مهمة و هي أن الكينزية كديناميكية قد تبدت ملامحها عام 1934 و قد وصلت لمنتهاها في عام 1974 و بعدها سار العالم بأكمله متدحرج الى لحظة بزوغ أشعة النيوليبرالية بانتخاب تاتشر و ريغان. كانت الكينزية تسير في بتفسير حقول الاقتصاد و الاجتماع و قد حققت البشرية عبرها أجمل حقبة أعقبت الحرب العالمية الثانية.
على مدى أربعة عقود كان سير خط الكينزية و كذلك على مدى أربعة عقود كان سير خط النيوليبرالية أي من 1979 الى لحظة الأزمة الاقتصادية عام 2009 لاحظ كل من الكينزية و النيوليبرالية قد قطعت مسافة أربعة عقود و توقفت كديناميكية.
و عليك أن تلاحظ أيها القارئ المحترم أن هناك فترة زمنية أعقبت الكينزية بعد أن توقفت و لكن كان العالم متدحرج بقوته الذاتية بدون ديناميكية لمدة عقد من الزمن و كذلك الآن أن النيوليبرالية قد توقفت نهائيا عن السير و العالم بأكمله ينتظر ميلاد ديناميكية جديدة تحل محل النيوليبرالية.
الشعوب المتحضرة بفاعلية روح مراكز بحوثها تعرف أنها تسير نحو ديناميكية الحماية الاقتصادية التي سوف تحل محل النيوليبرالية. و هناك من الفلاسفة و الاقتصاديين و علماء الاجتماع قد تحدثوا عن ديناميكية الحماية الاقتصادية و هي أيضا من صميم الفكر الليبرالي لدارسي أدب النظريات الاقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي.
في ديناميكية الحماية الاقتصادية سوف تنطوي كل أمة على نفسها لكي تعيد صناعاتها الوطنية التي دمرتها النيوليبرالية بفكرة العولمة لكي تعيد إزدهارها الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية و فيه قد تحققت فكرة الحد الادنى للدخل أي فكرة الضمان الاجتماعي و مسؤولية المجتمع نحو الفرد حيث يتمتع الفرد بحد أدنى للدخل يحفظ له كرامته كانسان.
في حقبة الحماية الاقتصادية سوف يكون هناك ضبط قوي لحركة رؤوس الأموال و السلع مع إمكانية التجارب الصناعية و خبرة الدولة الصناعية لحيز دول العالم الثالث مقابل أخذ ما تحتاجه الدولة المتقدمة من مواد خام توجد في دول العالم الثالث.
و هنا نحتاج لريادات وطنية متكافئة في مستوى الوعي مع مثقفي العالم المتحضر حتى تستطيع ضبط العلاقة بشكل جيد و أقول للنخب السودانية هذه فرصة لنقل تجارب الدول الصناعية أي إمكانية التحول من دولة تقليدية الى دولة حديثة أي بنقل تجربة الغرب الصناعية و هذا سبيلنا الوحيد للخروج من حيز المجتمعات التقليدية.
فشلت مصر في التحول لدولة صناعية و هذا سر إختناقاتها الاقتصادية و قد قالها ذات يوم الاقتصادي المصري جلال أمين في كتابه ماذا حدث للمصريين؟ لأن السودان له موارد اقتصادية هائلة و يستطيع أن يتفادى خيبات مصر في عجزها أن تكون دولة صناعية.
على النخب السودانية أن تنتبه للفرصة الحالية المتاحة أي أن أفريقيا لأول مرة يريد العالم المتقدم إدخالها الى الطلب العالمي و تكون جزء من مناشط الاقتصاد و عليه يجب على النخب السودانية أن تستفيد من لحظة تحول العالم من ديناميكية النيوليبرالية الى ديناميكية جديدة و هي الحماية الاقتصادية.
و عبرها يمكننا نقل التجارب الصناعية للغرب في مبادلة واعية من نخب واعية بمواردنا الاقتصادية و بعدها سوف يكون السودان جزء من الاقتصاد العالمي يتأثر به و يؤثر و هذا ما عجزت مصر أن تكونه لأنها ليست لها موارد كالسودان تستطيع عبرها التحكم في نقل تجارب الدول الصناعية. و لهذا لا تريد مصر إستقرار سياسي يؤدي لتحول ديمقراطي لأنه عبر التحول الديمقراطية نكون قد سلكنا أقصر الطرق للخروج من حيز المجتمعات التقليدية سيرا نحو مفهوم الدولة الحديثة.
تريدنا مصر أن نكون تحت شمولية و بربرية الحركة الاسلامية حتى تستفيد مصر من مواردنا لكي تعبر من حيز المجتمع التقليدي الى حيز مجتمع حديث و هيهات. على النخب السودانية أن تنتبه الى مفصلية اللحظة و أقصد التحول من النيوليبرالية الى الحماية الاقتصادية و هذا تسهل ملاحظته مثلا خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي لكي تنطوي على نفسها و تعيد أمجاد صناعاتها من جديد حيث يصعب ذلك و هي في حيز الاتحاد الأوروبي إنتخاب ترامب و محاولة إحياءه الصناعات الوطنية.
و هذا يتطلب من النخب السودانية أن تتغير و تنعتق من فكرها القديم فكر دولة الإرادة الإلهية و نجده في حيز أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب الطائفية حزب الأمة و حزب الميرغني و السلفيين و الكيزان و لا يختلف عنهم الجذريين السودانيين عندما فشلوا أن يأتوا من الغرب بماركسية كماركسية أحزاب الغرب الماركسية و هي تؤمن بفكرة نمط الإنتاج الرأسمالي.
إنعتاق النخب السودانية من فكرة الدولة الإلهية و فكرة الخضوع و الخنوع للمرشد و الامام و مولانا و الاستاذ عند الشيوعيين تحتاج لخلق علاقة جديدة تربط بين السياسي السوداني من جهة و الفلاسفة و الاقتصاديين و علماء الاجتماع من جهة أخرى و عبرها ينتج أدب و فكر سياسي جديد نتاج مراكز بحوث كما نجده في علاقة المفكريين بالسياسيين في المجتمعات الحية أي المجتمعات المتحضرة.
و دليلنا عليه علاقة ديغول بأندرية مالرو و ريموند أرون و علاقة فرانسوا ميتران بالمفكريين حتى وصل كاشتراكي الى إيمانه بالكينزية و قد أدخل و طبق فكرة الحد الادنى للدخل في فرنسا و قد أصبح في حيز الخالديين. اذا كانت هناك علاقة بين المفكريين السودانيين و السياسيين كما في الدول المتقدمة لما حدث أفشل إنقلاب يقوده البرهان.
و غياب العلاقة بين السياسي السوداني و المفكريين و علماء الاجتماع و الاقتصاديين أدت لوصول نخب فاشلة فشلت في توضيح فكرة أن الثورات الكبرى كثورة ديسمبر تلحقها تشريعات كبرى تزيل ما تركته الانقاذ من ركام يسمى تجاوزا جهاز قضائي و سلطة قضائية.
و ضربنا مثلا من قبل كيف أحاط الرئيس الأمريكي روزفلت نفسه بمشرعيين في حقبة الكساد الاقتصادي العظيم و عبر بشعبه أحرج حقبة و قد كانت تشريعاته ضد طبقته و لكنه لم يتردد في إنقاذ شعبه و هنا يمكننا أن نفهم قول الدكتور منصور خالد أي تكاثر الزعازع و تناقص الأوتاد روزفلت و ديغول و ميتران كانوا أوتاد في زمن عصفت بمجتمعاتهم الزعازع.
و من هنا أرفع نداء لعلماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة أن تكون لهم علاقة بالسياسي السوداني الذي فشل أن يحدد اللحظات المفصلية في حياة الشعوب و كيف تكون هناك لحظات إنقلاب زمان يحتاج للفلاسفة و الحكماء و الأنبياء لكي يعبروا بشعوبهم.
و هذا يتطلب من علماء الاجتماع و الاقتصاديين السودانيين و المفكريين غير التقليديين و المؤرخيين غير التقليديين أن يفتحوا أبواب الفكر السوداني على عوالم غير مطروقة و هي فكرة القطيعة مع التراث السوداني القريب منه قبل البعيد.
و فتح نوافذ بسعة حلم الشعب السوداني الذي أوحى للنخب و عليها أن تنزل نصوص وحيه و هي حرية سلام و عدالة و لا يكون ذلك بذاكرة نخب سودانية فشلت منذ أيام أندية الخريجيين و حقبة مؤتمر الخريجيين و انهياره و تسابقهم على أحزاب اللجؤ الى الغيب بقيادات طائفية أو جلبهم لماركسية متخلفة عن ماركسية الغرب التي تؤمن بنمط الانتاج الرأسمالي.
و عليه دعوتنا لعلماء الاجتماع و الاقتصاديين و المفكريين السودانيين غير التقليديين مساعدة السياسي السوداني في إنجاز ما أوحاه لكم الشعب السوداني لأن الشعب هو الذي يقوم بالتغيير و ليس النخب و هذا أول درس فهمه السياسي السوداني الفاشل بعد ثورة ديسمبر المجيدة و شعارها حرية سلام و عدالة. و أول خطوات علاقة المفكريين و علماء الاجتماع و الاقتصاديين بالسياسي السوداني يجب أن تكون في كيفية ظهور ملامح الدولة و فك قبضة الكيزان من مفاصلها و لا يكون ذلك بغير تفكيك التمكين.
و تفكيك التمكين يتيح فرصة ظهور ملامح الدولة و بعدها يمكننا أن نقول أن الدولة كمفهموم حديث قد أطلت بوجهها و لا يكون ذلك بغير حل الجهاز القضائي الكيزاني و إبعاد الكيزان من البنك المركزي بنك البنوك و إبعاد الكيزان من وزارة المالية و الاقتصاد و إبعاد الكيزان من وزارة الخارجية حيث أصبحت عش دبابير كيزاني.
إخضاع ديوان الزكاة للمالية و ابعاد الكيزان من دهاليزه لأن محاربة الفقر في المجتمعات الحديثة ليس عبر ديوان الزكاة بل بتأسيس دولة حديثة تعرف نخبها كيف تخلق الثروة و كيف تقدم فلسفة لإعادة توزيعها و هذا هو البعد الفلسفي الذي لم يفهمه الكيزان.
و لهذا قلنا نحتاج لقطيعة مع التراث الذي يتسلل عبره الكيزان. و القطيعة مع التراث تحتاج لفلاسفة و علماء اجتماع و اقتصاديين متسلحيين بفكرة صيرورة الديمقراطية و هي قد أصبحت بديلا للفكر الديني.
و هنا نقول لأتباع حزب الامة و حزب الميرغني تتطلب منكم المرحلة الجديدة الشجاعة التي يسبقها الرأي في فك إرتباط أحزابكم بفكر دولة الإرادة الألهية و هذا يجعلكم في حوجة لخلق علاقة جديدة ما بين السياسي السوداني و المفكريين و الفلاسفة و الاقتصاديين و المؤرخيين غير التقليديين و من هنا تبداء مسيرة إنعتاقكم من نير المرشد و الامام و مولانا و الاستاذ الشيوعي.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء