تفكيك مقولة (الفصل بين الدين والدولة): للكشف عما وراء هذه العبارة من دواهي

 


 

 

 

 

5 أبريل 2021م
لعل مما ييسر فهم معضلة (فصل الدين عن الدولة) القيام بتفكيك المباني أو المصطلحات، وحتى الكلمات العادية، إلى عناصرها الرئيسة، لتسهيل الدلالة على المعاني المقصودة. لنبدأ بهذه العبارة الأكثر رواجاً في المنابر المختلفة هذه الأيام، وهي عبارة (فصل الدين عن الدولة) ولنأخذ الكلمتين المفتاحيتين في تركيب هذه الجملة: الدين، والدولة.
(الدين) له معان عديدة، وتشمل هذه المعاني، من حيث اللغة، الإسلام وغير الإسلام. لكن لأغراض هذه الأطروحة، فالحديث يكون حصرياً عن الإسلام، لكونه هو الدين الأهم في السودان، من حيث اعتناقه من قبل الأغلبية العظمي لشعب السودان. ومعلوم أن (الدين) في تكوين الإنسان هو الأهم من غيره من القيم والموجهات الأخلاقية والسلوكية.
فإذا كان الدين المقصود هو (الإسلام) للأسباب المذكورة، وبعيدا عن الأسباب الاعتقادية الخاصة بالمسلمين مثل (إن الدين عند الله الإسلام)، إلا أن حقيقة تعلق (معظم) السودانيين بدين الإسلام يجعله هو الدين الأهم لأغراض البحث أو الحديث عن الديانة والتدين في السودان.
ووفقاً لما تقدم يمكن إعادة صياغة هذه الجملة لتصبح معبرة عن (الواقع) المحلي الخاص بالسودان هكذا: فصل الإسلام عن الدولة.
أما كلمة (الدولة)، ففي سياقنا المحلي هي دولة السودان. ولأن (الدولة) كيان جامد، لا يعبر بذاته، فيكون الحديث عمّن يمثل هذه الدولة، أي سلطات الدولة، وهي سلطات ثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية. وتتمتع كل من هذه السلطات بمميزات خاصة بها تضمن الفصل بين ثلاثتها، وتضمن قدراً من الاستقلالية لكل منها، وتضمن التضابط (checks & balances) المانع للتغول بين سلطة وأخرى.
ومع ذلك فإن من بين هذه السلطات الثلاث، اثنتان تلتزمان بتطبيق القواعد الحاكمة للسلوك العام في البلاد (القوانين)، وواحدة مهمتها، بجانب الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، هي سن هذه القوانين وتشريعها، لضبط السلوك العام للمواطنين. وهذه السلطة الأخيرة هي المسماة بالسلطة التشريعية، فيصلح أن تمثل (الدولة)، لأنها هي السلطة الأعلى بحكم قدرتها على التشريع الحاكم، وسن القوانين التي تضبط السلوك. هذا، فضلا عن أنها في الأحوال العادية والطبيعية، تكون سلطة منتخبة من أفراد أو نواب يمثلون في جماعهم كل الشعب السوداني. وهذا التمثيل لإرادة الشعب هو الدور الأخطر في أي دولة، لأنه يمثل (الفعل) العام، والإرادة العامة، والضمير الناطق في الدولة. ومهما ساهمت السلطتان الأخريتان في العملية الكلية للتشريع، سواء بتقديم مشروعات القوانين (كما تفعل السلطة التنفيذية)، أو بتطوير القوانين عبر تفسيرها لملء الفراغات التشريعية (كما تفعل السلطة القضائية)، إلا أن السلطة التشريعية تظل هي النبع الرئيس الذي يوجه جميع السلطات والأجهزة والكيانات العامة، فضلاً عن التحكم في سلوك الأفراد والجماعات في الدوائر الخاصة من خلال كتاب التشريع.
وبذا تكون العبارة هي (فصل الإسلام عن السلطة التشريعية).
ولنذهب خطوة أخرى بحثاً عن (الكيفية) التي يمكن بها التعبير (عملياً) عن (الفصل) الوارد في العبارة. وبكلمات أخرى: (كيف) يتم هذا (الفصل) بين الإسلام والسلطة التشريعية؟ وما هي الصلة أصلاً بين الإسلام والسلطة التشريعية؟
لا شك أن لكل فكر إجابته، ولكل مجيب دوافعه، لكننا نمضي لنبحث في أعمال السلطة التشريعية، وصولاً إلى ما يمكن – موضوعياً – أن يلتبس أو يرتبط بالدين الإسلامي، مما قد يطرأ معه التفكير في فصل الإسلام عن السلطة التشريعية.
المعلوم في الدول، قبل قيام السلطة التشريعية بعملها، أن يتم وضع الدستور، عبر القنوات المعروفة، ولنقل جمعية تأسيسية، تعين على الجوانب الفنية القانونية لصياغة الدساتير، استلهاماً من ثوابت الشعب الجامعة وثقافته وهويته وتاريخه وتطلعاته، وضرورات نهضته، ومن ثم عرض الدستور للاستفتاء الشعبي العام، حتى يكتسب بذلك الشرعية العامة في البلاد، ويكون هو النص الأعلى الذي يحكم أعمال السلطة التشريعية نفسها، وأعمال السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وماعوناً للحريات والحقوق والواجبات الوطنية لأفراد الشعب.
وفي هذه البيئة الدستورية تعمل السلطات الثلاث، ومن بينها السلطة التشريعية، الممثلة للدولة عبر وظيفتها التشريعية، وعبر تكوينها التمثيلي لكل الشعب. فكيف تعمل هذه السلطة؟ وكيف تؤدي دورها في صناعة القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والأجهزة والكيانات كافة في البلاد؟
تمارس السلطة التشريعية سلطتي التشريع والرقابة، وتمارس الثانية (الرقابة) من خلال الأسئلة والاستجوابات لممثلي السلطة التنفيذية، بل وتسحب الثقة ممن استحق ذلك منهم، بمن فيهم رئيس السلطة التنفيذية. أما سلطة التشريع، فتكون بإجازة القوانين، سواء كان ذلك أصالة من داخل المجلس التشريعي، بمبادرة من إحدى اللجان، أو من فرد أو أكثر من أعضاء المجلس، أو كان ذلك بمشروع تقدمت به السلطة التنفيذية أو أي وزارة من وزاراتها.
حتى هذه اللحظة لم تجد (الإسلام) جزءاً من هذه العملية، لا في شكلها الاجرائي، ولا في دور الأجهزة والسلطات. فأين هذا الإسلام بالنسبة للسلطة التشريعية؟
أما إذا قصد المنادون بـ (الفصل بين الدين والدولة) أمراً آخر، مثل منع التشريعات المستمدة من هدي الإسلام وتعاليمه، فهذا لن يتاح لهم في مثل هذا البلد المسلم، خاصة وأن التشريعات لا يشترط لها أي مصدر بعينه، بل يمارس المجلس التشريعي حريته في البحث عن مصلحة الشعب، والتعبير عن تلك المصلحة، وعن رغبات الشعب وتطلعاته، بغض النظر عن مصدر التشريع.
هل يريد هؤلاء الدخول في صدور المشرعين لمنعهم من اقتراح أي قانون أو أي مادة في القانون مصدرها تعاليم الإسلام؟ هل يريدون بذلك منع (كل) هذه التعاليم، أم أنهم يريدون منع (بعض) تعاليم الإسلام وترك بعضها؟ أليس في الحالين ثمة تحكم في (الحرية) الأصلية للنائب البرلماني، ومن ثم حرية الشعب بكامله من خلال عضوية نوابه؟
إذا كان ذلك هو القصد، كلياً أو جزئياً، فهذا يعني تكبيل الضمير النيابي تحت قبة البرلمان، ويعني ذبح شعار الحرية في محراب الأيديولوجيا العلمانية، أو دين العلمانية، فهي أيضاً دين عند أصحابه، إلى درجة المطالبة بإقصاء الدين عن الدولة من أجله، كما شهدنا، وإلى درجة الاستعداد للنضال المسلح من أجله، كما سمعنا، وكيف يكون الدين غير هذا وذاك؟
أما إذا كان المقصود غير ذلك، ونأمل أن نكون مخطئين في الافتراض المتقدم، فنحن مطمئنون إلى سلامة الضمير العام لشعب السودان، وأنه يعرف أين تكون مصلحة الشعب، وأين تكون خياراته، ورغباته وتطلعاته، وسوف يعبر نواب الشعب عن كل ذلك متى ما كان اختيارهم عبر انتخابات حرة ونزيهة، وهو ما يتحقق إلا بعد انتهاء الفترة الانتقالية الراهنة، طالت أم قصرت، لغياب المشروعية اللازمة حالياً لأي أطروحة من شأنها أن تمس بؤرة الخيار الشعبي في تفاصيل الحياة العامة.

kingobeidah@gmail.com

 

آراء