تلك الأيام في سجون نميري (12) … بقلم: صدقي كبلو
14 June, 2009
ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
الاعتقال الرابع يناير 1977 - مايو 1978
عندما أغلقت الجامعة في سبنمبر 1975 عقب إنقلاب حسن حسين، عدت للمنزل وبدأت حياة عادية، كما سلف أن فصلت في الفصل السابق، ولكن شيئا مختلف حدث على المستوى الحزبي فقد جاءني في المنزل الصديق عبد الرحمن يحي الخليفة عبدالله، وكنت أعرفه جيدا من أيام الجامعة فقد سكنا معا لمدة عام كامل وكان هو في السنة الثالثة آداب وأنا في الثانية إقتصاد، وكان هو يدرس الفلسفة والعلوم السياسية وكان المسؤول السياسي لفرع الجامعة في عام 1968/1969، كما ألتقيته بالمعتقل عندما عدت من شالا لكوبر، وكان قد أعتقل، هو والمرحوم عبد العظيم حسنين والشيخ عووضة وكمال يوسف الشايقي. وقد أطلق سراحنا معا بعد تصفية المعتقل في مايو 1973 بعد صدور دستور نميري المسمى دائما. ورغم أننا كنا نلتقي في المناسبات والأماكن العامة ولكنه بالنسبة لي كان ضمن صنف "من تريده وتشتهيه" ولكن ظروف التأمين تمنع اللقاء الدائم. لهذا كانت زيارته لي موضوعا للدهشة، وعرفت أن الحزب وراءها، و بعد السلام والمطايبات دخل مباشرة في الموضوع وقال لي أنني مرشح لعضوية لجنة مدينة أم درمان، وسألني إن كان لدي مانعا، فأجبت بالنفي، فطلب أن أكتب طلبا للتوصيل وتقديم نبذة عن نشاطي بالحزب، وحدد مواعيد لإستلامها. ولم تمض أسابيع حتى كنت أحضر إجتماعا للجنة المدينة، وبالطبع لن أذكر أسماء اللجنة، ووضح لي من البداية الوضع السئ في مدينة أم درمان وأن المهمة الأساسيبة لنا هي إعادة تجميع الفروع وقيام مدرسة حزبية نبدأ بإعداد كوادر التدريس بها، فتوزعنا المهام والتكاليف وبدأنا عملنا. وفي خلال عام بدأت نهضة حقيقية بمدينة أم درمان، أعدنا بناء فروع مثل الموردة، الفتيحاب، العمدة، الملازمين وحي الإسبتالية، وبيت المال، وكانت هناك فروع بالبوستة، أم بدة وأبوروف، فأصبح عدد الفروع 9 بعد أن كانت ثلاثة، وأستقرت إجتماعات المدينة وفروعها التسع وكانت تدفع الإشتراكات وتستلم وتوزع المطبوعات والميدان وبعض الفروع لها قراء منتظمين في حلقات، كما أنشأنا مدرسة حزبية أخترنا لها كادرا لإعداده كمعلمين.
وقد قدمت لنا أسر كثيرة عونا سواء في منازل الإجتماعات أو في توصيل الزملاء المختفين من قيادة الحزب الذين حضروا إجتماعات المدينة، وكان المرحوم خضر نصر يحضر معظم إجتماعاتنا مندوبا من المديرية، وكنت قد تعرفت على خضر نصر بالصدفة بالمحطة الوسطى بالخرطوم عم 1971 وكان هو قد جاء من رحلة لبلغاريا (أظنها علاجية) وكنت أسير في صحبة المرحوم عبدالله محمد إبراهيم المحسي، وفجأة وجدت محسي يعانق شخصا عناقا حارا وقدمه لي "حضر نصر عضو اللجنة المركزية ومن عطبرة".
كان خضر شخصية منظمة ودقيقة في المواعيد، ورغم أننا تنازعنا معه كثيرا بإعتباره ممثلا للمديرية ونحن في المدينة كنا نعتقد أن المديرية تنتهج خطا لن يساعد على بناء الحزب ولا الحركة الجماهيرية، لأنها فصلت بين المهمتين وكانوا يقولون لنا الأولية لبناء الحزب، وكنا نقول: البناء يتم وسط الجماهير وتحت حمايتها ورعايتها وأننا نؤمن الحزب من الأمن والسلطة بواسطة الجماهير وقد دفع زميلنا إبراهيم حامد حمدوك السكرتير التنظيمي للمدينة ثمنا عاليا لهذه الأفكار، وقد أتهم المرحوم خضر نصر بأنه كان يحرضنا وذلك ليس صحيحا بل هو كان يدافع عن رأي المديرية التي يمثلها، ونحن لا ندري ماذا كان يقول في المديرية، ولربما كان يدافع عن وجهة نظرنا وذلك حق من حقوقه، ولكن للحقيقة والتاريخ فهو لم يتكتل معنا ولم يغذينا بأي أفكار معادية للمديرية.
"وأذكر ونحن في سكرتارية أمدرمان وكنت سكرتير المدينة أن جاءني الراحل الرفيق إبراهيم حامد حمدوك وكان سكرتيرا تنظيميا للمديرية، وقال أن الراحل الزميل الجزولي أتصل به عن طريق أحد الرفاق وطلب مقابلتنا ولكنه لم يجدني وذهب، فأعطاه الزميل الجزولي عددا من المنظم، كان يحتوي على نتائج التحقيق مع الزميل خضر في الحادثة التي تسببت في ضربة جابر وخضر وكشف عدد كبير من الكوادر، وعندما أحتج إبراهيم أن طريقة الزميل الجزولي غير تنظيمية فنحن لدينا صلتنا بالمديرية، قال له الجزولي أن صلتكم يحاول عزلتكم وهو رفض توزيع المنظم.
ونحن بالمعتقل سمعنا بقرار إعفاء الرفيق خضر نصر من عضوية اللجنة المركزية وإعفاءه من التفرغ، ثم سمعنا عن ذهابه للأمن وتسليمه لنفسه، وكيف أن جهاز الأمن حاول الضغط عليه ولكنه رفض، فنقل للسجن حيث مكث فترة بسيطة بالزنازين ثم أطلق سراحه وأعتكف بعد إطلاق سراحه في منزل في السجانة أو الديم لا أذكر، وأمتنع عن العلاج ومقابلة الناس، ووجد ميتا بعد عدة أيام من وفاته."
وأثناء عملنا في سكرتارية أم درمان، بلغنا بأن هناك طواف من المركز لتقديم وثيقة يونيو 1975 للجان المدن والمناطق، وقرأنا الوثيقة إستعدادا للمناقشة، وذهبنا للمكان المعد، وكانت المفاجأة أن الدراسة سيقدمها السكرتير العام، الرفيق محمد إبراهيم نقد، وكنت آخر مرة إلتقيته فيها عصر يوم 22 يوليو 1972 أثناء الإنقلاب المضاد ل 19 يوليو. ولم ألتقيه بعد ذلك إلا في عام 1984 عندما أصبحت عضوا باللجنة الإقتصادية التابعة للجنة المركزية.
دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 "قضايا ومشاكل العمل القيادي"
تمثل وثيقة دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 حول قضايا ومشاكل العمل القيادي أحد أهم الوثائق الحزبية وفي تقديري هي في أهميتها تماثل وثيقة "إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير" والتي كتبها الأستاذ عبد الخالق وصدرت أيام حكم عبود وأصبحت جزءأ من كورس المرشحين والتعليم الحزبي.
كانت وثيقة يونيو تطرح قضايا عديدة ولكن ثمة قضيتين علقتا بذهني منها: الأولى أن فرع الحزب هو ممثل الحزب في مجاله وبالتالي لا بد أن ينتزع زمام المبادرة في رسم خطه في مجاله وفقا لخط الحزب العام ويخلق صلة مباشرة مع جماهيره ويخاطبها في كل القضايا ولا يعتمد فقط على البيانات الجماهيرية الصادرة من المركز او ينتظر التوجيهات من المركز. أما القضية الثانية فهي كيف يضطر الشيوعيون في ظروف العمل السري للتراجع وإستعمال أدوات عمل قديمة تخطاه الزمن بإعتبارها الأدوات الوحيدة المتاحة أو الأدوات المناسبة لظروف التراجع. وقد علق نقد في تقديمه مقترحا ألا تنتظر مدينة أم درمان مثلا أن يكون لها ماكينة رونيو فيمكنها أن تصدر منشوراتها بإستعمال الدرداقة. وسألنا نقد وكيف نغتني الدرداقة فألتفت نقد للمرحوم خضر نصر أن ترسل لنا المديرية زميل قديم يعلمنا كيف نعمل درداقة وكيف نستعملها.وأنا أقرأ تلك الدورة الآن بعد 31 عاما منذ كتابتها أجد أن اللجنة المركزية قد صاغت بشكل صحيح مشاكل العمل القيادي وأن صياغتها تلك تتعدى الفترة الزمنية لتصبح أساسا لمعالجة تلك القضايا رغم ضرورة مراعاة ضرورات المتغيرات الزمنية.
لقد أوضحت اللجنة المركزية أن قضايا ومشاكل العمل القيادي لا تعالج وتحل بمعزل عن تكتيكات الحزب“ و”لا تعالج ولا تحل بمعزل عن واجبات العمل اليومي لفرع الحزب والحالة السياسية والجماهيرية المعينة التي يعيشها“ و”أن العمل القيادي كل لا يتجزأ لأنه في فهم الطبقة العاملة وفكرها الماركسي، يتناول الحزب بأسره، بكل حلقات كادره في مختلف المستويات والمسؤوليات والتخصصات، لا ينحصر في مجموعة بعينها، ولا يستهدف خلق صفوة قيادية مميزة“ وأن تأهيل فرع الحزب يأتي في قلب معالجة قضايا العمل القيادي فتقول: ”وليس من باب الصدفة أن أصبحت الصيغة السائدة في حزبنا حول قضايا ومشاكل العمل القيادي هي صيغة: تأهيل فرع الحزب – كمقياس في حزبنا لنجاح اللجنة المركزية وحلقات الكادر في معالجة العمل القيادي في هذه الفترة أوتلك.“ ذلك أن صياغة اللجنة المركزية وتحليلها للوضع السياسي وتحديدها البديل، القيادة، الأداة ”يبقى عموميات نظرية مجردة، ما لم يمسك فرع الحزب، ويحوله ويصيغه بوعي في برنامج وخطة نشاط في مجاله المعين، هذه العملية طويلة ومعقدة وهي محتوى العمل القيادي، ومنها تتفرغ مشاكله وقضاياه في الفترة الحالية“
وقد ناقشت اللجنة المركزية في تلك الدورة الوضع في الجنوب والمتغيرات في الريف والقطاع التقليدي وقد توصلت إلى إستنتاج ما زالت صحته تثبتها الأحداث الجارية في البلاد:
إن تدرك القوى الثورية في المدن انه مهما علا شأنها، ووجدت من الدعم النشط من المزارعين في القطاع الحديث، لن تكتمل مسيرتها نحو النصر في الثورة الاجتماعية الديمقراطية إلا بمشاركة نشطة وثورية من جماهير القطاع التقليدي - حيث أغلبية سكان السودان، أي لا يكفي التأييد والتعاطف كما كان الحال في ثورة أكتوبر. إن السلطة الوطنية الديمقراطية مهما توفرت لها مقومات الذكاء ووضوح الرؤية والقدرات القيادية الفذة، لا تستطيع إنجاز الإصلاح الزراعي والتحرر الاجتماعي - والتحرر الإداري من نير الإدارة الأهلية - بدون النشاط الثوري المستقل لجماهير القطاع التقليدي، ومشاركتها بالفعل والرأي وبالتصور... فمحنة محاولات تطبيق الإصلاح الاجتماعي والزراعي والإداري من أعلى ماثلة إمامنا في تجارب أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية في المنطقة العربية والأفريقية و في السودان" (دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 ص 36 )
وقد لاحظت التطور في الحركة الجماهيرية في إستعدادها للإضراب السياسي راصدة ظاهرة إضراب المدن:
"قدمت مدينتا سنار وسنجة على التوالي شواهد جديدة مفيدة للحركة الثورية التي تتجه نحو الانتفاضة. فلم يحدث خلال سنوات الديكتاتورية الاولى وخلال فترة التحضير للاضراب السياسي، ان تطورت المعارك الجماهيرية إلى اضراب سياسي عام وصدام عنيف في قطاع كامل من الجماهير، أو مدينة تضم مختلف القطاعات، حتى تفجر في اكتوبر على النطاق الوطني. استمدت مدينة سنجة الهامها من تجربة اكتوبر، هذا واضح. ولكن تتميز وتنفرد بأنها طرحت امكانية بان يتفجر اضراب سياسي عام تحت ظل هذه السلطة في مدينة من المدن أو قطاع شامل من الجماهير أو حتى مديرية من المديريات.
" وهذا شكل ارقى في التحضير للانتفاضة الشعبية ... "(دورة يونيو 1975 "قضايا ومشاكل العمل القيادي" ص 27(
الحزب الشيوعي السوداني كان محظورا في رومانيا الإشتراكية
ولقد أثرت فينا الدراسة كلجنة مدينة فقررنا خاصة بعد أن أستقرت فروعنا، أن نبدأ مخاطبة جماهير أم درمان مباشرة في القضايا التي تهمها. ولكننا كنا في إنتظار زميل من المديرية ليعلمنا كيف نطبع منشوراتنا بإستعمال الدرداقة ولم يأت الزميل. وقد ذكرنا ذلك في إجتماع موسع مع المسئولين السياسين للفروع، فضحك علينا أحد الزملاء من خريجي رومانيا (وهو يحمل دكتوراه في إقتصاديات النقل) قائلا أنه سيعلمنا ذلك وكان، فسألناه مندهشين أين تعلم ذلك، فقال في رومانيا لأن فرع الحزب الشيوعي السوداني في رومانيا شاشيسكو كان سريا ومطاردا من قبل البوليس السري الروماني! والدرداقة هي طريقة للرونيو بدائية، حيث تكتب على الشمعة وتستعمل سطح أملس (الزجاج هو المفضل) ورول يمر على الشمع المدهون بالحبر بعض وضعه على الورقة، وهي عملية بدائية وتعمل بالورقة الواحدة.
بيانات ضد الرياضة الجماهيرية وإعتقالات النساء
وأذكر أننا أخرجنا عدد من البيانات حول قضية الرياضة الجماهيرية، وإعتقال القيادات النسائية من أمام فندق المريديان. وكنا قررنا أن نوزع منشوراتنا في أماكن تجمعات المواطنين عند الخروج من السينما مثلا.
ثم جاء الإستفتاء على رئاسة الجمهورية في مطلع 1977 فقررنا أن نصدر بيانا بالمقاطعة وأن نملأ جدران أم درمان بالكتابة المنادية بمقاطعة الإستفتاء. وكنت أعرف أنني سأعتقل بعد ظهور الشعارات، ذلك أن المرحوم خليفة كرار قد أرسل لي تحذيرا غير مباشر إذ قال لأحد أقربائي العاملين بجهاز الأمن "شايف قريبك حركته كثيرة هذه الأيام" وأرسل لي قريبي ابن عمي فيصل كبلو لينقل لي التحذير، لكن لم يكن هناك وقت فقد وصل التحذير قبل أيام من تنفيذ قرار الكتابة والذي كنت معفيا من الإشتراك فيه.
رفض تعييني بالجامعة رغم قرار الشعبة بتعييني
وكنت قد إنتقلت في بداية الأسبوع الذي ظهرت فيه الكتابة على جدران أم درمان من عملي السابق بوزارة التخطيط الى مجلس الأبحاث الإقتصادية والإجتماعية بالمجلس القومي للبحوث. وقد كان موضوع إنتقالي للمجلس موضوع لصراع بين رئيس شعبة الإقتصاد بجامعة الخرطوم في ذلك الوقت الدكتور سيد نميري والسيد مدير الجامعة البروفسير علي فضل، فقد أختارتني شعبة الإقتصاد مساعدا بهيئة التدريس بها ولكن الإدارة رفضت تعييني، فذهب رئيس الشعبة للمدير موسطا نائب المدير المرحوم البروفسير حسن هابش الذي كان صديقا له مطالبا المدير برفع توصية لإلغاء قائمة بأسماء طلاب كان المرحوم جعفر بخيت قد أصدرها يحظر الواردة أسماءهم من التعيين في أي وظائف جامعية، وكان إسمي ضمن تلك القائمة، كانت حجة الدكتور سيد نميري أن الحكومة سمحت لي بالعمل في وزارة التخطيط، و أن لدي عرضا بالعمل بالمجلس القومي وهو يريدني للعمل بالشعبة، ولكن البروفسير علي فضل رفض رفضا باتا وقال للبروفسير هابش بالإنجليزية (I am not interested). وكان الزميل الخاتم عدلان قد رفض تعيينه بشعبة الفلسفة قبل ذلك ولنفس الأسباب رغم أن شعبته كانت تريد تعيينه. وهكذا عينت مساعد باحث بمجلس الأبحاث الإقتصادية للبحوث والذي لم يتردد الدكتور عبدالرحمن عبدالوهاب وكان وكيل التخطيط ورأس لجنة معاينتي والدكتور عبدالغفار محمدأحمد مدير مجلس الإقتصادية والبروفسير إبراهيم حسن عبد الجليل الذي حل مديرا بدلا لعبدالغفار الذي إنتقل لجامعة جوبا من تعييني دون أن ترمش عيونهم أو يضعوا إعتبارا لرأي السلطة وحتى يستشيروها ،
وفي اليوم التالي لهذا الصراع تم إعتقالي من منزلنا بأم درمان بعد ساعات العمل وكان ذلك ثالث يوم عمل لي بمجلس الأبحاث الإقتصادية ولم أكن أعرف لماذا أعتقلت هل لمنع تعييني بالجامعة أم لشعارات أمدرمان. وأخذت للقسم الشمالي في أم درمان حيث وجدت الأستاذ محمد عبدالله المشاوي والأستاذ المرحوم صديق شريف، المعلم السابق، وتم نقلنا فورا لجهاز الأمن ونقلنا للزنازين حيث وجدنا عددا من أبناء الفتيحاب: محمد نور وكان طالبا بالمعهد الفني (جامعة السودان الآن)، عوض الرشيد وكان عاملا وأخيه هارون الرشيد وقد كان موظفا، أما حمدالنيل محمد إدريس فهو معلم مدرسة وسطي قتل بعد إطلاق سراحه بفترة قصيرة، عمار وكان طالبا ثانويا، وصديق نورين وكان صياد سمك. وبينما نحن هناك إذا بكمال الجزولي يضاف لنا.
لقد كنت أعرف عوض الرشيد ومحمد نور من خلال صلتي بفرع أبوسعد وقد سمعت بحمد النيل محمد إدريس منهم. أما كمال الجزولي فتعود معرفتي له لعام 1968 قبيل سفره للإتحاد السوفيتي، فقد قرأت له شعرا جميلا قبل أن ألقاه في جريدة السودان الجديد بصحبة محمود محمد مدني وصديق محيسي، ثم جاء للجامعة ذات يوم يبحث عن الشاعر محمد تاج السر الطالب حينها بكلية الهندسة، وقابلته بالصدفة أمام مدخل البركس، وبحثنا معا عن محمد فلم نجده وحزن كمال كثيرا لأنه كان سيسافر بعد يوم فترك لمحمد وصيه معي وذهب، ولم ألقاه إلا بعد عودته من موسكو وكنت حينها خارج لتوي من المعتقل. ولقد إندهشت كثيرا عندما أشترك كمال في الندوة الشعرية التي أقامتها الجبهة الديمقراطية ضمن برنامجها للإحتفال بذكرى 19 يوليو عام 1973 ، ذلك الإحتفال الذي أدى بشكل غير مباشر لتفجير إنتفاضة أغسطس (شعبان) 1973 . وقد قرأ كمال شعرا جميلا عن 19 يوليو وشهدائها. ولم أكن مرتاحا لإشتراك كمال في الندوة، رغم حبي لشعره وإعجابي بطريقة قراءته، وقلت معلقا لأحدهم "أن كمال يدعو الأمن لإعتقاله" وفعلا تم إعتقال كمال و أخيه حسن، ويبدو أن من قلت له تعليقي إنتظر حتى إطلاق سراح كمال وأبلغه بتعليقي الذي أغضب كمال كثيرا، وتناقشنا حوله فيما بعد، وكانت لدينا وجهات نظر مختلفة. ولكني قدرت له موقفه الشجاع ورأيه الذي دافع عنه هو أن قراءة الشعر عمل نضالي يمكن أن يقدم في سبيله التضحيات ولعلي بعد كل تلك السنوات أرى أن كمالا كان على حق، فالشعر أدى دورا قتاليا ضد كل الديكتاتوريات ورفع الوعي وشحذ الهمم النضالية وساهم في صمود المعتقلين وحمس المتظاهرين وأثرى وجدان الشعب.
ورغم أنني كنت أعرف الأستاذ محمد عبدالله المشاوي من قبل إذ إلتقيته في الإعتقال الأول في يوليو، وفي السرايا في الإعتقال الثاني كما ورد عاليه ولكن علاقتنا توطدت خلال هذا الإعتقال.
أما الأستاذ صديق شريف فقد تعرفت عليه خلال إنتخابات 1968 البرلمانية في منزل المرحوم الأمين حامد الأمين بحي البوستة حيث كان مركزا لنشاطنا لمرشح الحزب حينها فاروق أبو عيسى، ثم ألتقيته مرة أخرى في السرايا خلال إعتقالات يوليو 1971.
ولم نمكث بالأمن كثيرا وتم نقلنا لسجن كوبر لقسم الشرقيات.
كان هناك عدد من المعتقلين ممن تبقوا من معتقلي 2 يوليو، وكان معظمهم من الأنصار العاديين وكان هناك من بينهم صف ضابط سابق بالقوات المسلحة، وكان عدد منهم قد تعرض للتعذيب. وقد وجدنا وضع المعتقلين ردئ، كان لائحة السجن الجديدة لا تطبق على معتقلي 2 يوليو، فقد كانوا يعاملون كمساجين درجة ثالثة، يصرف لهم وجبتي طعام: فطور وغذاء، مطبوختين في مطبخ السجن العمومي، يرقدون على الأرض فوق برش وبطانيتين، يعانون في العلاج وليست لديهم زيارات منتظمة.
بدأنا فورا في طرح مطالب المعتقلين بتحسين أوضاعهم المعيشية والصحية وقد كلفت من قبل قيادة الحزب بالسجن أن أتولى مسئولية تنظيم المعتقل، فكونا فرعا للحزب بالشرقيات وبدأنا خلق صلة دائمة بقيادة الحزب بالسجن وإخترنا مولانا المشاوي رئيسا للجنة المعتقل ومتحدثا باسمها.
وبدأنا نشاطات المعتقل التعليمية، بأن فتحنا فصلا لمحو الأمية يدرس فيه الأستاذ صديق شريف والأستاذ حمدالنيل وبدأنا نخطط لمحاضراتنا العامة.
عرفنا أن هناك زملاء بالبحريات وهم الزملاء يوسف حسين، الدكتور محمد مراد الحاج، الزميل عبدالرؤوف علي أبنعوف، الزميل أحمد خليل، الزميل السر الناطق و الزميل سيدأحمد سمعريت، والزميل يوسف حوار من عمال المطابع وكانوا قد إعتقلوا في إجتماع قبل إعتقالنا بفترة قصيرة. وبعد وصولنا للشرقيات بأسابيع تم ترحيلهم لنا في الشرقيات. كنت أعرف ثلاثة من الزملاء: يوسف حسين، أحمد خليل والسر الناطق. أما الدكتور محمد مراد والزميل سيدأحمد سمعريت فقد كنت أسمع عنهما ولم ألتقيهما من قبل، ولم أكن قد التقيت عبدالرؤوف علي أبنعوف من قبل.
كان الزميل يوسف حسين والذي ينتمي لأسرة عمالية ببحري حيث كان والده يعمل بالوابورات من أوائل خريجي قسم الجيلوجيا بكلية العلوم جامعة الخرطوم وكان عضوا باللجنة التنفيذية لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم أثناء ثورة أكتوبر ، وعمل عند تخرجه لفترة بسيطة بمصلحة الجيلوجيا ثم تفرغ للعمل الحزبي التنظيمي، وعمل بمواقع حزبية مختلفة، وقد تعرفت عليه عام 1968 عندما كان مسئولا عن فروع الجامعات والمعاهد، وكان هو أول مسئول حزبي ألتقيه بعد أطلاقي سراحي في مايو 1973. والزميل يوسف رجل منظم، وقارئ جيد، قليل الحديث، يجيد تفاصيل العمل التنظيمي: تلخيص الواجبات، تقييم التجارب، أصدار النشرات الداخلية وقد تعلمت منه شخصيا أشياء كثيرة في هذا الصدد.
أما الدكتور محمد مراد الحاج فهو الآخر من أصول عمالية وتربى بودمدني ودرس بألمانيا الديمقراطية وعاد للسودان حيث عمل أستاذا للتاريخ بمعهد المعلمين العالي (كلية التربية جامعة الخرطوم حاليا) ثم عاد لألمانيا لتحضير الدكتوراة وعاد من ألمانيا ليختفي وينضم للكادر الأساسي للحزب وقد تعلمت على يديه مبادئ اللغة الألمانية وتاريخ السودان القديم.
تعرفت على السر الناطق وهو موظف بالبريد والبرق بالخرطوم، وكان يعمل في أحد لجان المكتب التنظيمي وقد عرفني به الزميل عبد الجليل عثمان (أبو الرجال) حوالي عام 1970، ثم التقيت السر في كوبر في 1971 وفي شالا في عام 1972 والسر شخصية موهوبة، يستطيع أن يخلق من مواد عادية جدا موادا فنية ويستعملها للديكور والمكياج، وقد أبدع شخصيته شيخ الصمودي في الإعتقال الأول وظلت تتابعه بين كوبر وشالا وبالعكس، وكان زميلا صبورا و"بالو طويل " كما يقولون، وكان طباخا ماهرا وقد عملنا دائما في لجنة المجلة الناطقة. كان مدخنا نهما يبحث دائما عن تخميسة أو عن سيجارة بونص وكان دائما مبادر بتقديم إقتراح بكباية شاي وسيجارة بونص عند كل حدث مثير: إطلاق سراح زميل، وصول خبر من الخارج عن مظاهرة او منشور أو وصول مطبوع حزبي وكان مبادرا بتنظيم الإحتفالات وإعداد المجلة الناطقة وتلحين الأناشيد الجديدة.
أما الزميل أحمد خليل، فذلك شخص عجيب، كنا نطلق عليه اسم "شخصية وطنية" إذ ان تلك هي الصفة التي كانت تصفه بها الميدان السرية عندما تذكر قائمة المعتقلين، وأحمد خليل من الشيوعيين الذيت يعطون في صمت ودون من، وله تجارب كثيرة كنا نحاول دائما جره ليحكي عنها، وقد ساهم مساهمة حقيقية في تحسين علاقتنا مع عساكر السجن وصف الضباط.
وألتقيت في هذا المعتقل لأول مرة بسيداحمد سمعريت، وهو من سنار، رغم أن أهله أساسا من شايقية الشمالية، وسيد احمد كان شابا ودودا وكان يحفظ كثيرا من أدب وغناء الشايقية وحكاويهم وهو يجيد الطبخ.
وكان عبدالرؤوف علي أبنعوف أيضا من شايقية الشمالية وهو خريج الكلية المهنية العليا وكان يعمل بوزارة الشباب والرياضة وكان ذلك أول إعتقال له وكان صامدا وكأنه قد تعود على المعتقل، وكان الشخص الوحيد القادر على إنتزاع إبتسامة من يوسف حسين في الأيام الأولى قبل أن يتعود من جديد على الحياة الإجتماعية.
كمال الجزولي يظهر جوانب إبداعية غير الشعر:
قلت أنني تعرفت على كمال قبل سفره لأوكرانيا للدراسة، وكنت أعرف عنه أنه شاعر وكانت قصيدته "أم درمان تأتي في قطار الثامنه" من قصائد جيلنا المحببة ثم عرفنا قصائده عن يوليو وخاصة قصيدته عن جوزيف قرنق. لقد إحتل كمال مكانه في ثقافتنا كشاعر مجيد، ولكن في أول إعتقال لنا مع بعضنا بدأ كمال يكشف عن قدرات فنية أخرى، وكانت أولاها ما فعله في الشرقيات بمشاركة شاويش من معتقلي 2 يوليو، عندما تحدث عن الخليل وعازة والمارشات العسكرية فاوضح معرفة بتاريخ الموسيقى السودانية ومعرفة عميقة بخليل فرح، وفوق ذلك قدرة مخرج مبدع إستفاد مما هو موجود في المعتقل لإخراج حلقة مدهشة فعلا نالت إعجاب الجميع. وكانت تلك البداية فقط، فقد تكررت إبداعات كمال الجزولي في ذلك المعتقل وفي المعتقلات الأخرى، وسيأتي حديثا آخر عنه في الفصل القادم.
وعرفت كمال أيضا كقارئ وباحث مهتم بمختلف قضايا المعرفة وسأحكي عن ذلك أيضا عند حديثي عن الإعتقال الأخير.
محمد عبدالله المشاوي عقلية قانونية مدهشة:
قلت أنني ألتقيت محمد عبدالله المشاوي المحامي من قبل في معتقل يوليو 1971 وفي إعتقالي في ديسمبر 1973 وكان هو معتقلا منذ اغسطس 1973 عقفب إنتفاضة أعسطس شعبان.
وأتاح لي الإعتقال معه هذه المرة والذي إمتد لحوالي 9 او 10 شهور أن اتعرف علي الأستاذ مولانا (كنا نخاطبه بمولانا أحتراما) المشاوي عن قرب، فتجلت لي قدراته القيادية وحكمته وعقليته القانونية المدهشة وقدرته على الحكي ومخزونه من الحكاوي والذكريات. ومولانا المشاوي درس بالقاهرة وكان من المفترض أن يدرس هندسة ولكنه رفضها وبمساعدة الأستاذ الكبير الدرديري أحمد إسماعيل ألتحق بدراسة القانون وتخرج بليسانس قانون من جامعة القاهرة وعاد للسودان ليعمل بالمحاماة. وسكن بأمدرمان واحبها وأحب الموردة وبانت وبنى علاقات صداقة حميمة مع أهلها وصار واحدا منهم لدرجة أنه يحكي نكتة عن أنه أراد أن يبحث عن منزل له بعد أن طلب صاحب المنزل إخلائه وقد رفض أن يستعمل قدراته القانونية للبقاء في البيت رغم نصيحة أصدقائه بذلك، وجند أصدقاءه للبحث وكان شرطه أن يكون المنزل بأمدرمان وتأتي بانت والموردة في المقدمة ثم الأحياء الأقرب لهما. ولم يجد له أصحابه منزلا مناسبا بتلك المواصفات، فداعبه أحدهم قائلا "ما تخلينا نفتش ليك في الخرطوم" فرد مولانا مشاوي بسرعة ساخرا "يعني أبقى جار جلاتلي هانكي ولا متشل كوتس" دلالة على الطابع الأفرنجي الأجنبي للخرطوم في ذلك الوقت.
كنا نطلب من المشاوي أن يحكي لنا عن القضايا التي ترافع فيها، وكان يتمتع بذاكرة مرتبة ويحكي لنا عن قضايا جنائية ومدنية ترافع فيها وكانت تلك الحكاوي تكشف عن عقلية قانةنية مدهشة، كان من الممكن أن تكون من بين كبار المحامين الذين أثروا من المهنة لولا تعرضه الدائم للإعتقال وعدم إستقرار مكتبه. وقد تعرفت من خلال أحاديث مولانا المشاوي في القانون على اللورد ديننغ وأسهاماته في قانون الإثبات وحقوق الإنسان وقد ظلت تلك المعلومات عالقة بذهني حتى دراستي للقانون بجامعة سنترال إنقلاند بعد ربع قرن من ذلك الإعتقال، حيث عرفت حينها بشكل أعمق كنه إعجاب مولانا المشاوي باللورد ديننغ.
لقد كان اللورد ديننغ فعلا شخصا يستحق الإحترام رغم خروجه الداوي من القضاء الإنجليزي بتهمة العنصرية. لقد ولد ديننغ بويتشجيرج بهامشير بانجلترا في 23 يناير 1899 وعاش مائة عام ليموت في 5 مارس 1999. وقد استدعي للبار عام 1923 وعين قاضي محكمة عليا 1944 وأصبح لوردا قاضيا بمحكمة الإستئناف عام 1957 ونزل المعاش وهو عمره 83 سنة في عام 1982.
إخترنا مولانا المشاوي متحدثا بإسمنا، وكان المرحوم عبدالرحمن الصاوي مديرا للسجن، وذات مرة، قبل إعلان المصالحة بيوم أوشئ من ذلك القبيل جاءت زيارة لمولانا الميشاوي في مكتب الصاوي، فوجد أن زائره هو صديقنا وزميلنا صالح البحر وهو شخص ذو قدرة عجيبة على إلتقاط الأخبار وتحري مصادرها وأنا أعجب دائما لم تجذب الصحافة صالح البحر أو لم تكتشفه، المهم جاء صالح يحمل السجائر لمولانا المشاوي، فجاء الميشاوي وهو يضحك ويقول أن ثمة تغيير سيحدث في البلاد، فقلنا كيف عرفت فقال زارني صالح البحر وأحضر لي سجاير وهذا بكل المقاييس لا يمكن أن يحدث ألا إذا عرف صالح البحر أن تغييرا سيحدث. تذكرنا ذلك بعد أيام فقط عندما سمعنا بحديث نميري في برنامجه الشهري وقد أعلن عن لقائه الصادق المهدي في بورتسودان وعن المصالحة الوطنية.
وذات مرة أثناء المرور تعامل الصاوي مع مولانا الميشاوي بتعالي مما أغضبني وجعلني أتدخل في المناقشة وأحتد مع الصاوي حتى وصلت أننا تشاتمنا فقلت له أنه قليل أدب، فأرسلني لزنازين البحريات وجردت من ممتلكاتي الشخصية: غليوني وتبغي وولاعتي، ولم أعطى فرش وتركت هناك لمدة أسبوع وأطلقت من الزنازين رغم رفضي الإعتذار للصاوي وإصراري على أن يعتذر لي.
وعلمت عند عودتي للشرقيات مع المجموعة عن إطلاق سراح كل منسوبي حزب الأمة والأخوان المسلمين. وعلمت أيضا أن الملازم حسن محمود أبوبكر (إبن الشاعر المبدع الصاغ محمود أبوبكر الذي كان ضابطا بالجيش) قد وصلته إشاعة أن الصاوي أمر بضربي فجاء مسرعا وجمع عساكر القسم الشرقي (وهو كان ضابط القسم) وأقسم لهم بأن من يمسني بسوء فهو سيفرغ فيه طبنجته وهو لا يعرف القمندان فهو شخصيا مسئول عن القسم وعليهم طاعته.
والملازم حسن محمود أبوبكر، رجل شاعر لا يحب السياسة، وكنت قد تعرفت عليه في إعتقال سابق إذ لاحظ ضمن الكتب التي أدخلتها في الزيارة دواوين شعر، ثم صار يناديني ويقرأ لي بعضا من شعره وأظن أنه تعرف على كمال الجزولي بشكل مشابه وعموما فحسن محمود ضابط سجن محترم يقوم بواجباته بشكل جعله محبوبا من عساكره ومن المساجين والمعتقلين.
السر أحمد البشير: مناضل فريد وقائد فذ
وألتقيت في هذا الإعتقال بالمناضل الفريد والقائد العمالي الفذ السر أحمد البشير وهو من مناضلي عمال الوابورات بكوستي الذي تعرض في حياته للتشريد والإعتقال عدة مرات، وكان قد نقل لنا من كوستي ومعه أحد المناضلين الشباب وإسمه لو لم تخني الذاكرة محمد نور.
لقد كان السر أحمد البشير كتابا متحركا لتاريخ الحركة النقابية والحزب، وخاصة تاريخ عمال السكك الحديد والوابورات، وحكى عن الملاحم البطولية أيام الحكم العسكري الأول، عن إضرابات عمال السكك الجديدية والنقل النهري في الستينات.
وحكى لنا السر كيف حاولت إدارة الوابورات حينها لشرائه عندما أستدعي ووضعت أمامه بدلة القبطان إذا قبل أن يكسر الإضراب ويقود باخرة للجنوب، ولكنه رفض وبدلا عن الترقية فصل من العمل وظل مشردا حتى أعادته ثورة أكتوبر.
وكانت من أجمل اللحظات تلك التي يجلس السر أحمد البشير والسر الناطق ليحكيا عن ذكريات كوستي، ومن نوادر السر الناطق أنه أعتقل في مظاهرة وقدم لمحاكمة وكان القاضي عبد العزيز شدو الذي كان يعرف السر ويلعب معه الكوشتينة في نادي الموظفين، وكان يبحث عن طريقة لإخراج السر فسأل السر من إسمه والسر كان تمتاما فأجاب بتمته
"إس .. ميي... ال.. سس رر،" وقبل أن يكمل قال القاضي شدو للبوليس "ده ما قادر يتكلم يكون هتف كيف .. أطلق سراحه فورا". والطريف أن السر الناطق يتمتم في الكلام فقط ولكنه لا يتمتم في الهتاف والغناء.
كلفنا السر أحمد البشير بأن يكون مسئولا عن الكميون، ولقد كان بارعا في إدارته ولا أذكر أننا عانينا في فترة مسئوليته أي نقص في المواد التموينية، فقد كان حريصا أن يعد تكليف لكل زميل قبل الزيارة لطلب شئ معين من عائلته.
كان معنا في المعتقل أحد الشيوعيين الصامدين وهو عامل طباعة متميز، وهو المناضل يوسف حوار وكان شخصا متواضعا صبورا وباسما طول الوقت، وقد تتلمذنا على يده: سيداحمد سمعريت، السر الناطق، عبدالرؤوف أبنعوف وشخصي في كيفية تجليد الكتب وصناعة أغلفة مقوية من الكرتون والقماش، وقد قمت بتجليد عدد من كتبي للحفاظ عليها.
تميز هذا الإعتقال عن الإعتقالات السابقة بتوفر الكتب والمراجع فعكفت على القراءة والكتابة فقرأت كتاب سويزي عن الإقتصاد السياسي للرأسمالية وكتاب موريس دوب في نفس الموضوع ومجموعة مقالات سويزي الماضي كحاضر، وكتابي باران الإقتصاد السياسي للنمو ومجموعة مقالاته الرأي البعيد، والكتاب المشترك لباران وسويزي عن الرأسمالية الإحتكارية وعكفت على دراسة الإقتصاد السوداني من مجموعة المقالات التي جمعها الدكتور علي محمد الحسن بعنوان مقدمة لدراسة الإقتصاد السوداني ومقالات في المجتمع والإقتصاد السوداني ودرست بتمعن كتاب أريك روول عن تاريخ الفكر الإقتصادي، ودرست الصناعة التحويلية السودانية من خلال المسح الإقتصادي لسنة 1970 وأستخدمت تلك الوثائق لكتابة ورقتي عن فائض القيمة في الصناعة التحويلية السودانية والتي ترجمتها للإنجليزية ونشرت بمجلس الأبحاث الإقتصادية كدورية. وكتبت ورقة عن القطاع التقليدي وترجمت مقالا لسويزي من كتابه الماضي كحاضر عن مرور 100 عام للبيان الشيوعي وترجمت فصلا من كتاب لا أذكره الآن عن قصة أول مايو وإضراب العمال في شيكاغو وللأسف فإن الترجمتين لم يخرجا من المعتقل بينما أخرجت الورقتين عن فائض القيمة وعن القطاع التقليدي.
وحاولت تعلم الألمانية، وكان أستاذي الدكتور محمد مراد ولكن فصلنا لم يكن مستقرا ولم نستفد من تلك الفرصة العظيمة.