تهذيب الأمن القومي وترقيته

 


 

 



المقصود طبعا هو تشذيب جهاز الأمن القومي وترقيته، أو تهذيب منسوبيه وتثقيفهم، وتلطيف سلوكهم، وأسلوب تعاملهم مع البشر، ومستوى تناولهم للقضايا النظرية والعملية التي يباشرونها.
ولست في مجال التقويم العام، ولا في مجال إصدار الأحكام.
ومن دون أن أعمم أبدا أذكر حدثا شُدِهت ببعض مشاهده ذات يوم.
وذلك حين ذهبت إلى مبني جهاز الأمن القومي لأقدم شكوى ضد أحد ضباطه ، ففوجئت بالتباين الهائل في التعامل في تلك الأوساط.
فالبعض بدا مهذبا شديد التهذيب، متمسكا بأصول التربية السودانية القويمة، والبعض بدا وكأنه لما يدرك بعد من التهذيب الاجتماعي أولوياته الأولى.
زول ساكت!
وبعد أن قرأ أحدهم نص الشكوى التي قدمتها اتصل هاتفيا برئيسه المباشر قائلا: ياخي في واحد واقف هنا عندو شكوى نقول ليه شنو؟!
بهذه اللغة السوقية تكلم مع رئيسه المباشر وأشار إلى شخصي في حضوري بأني واحد ساكت!
يعني لا أستاذ،، ولا مواطن ولا واحد عمنا، ولا شيئ يدل على أدب أو تهذيب أو ذوق في التعامل مع كبار السن، ولا إنزال للناس منازلهم التي يستحقون.
وعندما التقيت بأكثر من واحد من قادة الجهاز، بعد ذلك، ذكرت لهم هذه الملاحظة السلبية،  فامتازوا غيظا، وطلبوا أن أدلهم على اسم هذا الموظف أو رسمه ليوقعوا به فأبيت!
فالمشكلة، عندي، ليست في العقاب أو الثواب، وإنما في التدريب والتهذيب لدى التوظيف.
إعداد من ولماذا؟
وأمس سعدت بمطالعة خبر ذي دلالة لطيفة، مصدره جهاز الأمن والمخابرات الوطني، حيث تم تخريج الدفعة الخامسة من حملة درجة العالمية (ماجستير زمالة الأمن الوطني) والدفعة الثالثة من حملة الدبلوم العالي من أكاديمية الأمن العليا.
وهذه الأكاديمية يشرف عليها ويديرها واحد من كبار أساتذة التربية وعلم النفس، وأحد مخضرمي الدعوة، وهو أخونا وشيخنا البروفسور شمس الدين زين العابدين، حفظه الله.
وفي طوايا الخبر السعيد شرح البروفسور زين العابدين أن أكاديمية الأمن العليا أنشئت من أجل تطوير الدراسات والبحوث الأمنية والاستراتيجية، وتأهيل القيادات الأمنية، وقيادات الخدمة العامة، وقيادات المجتمع، حتى تتأهل لتبوء المناصب العليا بالدولة.
والذي فهمناه من هذا النص، بعد أن أحسنا الظن، أن التدريب الذي تبذله الأكاديمية متاح للجميع، وليس مقصورا على منسوبي جهاز الأمن والمخابرات الوطني.
وإلا لاجتاحنا شديد الجزع والفزع على مستقبل بلادنا، إن كانت الأكاديمية تعد ضباط جهاز الأمن والمخابرات الوطني، ليكونوا قادة البلاد وسياسييها الكبار في المستقبل.
الخروج من الأطر المحلية
وبحسب الأكاديمية أن تعمل على توسيع آفاق ضباط جهاز الأمن والمخابرات، وفك إسارهم من نطاق المحلية، وصقل قدراتهم العلمية،
وتدريبهم على إجادة اللغات الأجنبية، وخاصة اللغة الإنجليزية.
وبمناسبة اللغات الأجنبية أذكر من أيام كنت أولع بقراءة كتب المخابرات العالمية، كيف أن المخابرات السوفيتية كانت تعد بعض الأطفال الروس، ليتكلموا اللغة الإنجليزية، كأنهم رضعوا لبانها، ثم تدفع بهم وهم كبار السن، إلى دهاليز الجاسوسية العالمية، متقمصين الهوية البريطانية، وموهمين من يستمع إليهم، ولو كانوا إنجليزا، بأنهم إنجليز فعلا!
وبالطبع فهذه غاية بعيدة المنال، وليس لجهاز الأمن بها من حول ولا طاقة، وربما ليس له إليها حاجة.
ولكن يكفي أن يتعلم منسوبوه اللغة الإنجليزية جيدا.
حيث صبت معظم المعارف والمعلومات الحديثة فيها.
وأن يجيدوا هذه اللغة العالمية لا من أجل المباهاة بها، والتشدق بألفاظها، وإنما للإطلاع المتعمق عن طريقها، ومعرفة خفايا العالم معرفة جيدة من خلالها.
التدريب على البحث العلمي
ومن التوجهات الحسنة التي تحسب لهذه الأكاديمية الواعدة اتجاهها صوب البحث العلمي.
فأفضل أداة لتدريب الدارسين وتوسيع آفاقهم هي أداة البحث العلمي.
حيث لا يفيد الكبار بالتلقين، ولا يفيدهم الانغمار في حشد زاخر متدفق من المعلومات المتلاطمة.
وإنما يفيدهم الانغماس في مهام البحث العلمي، الذي هو السبيل الأصوب لصقل شخصياتهم العلمية، وتمكينهم من الاعتماد على أنفسهم في التحصيل والتحليل.
وعلى هذا المستوى سرنا ما قاله الشيخ البروفسور من اتجاه الأكاديمية إلى إشغال دارسيها وتمكينهم من ناصية البحث العلمي الرصين.
وسرنا قوله على سبيل التمثيل: إن بحوث العام الحالي تناولت العديد من المواضيع الاستراتيجية، منها: الوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر، وتأمين المواقع الاستراتيجية ضد العدو الجوي، والمنظومة الاستراتيجية للعمالة الوافدة، والرؤية الاستراتيجية للتدريب بجهاز الأمن، وقضايا حماية المستهلك السوداني، وأثر القنوات الفضائية على الثقافة السودانية.
وكلها من جلائل البحوث التي نأمل أن ترى النور.
ولابد أن ننتهز هذه الفرصة لنكرر ما لا نمل تكراره من ضرورة الاهتمام بتكوين المكتبات العلمية في مراكز البحوث وأكاديميات البحث العلمي.
فعسى أن تحصل مكتبة أكاديمية الأمن القومي على أمهات كتب العلوم السياسية والاستراتيجية، وتراث الاستخبارات، وكتب مناهج البحث العلمي.
وألا تستكثر على ميزانيتها الاشتراك في عدد من الدوريات العلمية العالمية في مجالات الاقتصاد والسياسة والقانون وعلم النفس.
والمجال العلمي الأخير هو مجال تخصص المدير المرجو لتهذيب سلوك منسوبي جهاز الاستخبارات والأمن القومي، ووضعهم في خدمة الجماهير، لا في مناط التعالي عنها، والتعدي عليها، وإرهابها، والافتراء عليها.


mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

آراء