توظيف التاريخ لإعادة قراءة الحاضر .. هل استباحت قوات الثورة المهدية مدينة الخرطوم في يناير ١٨٨٥ ؟

 


 

 

لاشك في احتشاد صحائف التاريخ بالعديد من الوقائع التي تبعث على الإعتبار والتدبر . وعطفاً على توخى الدقة في استدراك خباياه ، قد يحسن بنا الإيغال فيما احتوته مصادر التاريخ المدونة بموضوعية تنأى بجادتها عن التخبط بين منعرجات العاطفة و الهوى .و من ذلك أن في هذا الأمر سعياً محموداً لإستقامة قسطاس التاريخ و حصحصةً لمواضعه الخليقة بالتأمل البنّاء .

الأطراف التي دار بينها الصراع على مدينة الخرطوم في ١٨٨٥ :

اعمالاً لما سبق ، فلنبدأ اذن بتعريف طرفي الصراع في معركة تحرير الخرطوم بصبيحة ٢٦ يناير ١٨٨٥ . هذان الطرفان كانا باجماع جمهرة عريضة من المؤرخين :
١-القوى الشعبية السودانية المنحازة للثورة المهدية بقيادة المهدي
٢- القوى الاستعمارية المتمثلة فى حاكم المدينة الجنرال الانجليزي تشارلز غردون و من شايعه . ومن خلفه قوى غازية قوامها ١٤ ألف جندياً بريطانياً دفعت بهم الملكة فيكتوريا نحو السودان سعياً لانقاذ غردون من حتفه المحدق . و عرُف هذا الجيش بحملة الانقاذ الانجليزية المؤتمرة بأمر الجنرال ولزلي. و كانت جحافل ولزلي ما زالت مشتبكة حينها مع قوات الثورة المهدية في جنوب منطقة الشبكات بشمالي البلاد دون أن تتمكن من الزحف كما كان مخططاً لها نحو الخرطوم .
بديهيات كتلك ، و بالأخص فيما يلي أطراف واقعة تحرير الخرطوم لم تكن لتخفى حتى على أعلام معاصرة للثورة المهدية على نحو فردريك انجلز مما دفعه للكتابة عن تلك الوقائع لاحقاً متحدثاً عن " المهدي .. الزعيم السوداني الذي جابه الانجليز ظافراً في الخرطوم" .
و في ذات المعنى كتبت صحيفة ايرلندية مهمة على نحو "ايريش مان " في لهجة متعاطفة مع ابناء الأرض السودانيين الذين حرروا عاصمتهم من المحتل ، و ذلك بعددها الصادر في ١٤ فبراير ١٨٨٥:
"على الرغم من أنهم ليسوا مسيحيين مثلنا، إلا إننا لا نملك إلا أن نشعر بالتعاطف مع هؤلاء الرجال البواسل الذين يقاتلون محتلاً غازياً لا يعرف الرحمة ".

طبيعة التركيبة السكانية للخرطوم في ١٨٨٥ :

تلك الافادات المار ذكرها و التي أدركها العالم بوقتها قد تفتح منفذاً مهماً لتساؤل مشروع ..هل كانت مدينة الخرطوم في يناير ١٨٨٥ مدينة سودانية حقاً من حيث التركيبة السكانية أم أنها كانت مدينة أجنبية استعمارية بإمتياز ؟ و قد أجاب على ذلك المؤرخ الراحل د .ابوسليم من خلال سفره القيم " تاريخ الخرطوم " حين جزم بأن السودانيون كانوا يشكلون ٢٠٪؜ فقط من سكانها البالغ عددهم ٥٠ ألف نسمة .و جنح المؤرخ البريطاني فيثرستون لتفصيل جنسيات ال٨٠ في المئة المتبقية من أهل المدينة فذكر أن منهم الأغاريق، النمساوين ، الطليان ، اليهود ، الشوام ، قلة بريطانية مع عدد من الجنسيات الأوربية الأخرى . هذا بطبيعة الحال إلى جانب الباشاوات الترك و المصريين . وهم ذات الأغلبية الأجنبية التي ذكرها د.القدال حين قال: " شهدت الخرطوم مجئ أعداد هائلة من الأجانب بلغوا أربعة أخماس سكانها .و كان نفوذهم التجاري و السياسي و الحضاري كبير جدا . و برزت في المدينة فوارق حادة في الثراء بين الأجانب و السودانيين الذين كان نصيبهم ضئيلاً لتفوق الأجانب عليهم .و أدت تلك الفوارق لزيادة حدة التناقضات مع الحكم الأجنبي و الأجانب عامة " . و تحدث المؤرخ البريطاني فيرغس نيكول عن الترف الذي تمثل في قصور باشاوات الخرطوم و أجانبها في مقابل مساكن أقلية السودانيين بالمدينة والتي كانت تنطق بالبؤس و المسغبة .
حسناً، تلك اذن كانت الخرطوم بأغلبيتها النخبوية الأجنبية .. فأين كانت تقبع الأغلبية السودانية من هذا الصراع لتحرير عاصمة البلاد في ١٨٨٥ ؟
لابد أن المساحة الواقعة بخارج أسوار المدينة المحاصرة كانت تحمل الإجابة ..لأنه و ابتناءاً على ذلك فقد توافدت اشتات سودانية لتجتمع تحت راية موحدة بخارج المدينة منذ ١٨٨٤ ..فمن أهل الخرطوم نفسها خرج الأمير عبدالقادر ود أم مريوم ليحاصر الخرطوم مع قوات المهدية من جهة الكلاكلة و من أهالي جزيرة توتي جاء الأمير على الأمين الضرير مع قريبه الأمير النور الجريفاوي ليقتحما المدينة مع قوات المهدية لاحقاً . ومن جهة شرق النيل، أعلن العبيد ود بدر انحيازه للمهدية ليحاصر الخرطوم من جهة أم ضواً بان و كذلك تقدم الأمير المضوي عبدالرحمن في ثلة من أهله المحس ليخنق مدينة غردون من جهة العيلفون . و من ضواحي الخرطوم الشمالية ، فتح الجموعية ديارهم مرحبين و منضمين للثورة المهدية حين حل المهدي بجيشه في ضاحية " ابو سعد " .وسد الأمير أحمد المصطفى ود أم حقين منافذ النجاة لغردون من جهة الجزيرة سلانج . وتوافد الفلاتة بخيلهم بقيادة الفكي الداداري و تقدمت ثلة من الدينكا بقيادة الأمير عبدالرؤوف أروب بيونق . وتقاطر فرسان الحلاويين من الجزيرة تحت إمرة الامير ود البصير والأمير عبدالرحمن القرشي ود الزين وثلة من فرسان الشكرية بقيادة الشيخ عبدالله عوض الكريم أبوسن .. وفرسان العركيين بقيادة الأمير حمدان العركي و الامير ادريس ود الشيخ مصطفي العركي. و تقدم نحو الخرطوم بمحاذاتهم الشيخ عبدالله بن الشيح حمد النيل و جاء معه البطاحين بقيادة الأمير عثمان النائب .. وقوات من قبيلة الكواهلة بقيادة الامير جادالله ود بليلو. جاء الرزيقات بقيادة موسى ود مادبو ، الزغاوة بقيادة الأمير طاهر إسحاق الزغاوي وصحبهم أمراء المسيرية بقيادة الأمير علي الجلة ومجموعة من الدناقلة السواراب تحت راية الأمير ميرغني صالح سوار الذهب ..الجعليون العمراب بزعامة الأمير محمد حاج خالد العمرابي و النفيعاب بقيادة الأمير الياس باشا أم برير . كما تنادى فرسان كنانة ودغيم والحسنات والعمارنة ودويح بقيادة الامير بابكر ود عامر و عبدالقادر ود مدرع و موسى ود حلو من النيل الابيض .. ثم عُين أمير الأمراء عبدالرحمن النجومي قائداً عاماً لحصار الخرطوم .
هذا التمازج القبلي السوداني خارج أسوار المدينة و ما ماثله من مشاهد في بقاع مختلفة بالسودان ، ألهم مخيلة أديب بريطاني معاصر لتلك الأحداث على نحو أرثر كونان دويل ليكتب عن إحتشاد السودانيين بسحناتهم المختلفة تحت راية الثورة المهدية في مواجهاتهم مع الانجليز :
" كانت هناك مجموعتان عرقيتان تقبع بينهما مساحة شاسعة كتلك التي تقبع بين قطبي الكرة الأرضية .. العربي بشفتيه الدقيقتين وشعره السبيبي و الزنجي بشفتيه الغليظتين وشعره المجعد .. ومع ذلك ربط بينهم الإعتقاد الموحد و قربهما لبعضهما بعضاً بدرجة فاقت روابط الدم " .

التدابير التي اتخذتها الثورة المهدية لمنع التعديات المتوقعة عند اجتياح الخرطوم:

أولاً، التدابير الاستباقية :
في ديسمبر ١٨٨٤ ، كتب المهدي لقواته التي حاصرت الخرطوم من جهة السبلوقة تحت إمرة أحمد المصطفى ود أم حقين وأحمد ولد فائت والعطا محمد دود :
" حيث لا يخفى عليكم ان الظلم دمار وهو محرم كتاب وسنة وليس من دأب الأخيار وإنما هو طريق الكفار الفجار . وانتم أنصار الله وقد خرجتم في سبيل الله ، فاحذروا من فساد هجرتكم وصونوا أنفسكم من التعرض للناس في حقوقهم وأموالهم بالطريق لغاية وصولكم ذهاباً وإياباً واعلموا ان من تعدى على احد في نفسه أو ماله فنحن غير راضين عليه ولابد أن ينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة".
و استبقت الثورة واقعة تحرير الخرطوم بمنشورٍ صادر من القائد لقواته في الميدان يدعو فيه لإكرام المدنيين الهاربين من جحيم الحصار داخل المدينة وتأليفهم بحسن معاملتهم حين يقول : " فألفوا عباد الله الذين يخرجون مُسّلمين ومنقادين بأنواع التأليف وتلقوهم بالإكرام والتشريف .. ولا تتلقوا احداً من المنقادين بتعنيف " .. وفي ذات المنشور المطول يشدد قائلاً : " واكرموا الذين يأتون مُسّلمين وخصوصاً العلماء ومن كانوا من أهل الوظائف الكبار ، وبالأخص نحو الأمين الضرير " .
و سعى المهدي من خلال رسائله المتكررة لغردون لإدراك هدف واحد ألا و هو الضغط على الأخير بشتى السبل لتسليم الخرطوم حقناً لدماء المدنيين .. وذلك على نحو رسالته المؤرخة بأواخر اكتوبر 1884 والتي جاء فيها :
" كن على يقين أنني على علم بحضور عساكر الانجليز بجهة دنقلا ولكن لست مبالٍ بهم ولا بغيرهم بفضل الله " إلى أن يقول .. " ولولا مراعاة حسم دماء المسلمين لضربت صفحا عن مخاطبتك وبادرتك بالهجومات التي لا أشك في نجاحها . فسلم تسلم انت ومن معك ، وقد نصحتك وأنصحك وإلا فالحرب بعد ذلك والسلام علي من اتبع الهدي " . وكتب الأمير ابو قرجة خطاباً مماثلاً لغردون في ١٨٨٤ داعياً اياه لتسليم المدينة حقناً للدماء و فيه قال : " إني حضرت من قبل المهدي أميراً على البرين والبحرين ، وقد أخذت فداسي وجئت إلى الخرطوم وأنصح أهلها بالتسليم . فإذا سلموا سَلِموا و أمنوا على أموالهم و أرواحهم و إلا فلابد لي من محاربتهم وأخذ المدينة منهم عنوة والسلام ".
بيد ان معاندة الجنرال الانجليزي و رفضه تسليم المدينة سلمياً للثوار دفع قواتهم لاقتحامها حتى تتفرغ لمجابهة الغزو الانجليزي بقيادة قوات ولزلي في الشمال . و عندها كانت وصايا المهدي المشددة الأخيرة لجيش الثورة المتأهب لتحرير المدينة و التي أوردها نيكول و أكد على مضمونها الشيخ بابكر بدري في مذكراته :
" اذا نصركم الله الغردون لا يُقتل .. الفقيه محمد الامين الضرير لا يُقتل.. .. كل من استسلم و رمى سلاحه لا تقتلوه.. كل من أغلق باب بيته عليه لا تقتلوه " . و أورد علي المهدي في أوراقه بعضاً من نص خطبة المهدي في فجر يوم المعركة:
" و عليكم بقتال من في خط النار أولاً حتى يدخلوا البلد و لا تقتلوا من يرفع لكم راية التسليم و لا تقتلوا من يقفل بابه عليه ".

ثانياً، التدابير الميدانية لمنع التعديات :
و كانت قيادة الثورة المهدية على دراية بما قد يصحب اقتحام المدن من انتهاكات ، لذلك كتب المهدي منشوراً لقواته في اعقاب تحرير الخرطوم مباشرة بالعام ١٨٨٥ ، قال فيه :
" ان النساء الخارجات من ققرة الخرطوم جميعا قد أحببنا ان يعطين لازواجهن ولا يجوز لأحد من أصحابنا وأحبابنا ان يتزوج منهن .. فذوات الأزواج يسلمن لازواجهن وكل من لا زوج لها تكون لدي أمين مأمون( المقصود شخص محرم ) ويجري راحتهن.. فالحذر من التزويج لأحد من نساء ألقياقر المذكورة صغيرة او كبيرة .. ثيباً او بكراً ومن تزوج بواحدة من المذكورات بدون نظر حكم الله فهو الجاني علي نفسه والسلام ". و أورد المؤرخ البريطاني نيكول ما مفاده أن المهدي و النجومي كانا من الحرص بمكان على حياة المدنيين . وعندما دخل المهدي المدينة ظافراً وجه الأمير أحمد ود سليمان أمين بيت المال .. بإرجاع كل امرأة من أهل المدينة إلى أهلها أو أي قريب لها قبل غروب الشمس.

ثالثاً ، التدابير الجنائية و العقابية لحسم التفلتات :
ولم يقف سيل منشورات المهدي عند ما سبق من أوامر ادارية بل جنح إلى الخروج بما كتب إلى حيّز التطبيق الواقعي الصارم . و تبدى ذلك حينما حاد بعض المتفلتين عما ورد سابقاً فمال بعضهم للتعدي على بعض النساء ، عندها لم تتأخر تدابير الثورة لانشاء ما يشبه المحاكم الميدانية بعقوبات تعزيرية تتراوح بين الجلد و السجن لكل من تثبت ادانته بتلك الانتهاكات ، و أوكل أمر التنفيذ الشرعي للخليفة عبدالله . و في ذلك كتب المهدي للخليفة قائلاً :
" لا يخفى حبيبي ، اننا نبهنا من أول الامر أن نساء الققرة( ققرة الخرطوم) من لها زوج منهن تسلم اليه ولا يعارضه فيها احد . وقد بلغني ان بعض الأنصار ار يقولون أن أمر المهدي لا يلزم العمل به . وقد وقف على ذلك بعض الاخوان الصادقين " .. ثم يتسأل عن مدى إيمان هؤلاء المتفلتين بالثورة نفسها حين يقول : " فكيف لا يقوم الأنصار إن كانوا أنصارا حقاً بأمرنا حالاً ؟ وما أظن الذين يفعلون هذا إلا عائقون عن سبيل الله صادون عباد الله عن طاعة الله اتباعاً لأهوائهم . فأفحص يا صديقي هذا انت ومن معك من الخلفاء والأنصار الصادقين وانه من يفعل مثل هذا أو غيره من ترك الأوامر تحبسوه شهراً وكل يوم يُضرب أربعين سوطاً كفارة له وعبرة لغيره لينزجروا عما يورث الهلاك لهم وللأمة ، والسلام " ..
و كتب في ذلك أيضا ً : " وكذلك من يمسك امرأة بدون أن يأمنونه عليها ولا يحفظها ولا يوصلها إلى محل الأمانة المعد لها كأمين بيت المال ومن امرهم فلازم ان يحصل عليهم الزجر الكافي والتهديد الشافي . وما مثل هذا إلا أفعال الجبابرة الذين لا خِلاق لهم ، فيهتكون الحريم والأبكار .. وفي ذلك عذاب النار ، فلازم الاهتمام بهذا الأمر الذي أمرض قلبي وأنالني هماً والسلام "..
وفي نفس المعنى أيضاً كتب الامام المهدي في أعقاب تحرير الخرطوم للأمير محمد عبدالكريم وجيشه المحاصر لسنار مشيداً بقوات حمدان ابوعنجة لانضباطها وحسن مسلكها مع المدنيين :
" وجزى الله الحبيب حمدان ابوعنجة عنا وعن دينه خيراً فقد بلغنا عنه ما سرنا من الاستقامة ومنع الأصحاب من أخذ حقوق العباد واذيتهم " .
وكان المهدي مستدركاً لما يصاحب حروب التحرير من فوضي يثيرها المندسون في صفوف الثوار واصحاب المصالح الأخرى الذين تتعارض مقاصدهم مع مقاصد الثورة الحقيقية ، فكتب من قبل ذلك إلى عامله عبدالله عوض الكريم أبوسن واصفاً هؤلاء ب " بكلاب الدنيا الذين يتداخلون مع أنصارنا " ..قبل أن يوجهه بحزم بردعهم قائلاً : "فلنفوض الأمر لله مع الإجتهاد في ازالة كل سوء ". و في السياق ذاته ، أورد أبو سليم في "محررات الخليفة " مخاطبات مهمة للخليفة عبدالله مع بيت المال لرد حقوق مادية و عينية لنساء من الخرطوم فيما بعد تحرير المدينة بالعام ١٨٨٥ .

استباحة الخرطوم في أدبيات الدعاية الحربية البريطانية:

ظل مصرع تشارلز غوردون على عتبات قصره في الخرطوم مشهداً مأساوياً صعب على بريطانيا تناسيه . و جنح معاصروه من البريطانيين لربط مصير المدينة بمقتله المأساوي . من ذلك أن الدعاية الحربية البريطانية التي سبقت حملة اعادة احتلال السودان في ١٨٩٨ اجتهدت لتشويه صورة الثورة المهدية في الذهن الشعبي البريطاني تهيئة ًله لتقبل الغزو بقيادة كتشنر .و أشرف قلم المخابرات بقيادة الضابط الاستخباراتي ونجت على عملية طبع و اصدار كتب عدة و منها السيف و النار لسلاطين ، مؤلفات ابراهيم فوزي و الأب أوهرواليدر و غيرها من كتب الحملة الدعائية . ولعل من
عبث الأقدار بهذه البلاد أن يكتب تاريخها رجل أقاله غردون من منصبه الاداري في الاستوائية لإتجاره في الرقيق و ولوغه في الفساد و الرشى كإبراهيم فوزي . فلا مندوحة إذن في هذا السياق من تناول هذه المؤلفات بحذر و يقظة حين نستند عليها في نقل و قائع ما حدث بعد تحرير الخرطوم .و في ذلك كتب المؤرخ الوطني البروفيسور يوسف فضل مسمياً الأشياء بأسمائها :
" الكتابات التاريخية البريطانية والمصرية المعاصرة عن الأعوام السبعة عشر والتي شهدت سيطرة المهدويين على مقاليد الأمور في السودان ، كُتب أغلبها بواسطة أناس تم توظيفهم بواسطة الحكومة المصرية أو ناشطين في الحملة الدعائية التي مهدت للحملة العسكرية ضد السودان وبالتالي جاءت تلك الكتابات متسمة بالجنوح نحو الإثارة وفي بعض الأحيان أحاطتها النيات الجائرة المبيتة" . و قال فضل : "ومن الممكن العثور على أراء مشابهة لما سوقناه عند الكولونيل ب. أر . ونجت في كتابه ( المهدية في السودان الإنجليزي المصري) و كذلك عند ابراهيم فوزي صاحب كتاب ( السودان بين يدي غردون و كتشنر )" .
وإستكمالاً لمنهجية " نقد النقد" التي وجهها بعض المؤرخين البريطانيين لمؤلفات المخابرات البريطانية فيما قبل عملية إعادة إحتلال السودان ، إرتسم المؤرخ الإنجليزي فيرغس نيكول بكلماته مساراً متناصاً مع مجهودات من سبقوه في ذات السياق المار ذكره . و من ذلك قوله عن مؤلفات تلك الحملة الدعائية :
" هي مؤلفات تم فيها تلوين الحقائق بدرجة عالية وقد إشتملت على تفاصيل ممتلئة بالمرارات الشخصية ..وفي أحايين كثيرة إمتلأت صفحاتها بإزدراء متعمد لكل ما وقف وثار من أجله المهدي ومن معه من الرجال الذين ناصروه . ويمكن القول بأن الميجور أف . أر . ونجت مسئول المخابرات العسكرية البريطانية في القاهرة هو المؤلف الحقيقي لتاريخ تلك الفترة ، فقد ألف بنفسه كتاب (السيف والنار) لسلاطين و كذلك ( عشر سنوات في أسر المهدي) لأوهرواليدر . فعلى الرغم من توفر بعض المعلومات المنسوبة لشهود عيان كانوا حضوراً في لحظات مفتاحية من مراحل الثورة إلا أن قيمة هذه المؤلفات كمصادر مستقلة لتاريخ المهدية قد تراجعت كثيراً بفعل تدخل ونجت في كتابة تفاصيلها" . و في السياق ذاته ، يمكن نسبة مؤرخين مهمين لتيار نقد النقد الذي حذر من الاعتماد على كتب "البروباغاندا" في كتابة التاريخ المهدوي و من ذلك مؤرخين من من العيار الثقيل على نحو هولت و نورمان دانيال .
صفوة القول ، أن استدعاء التاريخ خارج سياقاته الزمانية يحتاج للكثير من التقصي و التروي سعياً نحو فضيلة الاعتبار التي نترجاها منه. و يبقى استصحاب الحكمة في التمحيص بخباياه جسراً مهماً نحو الحاضر و المستقبل طالما ظل الباعث على ذلك ذهناً منفتحاً متحرراً من محاذير الفتنة العرقية و اعادة انتاج ذات الأزمات التي أقعدت ببلادنا و أوردتها موارد الفرقة و الشتات .
اللهم أحفظ بلادنا و سلمها و بلغها مأمنك الذي ليس من بعده مأمن ..
المصادر :
-صحيفة Irishman ، ١٤ فبراير ١٨٨٥ ، ارشيف الصحافة البريطانية ).
-انجلز : مجلة العصور الحديثة ، المجلد 1 ، العدد 22 ، 1894، ، أنظر أيضاً الاستاذ تاج السر عثمان: اسباب وطبيعة الثورة المهدية في السودان(1881- 1885) ، الحوار المتمدن ، ٢٠٠٨).
- الإمام المهدي - محمد أحمد بن عبدالله ١٨٤٤-١٨٨٥ ، للدكتور محمد سعيد القدال ، الناشر : دار الجيل ، بيروت- لبنان ، ١٩٩٢.
-أبوسليم : تاريخ الخرطوم ، الناشر : دار الجيل ، بيروت- لبنان،١٩٧٩.
-فيثرستون: الوقفة الاخيرة للجنرال غردون، Osprey Publishing ،أوكسفورد ، المملكة المتحدة ١٩٩٣).
-الراية الخضراء ، لأرثر كونان دويل ، نسخة إلكترونية ، الناشر Andrews Uk Limited ، بريطانيا ، ٢٠١٢ .
-مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون.. لفيرغس نكول ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة ٢٠٠٤.
-الاثار الكاملة للامام المهدي لابوسليم ، المجلد الخامس، دار جامعة الخرطوم للنشر ١٩٩٢ ) .
-عبدالرحمن الغالي : المهدية ، قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش ، الناشر : دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع ، الخرطوم ، ٢٠١٦.
-محمد المصطفى موسى : الأصداء العالمية للثورة المهدية ، الناشر : دار المصورات للنشر ، الخرطوم ٢٠٢٠ .

ana_omdurman@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء