تونس في القلب

 


 

 

تربطني بتونس علاقات مودة وفكر منذ فترة طويلة ففي مطلع الثمانينيات كانت جامعة الدول العربية قد انتقلت لتونس العاصمة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، وكنا مجموعة من الاجتماعيين منهم عادل حسين (مصر) ودارم البصام (العراق) والطاهر لبيب (تونس) وشخصي، مكلفين بوضع استراتيجية التنمية الاجتماعية العربية. وكنا نعسكر لفترات طويلة ونشأت بيننا والمثقفين التونسيين علاقة عميقة امتدت حتى اليوم. وفي عام 1985 قمنا مجموعة من أساتذة علم الاجتماع بتأسيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع وكانت غالبية المؤتمرات والندوات في تونس، وكان الأستاذ محمد مواعدة يدعوني بصورة منتظمة للقاء الاشتراكيين الديمقراطيين في تونس. وكانت آخر زيارة لي قبل سنوات قليلة في ندوة لمركز دراسات الوحدة العربية بمدينة الحمامات، حيث واجهت راشد الغنوشيالذي ألقى محاضرة الختام عن الديمقراطية وأثرت مسألة حمله لجواز سفر سوداني من نظام ديني فاشي كذلك كتابته الإيجابية عن تجربة السودان الإسلامية في مؤلفه (الحريات العامة في الإسلام)، وكانت مواجهة ساخنة ومحرجة له أمام مؤيديه. وعدني بحذف ما كتب عن السودان في الطبعة الثانية وللحقيقة فقد أوفى بوعده وجاءت الطبعة الثانية خالية من ذلك الموقف.

-1-
لذلك، منذ بداية الأحداث في تونس شعرت بالتزام أخلاقي للمساهمة في النقاش وإجلاء بعض الحقائق.
نشأت علاقة قوية وتأثير واضح للترابي على راشد الغنوشي، فالاثنان لم يرتبطا بحركة الإخوان المسلمين الأم باعتبار أنهما يمثلان تياراً تجديدياً داخل الحركة الإسلامية عموماً، وهذا التوصيف ليس بعيداً عن الحقيقة. ففي تونس كانت حركة النهضة بمثابة رد فعل على حداثة وعلمانية بورقيبة. وفي السودان كانت حركة الترابي حائط صد ضد النفوذ الشيوعي واليساري المتنامي وصعود القوى الحديثة ممثلة في النقابات والاتحادات المهنية. وكان الترابي يرى أن الأحزاب الطائفية التقليدية غير قادرة على صد الخطر الشيوعي لذلك عمل هو نفسه وسط القوى الحديثة التي بحزبيها الحزب الشيوعي واليسار. دعا الترابي والغنوشي إلى حداثة إسلامية مضادة للعلمانية والاشتراكية. ألقى الاثنان محاضرة في الموسم الثقافي الذي أقامه اتحاد طلاب جامعة الخرطوم (صاحب الاتجاه الإسلاموي) دورة 79- 1980 تحت شعار (التحدي الحضاري في الشرق الأوسط). ونشرت المحاضرة في كتاب مشترك تحت عنوان: (الحركة الإسلامية والتحديث) عن دار الجيل بيروت عام 1984م. واتفق الاثنان على ضرورة السيطرة على الدولة لضمان الأسلمة الكاملة (ص 40 الغنوشي وص 69 الترابي).
ابتعد الغنوشي عن التيارات الإسلامية في المغرب العربي وفضل التنسيق مع حركة الترابي باعتبارها نشطة في المجال السياسي، ولا تميل للوعظ والخطاب الديني التقليدي السائد.
ولكن هذا الوجود بين الطبقة الوسطى وضحايا ما يسمى بتحديث بورقيبة حمل خطر وجود وعي متميز بين العضوية وبرز تيار عقلاني داخل الاتجاه الإسلامي التونسي. وفي المؤتمر التحضيري لتأسيس حركة الاتجاه الاسلامي عام 1979 خرجت مجموعة أطلقت على نفسها اسم (الإسلاميين التقدميين) من رموزها صلاح الدين الجورشي وأحميدة النيفرة. وأعلنوا اختلافهمحول مرتكزين أساسيين في الجسم الإسلامي الجماعي للحركة الأول فكرها من جهة وفلسفتها التنظيمية من جهة أخرى (كتاب الإسلاميين التقدميين، صلاح الدين الجورشي، القاهرة ، دار رؤيا 2010 ص 15) وأخذوا على الغنوشي الميل إلى التوفيقية بالإضافة للتسيب الطائفي للحركة على حساب الفكري.
ويكتب الإسلاميون التقدميون عن مواصفات الخطاب الإسلامي الثقافي التقدمي، فقرة عن الإسلام والمستقبلية تقول: (يؤكد الإسلاميون التقدميون انتماءهم للإسلام عقيدة وثقافة وحضارة لكنهم يعلنون رفضهم اعتبار الإسلام قوالب جاهزة، فالإسلام عندهم إمكانية للتحقيق تأخذ بعين الاعتبار خصائص الواقع والمرحلة التاريخية التي يتنزل فيها لتجيب على إشكالات كل عصر بما يدفعه نحو الأفضل (كتاب المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين) صلاح الجورشي وآخرون دار البراق للنشر – تونس 1989 ص 50).

-2-
رغم الطرح الفكري المتقدم ظلت مجموعة الإسلاميين التقدميين جماعة نخبوية داخل الجسم الإسلامي التونسي، واستطاع الغنوشي من خلال حزب النهضة الشعبوي أن يوظف الشعور الديني لكسب جماهيرية، كما أنه استند على الدعم المالي الخارجي. ففي السودان كان محمد الحامدي الهاشمي هو مندوبه لدى نظام الإنقاذ وحصل على أموال هائلة فأصدر صحيفة المستقلة (في لندن ثم قناة تلفزيونية بنفس الاسم. كل هذا على حساب دافع الضرائب السوداني. والآن تقوم قطر وتركيا بمهمة الدعم للغنوشي بكل الأشكال. لذلك الحديث عن انقلاب في تونس مجرد أكاذيب وتزييف وعي، لأن حزب النهضة حصل على أكثر المقاعد في البرلمان من خلال الدعم الخارجي وليس الاقتناع الشعبي. كما أن أيديولوجيا الإسلاميين تؤمن بانتخابات المرة الواحدة، أي أن يفوزوا ثم يقومون بإلغاء التعددية والبرلمان. وصدق الرئيس التونسي السعيد بقوله (إنهم يريدون تفجير الدولة من الداخل) والرجل أستاذ قانون دستوري وليس جنرالاً لذلك قام بتجميد البرلمان وليس حله وكذلك رفع الحصانة عن الفاسدين من النواب، وكان أسرع منا في السودان في ردع الفساد. وبعد المحاكمات واسترداد أموال الشعب التونسي يمكن أن تجري انتخابات نزيهة.
هذا سقوط لآخر قلاع الإسلام السياسي لذلك تعالت أصوات التنظيم العالي للإخوان والمتعاطفين معهم الذين سكتوا ثلاثين عاماً على انقلاب السودان، وكان الإخوان يحتلون المرتبة الثالثة عددياً في البرلمان الذي انقلبوا عليه مكررين تجربة هتلر في ألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي.
1989 غير الاتجاه الإسلامي اسمه لحزب النهضة للتقدم لمجلس الأحزاب الذي اشترط عدم قيام أحزاب دينية لذلك قدم الاتجاه الإسلامي الطلب بالاسم الجديد ولكن رفض تسجيلهم إلا بعد الثورة عام 2011 تحت هذا الاسم. كان النقابي شكري بلعيد من المعارضين الأشداء لتسجيل الحزب تم اغتياله عام 2013 وضاعت التحقيقات أثناء حكم حزب النهضة، وهذه من التهم التي تحقق فيها لجان الرئيس السعيد بعد التطورات الأخيرة.

 

آراء