أم درمان العاصمة الوطنية، هي مقولة ازدهرت من بعد الحكم الثنائي.أهملها المستعمرون، لأنها وقفت لهم في صبيحة يوم مشهود في الثاني من سبتمبر 1898.
لم يكن لهم علم عما في النفوس من عقيدة في القتال، أشدّبأساً مما كانوا يعتقدون. لكن المدينة استسلمت بعد حرب غير المتكافئة، إذقرر الخليفة وما تبقى من جيشه الانسحاب من المعركة وتوجهوا غرباً.واستباح الجيش الفاتح أم درمان ثلاثة أيام. لم يتحدث الإنكليز في أسفارهم الموثقة عن تلك البقعة السوداء في تاريخ الغزو. لم أزل أتذكر أحاجي الجدّة " خريف " حين كانت تقول: إن أمهاتنا كنّ يحفرنّ في الأرض، حيث يختبئ أجدادكم وهم أطفال، ويتم سقف كل حفرة بجزوع الأشجار وجريد النخل والبروش، ويجلس النساء على سقف تلك " المطامير"، وسارت الخدعة على الضباط الإنكليز، ونجا أجدادكم من المذابح. فما كتب الإنكليز كثير شيء عن الموضوع، حتى الأطفال قاموا بذبحهم جميعاً خوفاً على أنفسهم مما شهدوه من جسارة في كرري لم يشهدوا لها مثيل من قبل.
أمدرمان، هذه القرية التي تُجاور مدينة الخرطوم، بقيت بقيّم الريف، وسلطان البوادي. كان أهلنا في أول القرن الماضي يعملون بالزراعة على الجزر الصغيرة التي تكونت على " النيل الأبيض " قبل اقترانه بالأزرق وكذلكعند جروف " الفتيحاب " مع شواطئ النيل الأبيض، أو تذهب مراكبهم لصيد الأسماك قرب" القطينة". فيغيب بعض الأهل بضع أشهر هناك. أذكر أن أحد هؤلاء الأعمام كانت يده من كثرة الاستخدام العنيف مع الشباك، مغطاة بطبقة ميتة من كِساء سميك، طبع يده التي كُنا نُصافح.
(2)
تلك ملامح القرية المدينة. وعندما تمددت، ذهبت غرباً حيث تكونت " أم بدّة ".هاجر إليها من لم تسعهم البيوت، من ازدحامها بالأجيال الجديدة. وكان لأندادنا والصحاب أن يرحلوا غرباً إلى القرية الجديدة. سعة في الأرض.البيوت غرف متناثرة، تم بناءها من الطين اللبن. تشارك الأهل مع الأعراق التي جاورتهم في القرية الجديدة الناشئة، وظهر التوجُس من الغرباء، ردةفعلٍ مُحافظة وسالبة، وتريّفت العادات أكثر فأكثر. وبدأتُ ألحظ تغيراً في مسلك أندادنا الذين رحلوا إلى هناك. بدأت الأجنحة المتمدينة التي كانت تسعى أن تخرج من أطراف صغار الطيور، وارتدّ الزغب من جديد وعادوا ريفيين، بل استوحشوا في عداوات غير مُبررة. للغرباء نظرات ترمقهممتوجّسة. تلمحها في الطريق العام أو عند مناسبات الأفراح، يفرح الجميع،ولكن تشوب مشاعرهم لحظات التوتر.
(3)
وقف رجل أمام الميكرفون في بداية الحفل. بدأ يجرّبه بالنفخ. وتستبين أنتالمعرفة الضعيفة بتقنية مُكبرات الصوت. إذن قد بدأ الحفل. هذا هو اليوم الثاني من طقوس حفل الزواج. بدأ الصوت عالياً. صاحبه يشير بيده اليُمنى:
(النُسوان بى جاي .. الرُجال بي جاي .. أبّان بناطلين بى جاي) ، نقدم لكم ثنائي أولاد أبوكدوك ، حيدر أم حُمّد ود عبد الواحد ، وفؤاد خوجلي أبو الجاز .
صفق الصغار وعلا الصفير بالترحيب.
الليل لم يزل طفلٌ في الساعة التاسعة مساء. كانت سلسلة أغنيات في الفاصل الأول، فقد تدرّب ثنائي أبو كدوك في "دار فلاح للغناء الشعبي"،كان لما يسمى بالغناء الشعبي في ذلك الزمان جولات وصولات. وكان فن الغناء الشعبي هو الغالب في حفلات ومناسبات الأفراح. بدأت الأغنيات هادئة الإيقاع، ليعتاد الجميع الانتظام. " رمّية " إحدى الأغاني: (الليلة كيف أمسيت.)، ذات البدايات التي ابتدعتها أغنية الوسط منذ الأربعينات. فاتنةواحدة أو اثنتان يتم اختيارهُنَّ لرقص الحمام.
الليل كما اعتاد العامة أن يقولوا " هو طفلٌ يحبو ". كشافٌ مُعلقٌ على جانب عالٍ في مكان الحفل، يكشف بأضوائه عتمة الليل، فالليل بلا قمر لُجة داكنة.
(4)
تسلسلت الأغنيات طرباً، وبدأ الايقاع رويدا يُسرع الخُطى، وضحكات السرور تبدو على الأوجه. بدأ أولاد أبوكدوك الفاصل الثاني بسلسلة من أغنيات " من أشعار " " أحمد محمد الشيخ – الجاغريو ":
**
الأباح دمي قلبي حَبّاهُ
الشغل فكري لاهي في رُباهُ
الزهور في الروض بيهُ إتباهو
البِميل طربان رُوحهُ عاجباهُ
حبيبي وين يا ناس
**
وأغنية:
**
آه من آهات قلبي الإبتلوهُ
هاكُم قلبي للمحبوب سجّلوهُ
كلما فني يعلو حُسنُه يزيد عُلوهُ
ما قَادر أميّز يا ناس أسألوهُ
مَلاكْ للناس مَهَالِكْ مِن سما أنزلوهُ
هو حُسن المحاسِن مِن حور عَزلوهُ
**
إن كنتَ مُعلقاً على مخلب نسرٍ جامح، اختار العلو مكاناً، لشهدت مكان الحفل بقعةً بيضاء، ومن حولها ظلامٌ دامس. إن دقّقت في انعكاس الضوء على الأوجه والثياب النسائية، لحسبتَ أن القمر هو " الكشاف " المضيء،ومن حوله الأنجُم النسائية. كان المساء حالماً وشاعرياً، تقف أنت مأخوذٌبحزمة مشاعر. حول مكان الحفل باحةٌ واسعة. حولها غرفٌ بُنيت بالطين اللّبنبلا أسيجة أو أسوار. تشهدها ذلك المساء جسوماً سوداء متفرقة. لكل طائفة مشربها. لم أكن أحس الغرباء في الحفل، ولكنهم كانوا موجودين. عيونٌأخرى مُتربصة ومتوجسة، تُدقّق على الحضور. رقابة لصيقة.
(5)
رقص الحمام، ترفٌ ومُتعة إن راقبتها، تجد الإوز تسبحُ في بركة ماء هادئة.الأجساد النسائية تتمايل وتنثني، بمرونة. والشعر المسترسل، أثناء الرقص،يكاد يمس الكُرة المستديرة التي توازن جسد الراقصة، فتتلبسُك شياطين الزمن الغابر. وتذكر حديث جدّكَ حين كان يقول:
- (لا تَسِر من خلف النساء، فإن أطفال الشياطين يتراقصون بتلك الكُرة المُشتهاة. هُنَّ يسرنَّ ولا يعرفنَّ ما تفعله الغواية، فالكون ينز بالشهوات.)
علا صوت من الميكرفون:
(يا شباب ...الشَبَّال ممنوع).
وسط شبكات مُتقاطعة بالنظرات، تجد نفسك كأنك المقصود بسهام العيون الضاحكة، ولا تعلم أن النظرة الرشيقة المُثقلة بالشوق تستقصِد من يقف خلفك!
أغنية السَيرّة، تأتي في نهاية الفاصل الغنائي: أيضاً للشاعر " أحمد محمد الشيخ – الجاغريو، ود الشيخ إدريس ود الأرباب:
**
على زاد حُب السرور .. بالحواتي جَاري الشبكة ام طرور
الصَيرة جَاتْ شايلة تَمام .. صَفّر غلبو الكلام
تسعة قُفاف .. ياسلام
يا الحوّاتي جَاري الشبكة ام طرور
ساعة النسّيم اتنسم .. ضحك القَدر وابتسم
الموج صَاميهو صمّ .. مَا بدقْدِق قلبو الأصم
قُوم يَا أبوزيد شيل الفاس .. شِق العُود غَدي الناس
أعمل المِلح بالقياس .. خُت البَرِق جنب الراس
**
كأنه إيقاع شيطاني يتلبس الحضور. يهُب الجميع يلوّحون بأجسادهم والعصي تتقافز في كبد السماء. الإيقاع مثير، يجعل الجميع يسبحون في نشوة. استرخت الأجساد على بعضها. هبطت الكواعب إلى منتصف " السباتة ". الجياد المذهبة بالحلي تتلألأ. نسمة هواء تتحرك كأنها تبحث عن دور لها في المسرح الذي يضجّ بالحضور، فمن يُخفف الاحتقان؟ المؤسسة المحافظة التقليدية تُنشب أظفارها من حولنا وتترصد. الغبار الدقيق يتصاعد من منتصف المكان. نحن الآن في قمة مشاعر متقلبة. تستيقظ الأحلام وتتحرك بيننا. الجنس اللطيف مكنوز هنا ومبهرج بالحضور والزينة والروائح الهدّامة. غزلٌ عفيف، يتنقل عبر رسائل ضبابية، من طرف إلى آخر. في منتصف بؤرة المكان يتنقل الأطفال لؤلؤاً منثورا.
(6)
غريب حين تتفقد أقرانك الذين قضيت طفولتك بينهم وقد تريّفوا، وصاروا أكثر بداوة مما كُنتَ تحسب. لغتهم بينهم كأنهم يخفون ما لا تعلم. لقد تساكنوا مع الغرباء الجُدد في تلك البقعة، مع أطيافٍ متنوعة من العشائر و الأعراقالسودانية. يتوجسون.
فجأة وبلا سابق إنزار ،سمعنا عصا تضرب النور الكشاف وتكسره وتعود الظلمة. أشباح تتعارك. يبدو أن معركة نشبت، مثل التي نعهد دائماً في كل مناسبات الأفراح. ودون أن نعي سمعنا صوت يئن: