ثقافة الموت والحقد والكراهية: الجنس مُحفِّزاً!: (الجزء الاول)

 


 

 

 

لم أكد أختم هذه المقالة حَتَّى بلغني استشهاد الطالب محمد علي عبدالله الذي أُصيب إثر اعتداء رابطة المؤتمر الوطني على الطلاب بداخلية جامعة أمدرمان الإسلامية، والذي تدهورت حالته ليموت سريرياً منذ ذلك الحين إلى أنْ فارق الحياة صباح الثلاثاء الموافق 14 سبتمبر 2017. لعلّ الطالب محمد علي عبدالله أراد أنْ يبصم بدمه على هذا القرطاس، ويؤكّد بأنّ دارفور تخيفهم إذ تتوغل في الوعي القومي بما تحمله من إرث سوداني وإنساني يأبى الضيم، ويرفض الذل مهما غلى الثمن واستجارت المحن.
إنّ حادثة الاغتيال للطالب جعفر عبد البارئ الملقب بـ(جيفارا) ورفاقه وارتباطها بحادث أخلاقي تثبت النظرية القائلة؛ بأنّ الجنس سلطة تفضح كُلّ السُّلط (إبراهيم محمود، الجنس في القرأن، ص: 20)، فالطلبة الذين وجدوا زملاءهم متلبسين بفعل أخلاقي مشين (مصطلح يعرف عند الزملاء القانونيين بـ flagrante delicto)، لا شكّ أنهم أنكروا عليهم فعل الفاحشة، لكنهم في الوقت ذاته أرادوا بالتصوير أنْ يثبتوا للعالم أنّ ما يمارسه عليهم المؤتمر الوطني (وحلفاؤه من السلفيين) من سلطة أخلاقية في الفضاء العمومي قد افتضح أمرها في الفضاء الخاص، أمَا ردة فعل الجناة فتجاوزت المقاومة أو الممانعة لنشر الفضيحة إلى قتل الجهة التي يرونها تُشكِّل مُهدّداً لكيانهم بنشدانها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.


وقد يختلف السيناريو تماماً في بيئة اجتماعية أخرى مثل الولايات المتحدة؛ لأنّهم العنصريين الذين يستهدفون المثليين، بل ويضربونهم بمضرب الـ Base Ball حَتَّى الممات، لا يفعلون ذلك غيرة على الأخلاق، إنما لأنّ المثلي بالنسبة لهم يدخل في عداد الأقليات التي تستهدف سلطة الرجل الأبيض المطلقة، وعنصريته المتدثرة بدثار أخلاقي.


موقفهم هنا يشبه موقف النُّظم الوهابية التي تجعل من قضية المرأة سلوكاً أخلاقياً، أيّ أنّها تنظر إلى كافة قضايا المرأة من زاوية أخلاقية محدّدة تعتبر العيب والعار مرتبطيْن فقط بسلوك المرأة الجنسي (حيدر إبراهيم، أزمنة الريح والقلق والحرية، ص: 272).
رغم أنّ الجنس في الإنسان دافع غريزي، إلّا أنّ فقهاء تلك البقاع ومَن تابعهم، يرفضون أنْ ينظروا إلى الجنس كمسألة اجتماعية تتحدّد وتتأثر بالعلاقات الإنسانية والشخصية المتبادلة، فالجنس إلهام ذاتي يتفوّق الإنسان من خلاله على ذاته باكتشاف نوعه، وبتبيّن قدرته على التفاعل (عبد الوهاب بوحديبة، الإسلام والجنس، ص: 145).


يفعل الفقيه ذلك متأثراً بالوعي السياسي الذي يرفض امتلاك المرأة لوسائل الإنتاج الصناعية والثقافية (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/متعة الولدان وحب الغلمان، ص: 318). من ناحية اقتصادية هو يقاوم تغيير صيغ الملكية التي تعتبر جاهلية حَتَّى بحكم الصيغ الإسلامية التقليدية؛ من ناحية ثقافية هو يرفض الحداثة التي يراها مناقضة لقيم الدين الحنيف. لا ينزعج الفقيه إذا واجهته بإحصائيات تثبت انهيار المنظومة الأخلاقية بمعناها الدوغمائي، فهو غير معني بتقارير المراجع العام، طالما هنالك التزام مظهري وتديُّن شكلاني يحافظ له على سلطته الاجتماعية. وعندما يفصح الطبيب محمد محيي الدين الجميعابي، ويجاهر بازدياد عدد الأطفال غير الشرعيين، وانتشار العاهات اللوطية وسط المراهقين؛ هو لا يسعى لمراجعة الأسس الفكرية والفلسفية للمشروع الإسلاموي، إنما يريد أنْ يردّد ما يقوله وعاظ التلفاز - عمرو خالد وآخرون - من أننا نحتاج إلى مزيد من الالتزام بالأخلاق، أو أنّ الشريعة الإسلامية لم تُطبّق تطبيقاً جيّداً كما يقول بعض أئمة الطائفية أو السلفية.


واقع الأمر أنّ هنالك إشكالات عميقة في الإسلام الذي ورثناه عن بني أُميه، وعمل على إعادة إنتاجه حديثاً آل سعود قبل أنْ يتنكّروا لذلك؛ وينشدوا علمانية وجودية لا تعترف بأيٍّ من قيم الحداثة، ورافضة لتلكم المؤسسية. لقد حقّقت حقبة التنوير على الصعيد الأوربي، ومن بعدها على الصعيد العالمي انقلاباً مفاهيمياً نقل الشرعية من رواة "معرفة السلطة" إلى رواة "سلطة المعرفة" (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/الجنس والحضارة، ص: 204). فاتسعت بذلك مديات اختيار الإنسان في العصر الحديث، وأتاحت له الفردية حرية الاختيار ما بين أمور عديدة ممكنة، ومن ثَمَّ أطلقت سراحه من ثنائية الحقّ والباطل التي أطَّرها الفقهاء وفق نظرتهم المتعالية للمعارف والأحكام.


إنّ التعامل مع كلام الله بنفس المنهج الذي نتعامل به مع كلام البشر يفصل الدين عن ارتباطه بالعناصر الاجتماعية والتاريخية المؤطرة للتجربة الدينية، ويشرعن لنظرة غير إنسانية تحرم الإنسان من فرصة التفاعل المعنوي مع أبعاده الوجودية المختلفة. فالنبي (صلي) لم يقدّم أطروحته الإصلاحية الأخلاقية إلّا في حدود ما يراہ مناسباً لطبيعة الوعي الأخلاقي لأبناء عصره ومجتمعه، وهؤلاء بدورهم لم يفهموا الدين إلاّ وفق ما تملي عليهم إنسانيتهم (محمد مجتهد شبستري، تأملات في القراءة الإنسانية للدين، ص: 149). من هنا فَهِم السادة الأكابر أنّ نُشدان المطلق غير ممكن، وأنّ القصور الإنساني هو عين التوحيد (لو أنّك عرفت الحقيقة المطلقة لحقّ لك أنْ تكون إلهاً). فالمسلم مثلاً لا يروم نظاماً سياسياً يتوهّم فيه تحقيق ذاته الذاتية والتاريخية، إنما يروم نظاماً لأنّ مبانيه وقِيمه تتيح له بناء ذاته المعنوية. ليس المطلوب من المسلم إسقاط "نظام سماوي مُقدّس" إنما المطلوب منه تحري (أي) شكل من أشكال الحكم تتحقّق به العدالة. المسعى الأول يضع الإنسان ويؤطِّر مسعاہ في ثنائية الحقّ والباطل، والمسعى الآخر يحثُّ الإنسان - في هذہ الحالة المسلم - على تنضيج قابليته الروحية لاستيعاب الخطاب الإلهي دون الداعي لإهمال قابليته الفلسفية والأنثروبولوجية والعلمية.


فيما قد يلجأ البعض إلى منهج الماضي الذي يمنع من فهم إنجازات العصر الحديث التي تضمّنت كلمات مثل حرية وفردية ومساواة وكرامة مفهوماً موضوعياً، يسعى بعض العلمانيين لاستعارة مصطلحات لتبرير مفاهيم حداثوية. كلا الأسلوبيْن لا يجدي في إحداث التطوير والتحديث المنشود، لا على المستوى الفردي أو المؤسسي. إنّ الشجاعة الفكرية تتطلّب الإقرار بضرورة الانتقال من علم أصول الفقه إلى "العقلانية الوجودية الهرمنيوطيقية" واعتماده كوسيلة لتفسير كُلّ الخطابات الواردة في القرآن (محمد مجتهد شبستري، تأملات في القراءة الإنسانية للدين، ص: 76).


لقد دعى نبي الإسلام سيدنا محمد (صلى) إلى مبادئ ترتجى، أمّا النموذج الذي ورثناه من بني أمية - الذين تنكّروا لمبادئ هذا النبي العظيم ووأدوا تجربته وحرموا أصحابه من التطوّر والنضج المنشود- فنموذج يجب ألاَّ يُحتذى. بل يجب أن نقاوم أيّ محاولة للترويج لهذا النموذج على أساس أنّه إسلامي. ولو لم يتعرّض هذا النموذج لأيِّ تشويه متعمّد من قِبل رواة الحديث الشعوبيين، والذين في سبيل الانتصار لمعاوية وشيعته حرّفوا معالم الدين الحنيف، بل قنّنوا للاستبداد الذي نعيش آثاره اليوم، تبقى التجربة رهينة العقل القروسطي الذي يرى لزاماً تعريفاً للسياسة من منطلق إيماني، فانحسار هيمنة الدين على الحياة المعاصرة لا يعني مطلقاً الانعتاق من سلطة الوحي، إنما يعني رفضنا لاستخدام لغة التكليف في السياسة والحكم؛ لأنّ ذلك ومن واقع التجربة العلمية قد أفرغ الدين من محتواه الأخلاقي. عوضاً عن التعويل على الحريات الإنسانية؛ فإنّ القراءة الفقهية الحكومية تعتمد في تفعيلها لمنظومة السياسات على السلطوية التي تتعارض مع الديمقراطية وتنافي مبدأ الاختيار(محمد مجتهد شبستري، تأملات في القراءة الإنسانية للدين، ص: 56).


لا يكفي فقط أنْ نقرّ بفردية الآحاد، إنما يلزمنا أيضاً أنْ نقرّ بأنّ "لكُلّ فرد أيقونته الخاصَّة غير القابلة للاستعارة" (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/متعة الولدان وحب الغلمان، ص: 17). هذا الأمر أساسي بالنسبة لتصميم السياسات، تنفيذها واستدامتها، لأنّه يجعل المجتمع هو المنشأ (وليس المنتهى كما هو في حال القراءة الفقهية)، الذي منه وبه يمكن أنْ ننشد قراءة إنسانية للدين تتجانس مع المبادئ العلمية والفلسفية، ومن ثَمَّ ترفد السياسة، ديمقراطياً وسياسياً، بتوصيات أخلاقية لا يخرج مضمونها عن تحري شكل من أشكال الحكم المناسب لتحقيق العدل.


إنّ قمع الإنسان وحرمانه متعة الاستمتاع بفرديته (وحَتَّى فردانيته)، قد حرم المجتمع والدولة من عنصر إثراء مهم، الأخطر أنّه أدّى إلى عزلة هذا الإنسان وسهّل انسحابه من الفضاء العمومي. وهو إذ يجد نفسه متضائلاً ومتلاشياً، فإنّ هذا الشخص ينسحب إلى الفضاء الخاص ليمارس حريته التي اقتصرت على رغبته في طلب المتعة الجنسية بعد أنْ استحال إلى كائن إيروتيكي، أو كائن مقموع لا يرى سبيل لمقاومة السلطة السياسية إلاَّ بتفنيد مبادئها الاخلاقية المفروضة عليه جبراً في الفضاء العمومي.
هنالك نوعاً من التبادلية، فكثيراً من القيادات هرعت إلى الفضاء العمومي للتداوي من عاهات أخلاقية أو علل اجتماعية. اشهر هؤلاء كان واحداً من القيادات المايوية التي تلجأ إلى تعذيب المعتقلين، دفنهم أحياء، أو إساءتهم وتعمد التنكيل بهم متى ما انقشع غبار المعركة وبردت الذخيرة.


كان فيما قال لعباس برشم (جبال النوبة) وهو مُقَيِّد بعد محاولة الشهيد حسن حسين الانقلابية، أنتو غرّابه وعبيد جايين تحكموا الخرطوم؟!


كان ردّ عباس برشم له، وهو المعروف بأدبه الجمّ وتقواہ، إلاّ أنّ رداءة وسفاهة هذا الشخص، قد استفزته فقال له: إنتو لوا...طة حكمتوا الخرطوم، ما الذي يمنعنا نحن من حكمها؟


هذہ العبارة أو الحوار بمضامينه الأخلاقية، وخلفيته السياسية والاجتماعية يساعدني في تبيان (وليس تأسيس) العلاقة بين الجنس والعنف والعنصرية في السودان. فالعاهة الأخلاقية في الفضاء الخاص تجعل الإنسان يتبنّى عنفاً في الفضاء العام مبرّراً له بتصوّر دونية عرقية للآخر. وقد يرتكب شخص مثل أبو نواس الخطايا الكبرى، لأنّه يعتبرها كيانية لأنّها رمز الحياة، ورمز التمرّد والخلاص (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/متعة الولدان وحب الغلمان، ص: 245). كان بمقدور أبو نواس أنْ يتظاهر بالدين لنيل رصيداَ من حسن السمعة وكسب سمة التوافق الاجتماعي، أو التمرّد وتحويل غرائزه إلى إبداع تتحوّل به الخمرة من مادة إلى فكرة، ويستحيل معه اللواط إلى وسيلة لفضح ممارسات صديقه ونديمه الخليفة الأمين في الفضاء الخاص. لقد غالى الفقهاء، كما الشعراء، في تصوير مجون أبي نواس حَتَّى زعموا أنّه مارس اللواط في الحج، لأنّه فضح تواطؤ المجموعة الأولى مع الخليفة الظالم، ولم يستنكروا الظلم وغياب العدل الاجتماعي، ولأنّه ثار على منهج القصيدة التقليدي ففضح عجز المجموعة الثانية وبيّن عدم قدرتها على مجاراته في التجديد.


لا ندري إنْ كان أبو نواس لوطياً، أم لا، لكنَّا نجزم بأنّ شهرة اللواط كان فيها رمزية يودُّ الرواة الإشارة من خلالها إلى القول بأنّ هذا الخليفة المُستبد (أمير المؤمنين) الذي يركبكم في الفضاء العمومي هو "مركوب" في الفضاء الخاص. لا يخفى على القارئ الحصيف مركزية القضيب في الثقافة الشرقية، أو تاريخياً في الأنظمة الاستبدادية، التي إنْ لم تقو على الانتقام منك حسّياً فرمزياً من أنثاك. ولعلّ قولهم "كو.. أمك" استعارة لحقيقة مازوخية وعدوانية متأصلة في عقلياتنا وسلوكياتنا اليومية.


إنّ محاولتنا لإنكار اللواط المتفشي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أو الإقرار به كوافد من الأجنبي. أو الآخر (الجلابة، أولاد المدن، الأتراك، إلى آخره)، هي محاولة أخرى من محاولات خدعانا لذواتنا. أمَّا فصل حادثة اللواط الأخيرة عن العنف والعنصرية، فبلادة أو كسل ذهني أو فكري - السمتان الملازمتان أو العاهتان، التي اتسمت بها النخب السودانية تاريخياً وتقليدياً.
صحيح أنه يمكننا دراسة كُلّ ظاهرة على حِداها، لكنه أيضاً يلزمنا تفحُّص طبيعة العلاقة المفضية إلى دينامية سلبية بين الجنس والعنف والعنصرية. بفضحهم الطالبيْن المنتميين إلى تنظيمات إسلامية وقد ضبطا وهما يمارسان الفاحشة، فإنّ طلاب دارفور المناوئين للنظام سعوا لتجريد "الأمويين الجُدد" من سلطتهم الأخلاقية التي ظلوا يمارسونها باسم الدين. من هنا نرى كيف أنّ الجنس أصبح المكان الذي انعقدت فيه حقيقة الذوات المختلفة سياسياً، وقد كان من الممكن أنْ لا تبرح المجموعتان هذہ الخانة لولا أنّ طرفاً أراد أن يستغل هذہ الحيثية ليحرم طلاب دارفور من المقاومة المدنية، كواحدة من أفتك الأسلحة التي تمَّ بها هزيمة الطغاة عبر الدهور كآفة، فلجأ إلى العنف الذي تبرّرہ العنصرية وتسعى إليه القنوات الرسمية.


auwaab@gmail.com

 

آراء