ثلاثة قضايا منافذ لحل الأزمة في البلاد

 


 

 

أن الأزمات السودانية التي بدأت تتوالد منذ سقوط رأس نظام الإنقاذ حتى اليوم، احد أسبابها الرئيس؛ لم يكن هناك مشروعا سياسيا متفق عليه من قبل كل القوى، و على ضوء هذا المشروع تتم محاسبة السلطة التنفيذية أول بأول من قبل الحاضنة و المراقبين و لكنه لم يحصل. أن عدم صياغة مشروع من قبل أي حزب سياسي أن كان صغيرا أو كبيرا حديثا أو تاريخيا لكي يقدم للحوار السياسي و المجتمعي، يؤكد حالة الفقرالفكري التي تعيشها المؤسسات الحزبية، و يوضح أنها تعاني من إشكالية في العناصر التي تشتغل بالفكر، باعتبار أن هؤلاء المفكرين يستطيعون أن يقدموا مبادرات و رؤى تعزز من قضية الوعي في المجتمع، و أيضا يفتحوا نفاجات متواصلة للحوار السياسي، الذي يعتبر أهم أداة تؤدي إلى تعزيز الثقة بين القوى الفاعلة في المجتمع، و في ذات الوقت يكون لهم القدرة على تقييم مسيرة العمل السياسي، و فحص الأدوات المستخدمة إذا كانت تعمل بصورة فاعلة أو معطوبة، أو تحتاج لتغيير بأدوات أكثر فاعلية. لآن مهمة المفكر أن يدفع يوميا بقضايا جديدة يحرك بها ميكنزمات العمل السياسي، و يعمل على تجديد الأسلئة المطروح في المسرح السياسي، لزيد من فاعلية العقل في التفكير الصحيح، هذا يساعد في التعاطي الإيجابي مع القضايا و البحث عن حلول لها.
أن الأزمة التي حدثت بين المكونين المدني و العسكري، ليست أزمة عابرة، أو جاءت نتيجة لأسباب موضوعية في خلافات حول إدارة سلطة الفترة الانتقالية. الأزمة كانت لسببين. الأول أختلاف الثقافة و طريقة التفكير بين الجانبين، خاصة أن البلاد خارجة من نظام استمر ثلاثة عقود خلف فيها تراكم كبيرا للثقافة الشمولية، و كل جنرالات المؤسسات النظامية كانوا هم حماة هذه الثقافة الشمولية، و كانوا مستبطنين هذه الثقافة، و أصبحت تتحكم في طريقة تفكيرهم، و بالتالي ليس بين يوم و ليلة سوف يصبحوا ديمقراطيين، المسألة تحتاج لوقت طويل تستطيع أن تنتج المؤسسات الديمقراطية ( الثقافة الديمقراطية) المطلوبة التي تنداح على الثقافة الشمولية، و كان على القوى المدنية أن تضع هذه في الاعتبار. السبب الثاني الميل لفكرة السلطة دون فكرة التحول الديمقراطي. ففكرة السلطة و السعي لها و الرغبة في الوصول إليها تولد الصراع، ليس فقط بين المدنيين و العسكر، و أيضا بين المدنيين أنفسهم و هذا الذي حصل. و عندما يتحول الصراع داخل السلطة بين المدنيين و العسكر لابد أن يقع الانقلاب لآن العسكر هذه أداتهم و لا يملكون غيرها. فالعسكر لا يستطيعون التعامل في الصراع السياسي بأدوات السياسيين بل يتعاملون بالادوات التي يعرفونها أكثر.
في ظل هذا الوضع المـأزوم، و الذي زاد تأزما بانقلاب 25 أكتوبر، و رفع شعارات صفرية، لكن دائما العقل المفكر يفتح منافذ للحل في ظل هذه العتمة، فجاءت مبادرات عديدة من مؤسسات أكاديمية و أجتماعية، و رجال الأعمال و مبادرة الأمم المتحدة و غيرها، و كلها محاولات تهدف لمحاصرة الأزمة، و إيجاد حل عبر توافق وطني يؤدي إلي العمل من أجل انجاز مهام الفترة الانتقالية. لكن المطلوب كيف تستطيع القوى المدنية توحد خطابها السياسي و تخلق مركزية واحدة تستطيع أن تدير بها الأزمة. من جانب و من جانب أخر هناك ثلاثة قضايا بدأت تتخلق لتخلق واقعا جديدا، و تتمحور في الأتي:-
1 – القضية الأولي: أن الميثاق الذي قدمته لجان مقاومة ود مدني و بعض لجان مقاومة في ولاية الخرطوم، يعتبر نقلة نوعية و خطوة في اتجاه تنشيط العقل السياسي، للخروج من دائرة الجدل البيزنطي الذي يعتمد على الشعارات كأرضيات للحركة السياسية، و الشعار نفسه بهدف ملء فراغ لم يستطيع الفكر إطالته ، أن المواثيق أو الميثاق كورقة مقدمة تحتوى على تصور كامل لحل الأزمة، سوف يخلق واقعا جديدا في المسرح السياسي، لأنه يفتح منافذا للحوار بين التيارات الفكرية المختلفة، و الحوار الفكري هو الذي يقود نحو المسار الصحيح، لأنه يخرج الناس من دائرة الاتهامات و الشكوك إلي حوار فكري إيجابي يتعلق بشروط التوجه إلي تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، و تشكيل المؤسسات المطلوبة، و المفوضيات و المؤسسات العدلية. و أن الاتهامات التي يطلقها البعض بأن اللجان التي صاغت الميثاق تتبع لحزب سياسي، لا تقلل من قيمة الجهد المقدم. لآن الميثاق مطروح للحوار فيه الكثير من المتوافق عليه و أيضا من المختلف عليه، لكنه يخضع للتمحيص و الحوار لتطويره و يشكل قاعدة للتوافق الوطني.
2 – القضية الثانية: قال الناطق الرسمي بأسم قوى الحرية و التغيير ( المجلس المركزي) جعفر حسن عثمان لقناة الجزيرة مباشر، أن قوى الحرية مع تشكيل الوزارة من كفاءات مستقلة لها خبرات تساعدها على أنجاز مهامها، و أن قوى الحرية لا تريد أن تدخل حتى في اختيارهم. هذه الحديث يقرب المسافات. كان المتوقع من القوى السياسية التى كانت في سلطة الفترة الانتقالية قبل انقلاب 25 أكتوبر، أن تقدم تقييما موضعيا للشعب السوداني تبين فيه أسباب تعثر الفترة الانتقالية، و تبين رؤيتها للحل. و هو بمثابة نقد تعلم فيه الناس السلوك الديمقراطي المفترض أن يكون، باعتبار أن الأحزاب مناط عملية إنتاج الثقافة الديمقراطية، و ترسيخها في المجتمع، و تكون بداية لمفارقة ثقافة التبرير التي اعتمدت عليها القوى السياسية طوال مسيرتها التاريخية، فالنقد ليس عيبا بل هو تصحيح لمسار، كما أن النقد بالصورة العلمية يقلل فرص تشكيك و فاعلية أدوات الثقافة التي خلفها النظام الشمولي.
3 - القضية الثالثة: قبول القوى السياسية بمبدأ الحوار، باعتباره الآلية الناجعة للخروج من أزمات الثقة، و سوف تخلق واقعا جديدا. قد تبين ذلك من خلال قبول الجميع لتلبية دعوة فوكلر رئيس البعثة الأممية، و مهما حاولت بعض الأحزاب أن تبرر ذهابها لفوكلر، لكن تلبية الدعوة نفسها شيء إيجابي، باعتبار أن الدولة المدنية الديمقراطية لا تبنى بالأمنيات، و الشعارات، بل تحتاج لعمل دؤوب و صراع فكري و ثقافي متواصل، لغيير كثير من الأفكار الخاطئة و المغلوطة، و تقديم تنازل من قبل الجميع، و يجب الضغط على الجراحات. إذا أخذنا جنوب أفريقيا مثالا لهذا التسامح: رغم الاضطهاد العنصري الذي تعرض له الأفارقة في وطنهم و القتل و التعامل الدوني، لكن دائما الذين يصنعون التاريخ يعرفون كيف يتعملوا مع هذا الواقع الأليم، لكي يصنعوا وطنا مستقرا أمنا، و تنمية مستدامة. نظام الأبرتايد سجن نلسون ماندلا 26 عام من 1964إلي 1990م عندما طلب بعض المؤمنين بقضية الديمقراطية و الوطن للجميع أن يقنعوا رئيس المؤتمر الوطني الحاكم بيك بوتا أن يلتقي بنيلسون ماندلا في حوار لحل مشكلة جنوب أفريقيا، التقي بيك بوتا و ماندلا على مائدة عشاء في منزل بوتا، و جاء ماندلا للعشاء من السجن مباشرة، و تم الحوار، و طلب ماندلا من بوتا أن يناصر عملية التغيير، لكنه تردد، ورجع ماندلا السجن حتى انتخب ديكليرك رئيسا لحزب المؤتمر الحاكم، سار ديكليرك في طريق التغيير، و اتفق مع ماندلا على عملية التغيير " الحقيقة و التسامح" و خرجت جنوب أفريقيا من نظام الآبرتايد العنصري. عندما سئل ديكليرك لماذا اختار ماندلا المسجون و ليس قيادة حزب المؤتمر الأفريقي. قال ردا على ذلك: أن الرجل الذي يسجن طوال هذه السنين و لا يتردد أن يذهب لسجانه لكي يتحاور معه في منزله على مستقبل وطن و شعب، هو الذي ينطلق من منصة وطنية خالصة. لآن نظرته سوف تكون من أجل الوطن و ليس لشيء أخر. الأوطان لا تبنى بالشروط التي تعلق السلاسل في اعناق الآخرين، بل أن تحرر الكل من القيود التي وقعوا فيها حتى المخطئين، أنت تصحح أخطاء الماضي من خلال قيم جديدة فاضلة يلتزم بها الجميع، سقطت الإنقاذ لأنها حرمت الآخرين من حقوقهم السياسية، و سقطت الإنقاذ لآنها ذهبت في طريق الفساد و نشر الفرقة بين ابناء الوطن الواحد، و أي مسار في هذا الطريق تحت أي مبررات لا يقود إلا لعدم الاستقرار.
المشكلة غير المنظورة في المجتمع؛ أن الإنقاذ خلقت حالة من الاستقطاب الحاد في المجتمع، ليس وسط العامة و البناءات الأولية في المجتمع. و لكن وسط النخب السياسية و المثقفة، لذلك أصبحت الفئة المناط بها أن تسهم مساهمة كبيرة بفكرها و تصوراتها للخروج من الأزمة، و طرح المبادرات الوطنية، هي نفسها وقعت أسيرة لعملية الاستقطاب، و باتت جزء من المشكلة، هذا الواقع لابد أن يحدث فيه تغييرا جوهريا، أن يعود العقل لكي يؤدي مهامه في عملية الحل و البناء. و الخروج من دائرة الاستقطاب إلي تقديم مبادرات وطنية تهدف إلي حل أزماته. و السؤال هل بالفعل أن النخب السياسية و المثقيفن قادرين على التفكير خارج الصندوق؟ و هل أيضا يملكون الطاقات الإبداعية التي تجعلهم في حالة مساهمة إيجابية؟ و أيضا قادرين مغادرة منصات الصراع الأيديولوجي؟ نسأل الله حسن البصير.
zainsalih@hotmail.com

 

آراء