ثمن الكهرباء وقيمة حياة الإنسان في السودان

 


 

 




Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

(1)

تحدث أئمة مساجد العاصمة السودانية بما يشبه الإجماع يوم الجمعة الماضي منددين بقرار وزارة الكهرباء مضاعفة أسعارها أربعة أضعاف للمستهلكين السكنيين، وبدون إنذار سابق وبدون إعطاء تبريرات. وطالب الأئمة بإلغاء الزيادة فوراً، خاصة كونها اتخذت في رمضان وذروة فصل الصيف. ولأن أئمة مساجد الخرطوم بالقطع لا يتلقون الوحي من السماء، فإن جهة ما لا بد أن تكون أوعزت لهم بهذا الهجوم، أو على الأقل أذنت به، خاصة أن الإعلام الرسمي بث بعض هذه الخطب وكررها في نشراته الأخبارية. ويعزز هذا التفسير قيام الحكومة بإلغاء الزيادات في أسعار الكهرباء في اليوم التالي.


(2)

كل الدلائل تشير إلى وجود صراع قوى داخل النظام بين وزير الكهرباء، أسامة عبدالله، وجهات أخرى منافسة. وقد ظل عبدالله، الذي تربطه علاقات شخصية وأسرية حميمة بالرئيس، رجل النظام القوي بلا منازع، إلى درجة أنه كان يرفض تنفيذ قرارات أصدرها الرئيس بنفسه. وقد تعرض الرجل لهجوم غير مباشر إبان الأزمة الاقتصادية الأخيرة، عندما قررت الحكومة تأكيد ولاية وزارة المالية على المال العام، ووقف الصرف خارج الميزانية. وهذا بدوره حرم الرجل من وضع عبدالله يده على أموال طائلة كان يجب أن تذهب للخزينة العامة، ومن استخدامها لتعزيز نفوذه عبر الصرف على مؤسسات الحزب، وعلى شركات ومؤسسات يوظف فيها الموالين له. وقد أوردت بعض الصحف أن الوزير هدد بالاستقالة رداً على إلغاء الزيادات.


(3)

لم نسمع قبل ذلك من الأئمة إياهم أي خطب تندد بالحرب التي شنها الوزير على الأبرياء من ضحايا السد، حين قام بإغراق منازلهم ومزارعهم وتشريد عشرات الآلاف، ورفض دفع التعويض العادل للمتضررين. لم نسمع كذلك خطباً تندد بقيام إدارة السدود باقتراض بلايين الدولارات بالربا المحرم، وإنفاق قدر كبير منها في الدعاية المضللة لنفسها، وتنظيم الزيارات للسد على حساب الحكومة كما لو كان بيت المقدس. ولا شك أن قطع أرزاق الناس ونهب حقوقهم، وقول الزور والعمل به، وتبديد الأموال العامة سفهاً، والإسراف في تزكية النفس، كلها من أكبر الكبائر عندالله تعالى.


(4)

لمن نسمع من الأئمة أيضاً خطباً تندد بإحراق خلاوي القرآن في دارفور وقتل عمارها من حفظة كتاب الله ودارسيه. ولا أتوقع أن أسمع في خطب جمعة اليوم إنكاراً لماقامت به الشرطة في وقت سابق من هذا الأسبوع بقتل وجرح العشرات من المتظاهرين العزل في مدينة نيالا، حاضرة ولاية جنوب دارفور. فهل غلاء أسعار الكهرباء والمحروقات أهم من إزهاق الأرواح؟


(5)

أئمة وخطباء المساجد جزء من الساحة السودانية المصابة للأسف بعمى جزئي وفقدان لحس التضامن الوطني. فمصيبة دارفور لم تحرك المشاعر عند كثير من السودانيين، بل إن قطاعاً كبيراً يرفض الاعتراف بوجودها. ولا نسمع هذه الأيام تحركات بين منظمات المجتمع المدني من أجل إيصال المعونات لضحايا الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، كما لم نسمع إلا نادراً نصرة لضحايا السد في محنتهم. ولكن على دعاة الدين واجب إضافي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أين ما وقع. ولا يقتصر المنكر على ملابس الفتيات وغناء المغنيات ونحو ذلك، لأن التركيز على مثل هذه الجزئيات وترك الأمور العظام من باب الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، وهو ما حذر القرآن من أنه موجب لأشد العذاب في الآخرة بعد الخزي في الحياة الدنيا.


(6)

ما وقع في نيالا الثلاثاء الماضي من استخدام مفرط للعنف تجاه المتظاهرين كان كارثة تنتظر الحدوث، وقد سبقتها كوارث أخرى في دارفور، منبعها واحد، وهو القراءة الخاطئة للأمور عند صناع القرار في الخرطوم. فأزمة دارفور هي من صنع الخرطوم، وهي مثل الكارثة السورية الحالية "مؤامرة" طبخت في دهاليز صنع القرار في عاصمة البلاد. فالقرارات الخاطئة هي التي حولت المشاكل والمطالب إلى أزمة، ثم حولت الأزمة إلى نزاع مسلح، ثم أساءت إدارة النزاع المسلح وحولته إلى كارثة إنسانية، وفشل عسكري وسياسي وأخلاقي. وكنا قد علقنا في هذا الموقع منذ أسابيع على "إنجاز" آخر حققه النظام في ولاية جنوب دارفور، حين حول المؤتمر الوطني النجاح السياسي لواليه هناك إلى أزمة حين أطاح به (رغم أنه "منتخب").


(7)

تعتبر الأزمة الحالية امتداد لتلك الأزمة، وقد كان أعضاء الحزب الحاكم في نيالا أول من حمل الوالي الجديد مسؤولية افتعال الأزمة بسياساته الخاطئة. ولكن الواضح أن الأخطاء لا تقف عند الوالي، بل عند من وضعه في منصبه. ولا شك أن من أطلق النار، ومن أمر بذلك، ومن وضع هؤلاء في هذا الموضع، يتحمل قسطه من المسؤولية أيضاً.


(8)

لقد أصبنا بالملل ونحن نتتبع الكوارث التي ظل أهل السودان يتعرضون لها بتكرار لا يكاد يتخلف. وقد آن الأوان ليتحمل أحد ما المسؤولية في هذا الأمر، وأن يقع التغيير الذي أصبح ضرورياً حتى لا نضطر لنكتب غداً عن كوارث الأبيض، وعطبرة، وأم درمان. فالضحايا كثر والجاني واحد. وقد آن الأون ليتوقف أو يوقف.
////////////

 

آراء