ثنائي أبوكدوك: الغناء الشعبي في ستينات القرن الماضي

 


 

 

 

 


الأَباحْ دمي كَتّر همِّي

وين حبيبي ياناس
الأباحْ دمّي قلبي حَبّاهُ
الشّغل فكرّي لاهِي في رُباهُ
الزُهور في الرّوض بيهُو يتبَّاهو
البِميلْ طَرّبانْ رُوحهُ عاجباهُو

شعر أحمد محمد الشيخ " الجاغريو"

(1)

إننا في حاجة لنتعرف على تاريخنا من جديد ، فالكثير منِّا يجهل الجانب الذي يمَس وجدان الشعوب السودانية . لا نُميِّز شعب دون آخر. وهي دعوة مُبطنة ليكُتُب الآخرون الكثير عن حياة شعوبنا في أريافهم القصيّة ، عاداتهم وغناءهم ورقصهم وفنونهم بألوانها وتنوعها. لم نكُن نحسب أن هذا الفلكلور عالم مُثير ، يكشف غفلة علم تدوين التاريخ الثقافي ، واكتفى كثيرون بمعرفة بذلك التاريخ ، وذهبت الصدور بما فيها من كُنوزٍ تاريخية إلى القبور !. اكتفت الأسفار التاريخية بتتبُع السلطة وأهلها ،وحياة السياسيين دون غيرهم . وقد رجع المؤرخون لمعرفة ما خَفي من تاريخ الدولة الإسلامية ، وذلك بقراءة بعض التاريخ الخفي من بين ثنايا ما كتبه " أبو الفرج الأصفهاني " في مجموعة أسفاره التي تسمى ( الأغاني )التي جلس لتدوينها أكثر منخمسين عاماً !. واعتبره الذين شوهوا التاريخ ، أنه قد فلت من الحرق والتدمير ، لأن الأخلاق الجديدة للسلاطين ، هو أن تبدأ إعادة كتابة التاريخ . وهو شعار البتر والإقصاء ، وقتل الرأي الأخر ، حتى ولو ذهب أهله إلى الغيبة الكُبرى.

(2)
لم نحسب أن من المُشترِكات الكّثير ، مع شعوب دول تُجاورنا . كما أن لنا خصوصياتنا الاجتماعية والثقافية المتنوعة ، تنوع الشعوب السودانية . ضمور الموروث الثقافي والتمَسُك بتفاصيله من طرف ، ودعوة براجماتية ، تنظر برحابة صدر للتنوع الثقافي .
لا نملُّ إعادة الحديث عن مؤتمر "مُجمَّع الموسيقى العربي "، عند انعقاده في الخرطوم في ثمانينات القرن الماضي . وكان نائب رئيس المجمّع الراحل ، طيب الذكر الموسيقار " جمعة جابر " . عندها تفاجأ أعضاء المؤتمر بعروض الفنون الشعبية ، رقص وأغانٍ، جعلتهم لا يراوِّحون أماكنهم وسط ذهول حقيقي أمام هذا الثراء الثقافي. يطلبون ويعيدون طلب عرض الفقرات وقد تفتَّحت ورود الأفراح على مُحيَّاهم دون استثناء . ويقولون بملء أفواههم ( إن في السودان كنوز فنية حقيقية ، غائبة عنا ! ). ويسألون : لمِ هي مخفيةٌ وراء الحُجب؟ . يرون أنها ميّزة فريدة يتعين أن يرعى السودان ذلك التنوع الفني المُبدع ، وهي كنوزٌ دون شكْ ، تُضاف على الكنوز التي لا يعرف قيمتها حتى بعض أهلها !.

(3)

ليستْ دعوة أعضاء مؤتمر " مجمع الموسيقى العربية " هيّ شهادة تُقيِّم إرثنا الثقافي ، فنحن أدرى من غيرنا بثراء ثقافة الشعوب السودانية ، في مدنها وأريافها القصيَّة . و"معهد الموسيقى والمسرح" وفق المسمى القديم ،منذ نشأته ، تبنى دراسة الفنون الشعبية ، أغنياتها وأقام حفاوة بآلالات الشعبية السودانية ، وخصص لها " المعهد " وِرش للصناعة والضبط والصيانة . كان من المُؤمل أن نكون قد قطعنا شوطاً في إثراء الحياة الوجدانية للسودانيين الطيبين ، لولا هَجمة العُبُوس والحياة الصارمة التي دخلنا عالمها مع جور أصحاب السلطان الذين يريدون أن يعيدوه إلى الزمن الماضي ! ، على تصوراتهم هُم ، التي لا تُحب الترفيه ولا الغناء ولا الرقص بل غلظة الحياة ، التي تسير على منوال يهدم الماضي ،ليبدأ من جديد !.

(4)

يرغب هؤلاء فيما يُسمونه " إعادة هيكلة المجتمع السوداني ". واصطدم ذلك المشروع الهُلامي ،بحوائط الحياة الطبيعية والنفسية المتوازنة ، وتقبُل الآخرين شُركاء في وطننا " لهم دينهم وليَّ دين ". لم نزل نُعاني ضيق افق الذين يرغبون رِدّة الحياة إلى الخلف ، وفق " أوتوبيا " عن تلك الحياة التي يرغبون جَرّنا إليها، كأنها حياة كل أبطالها مقدَّسون ، وكأنهم لبسوا جُلباب الربَّ : يُكفرون ، ويقتلن ويجلدون ، وينكِّلون بالأغيار من أبناء الشعوب السودانية.

أذلّت تلك الجماعة المعروفة وُجدان شعوبنا ، ورسمت لنا الأزياء المُباح لبسها ، ودخلنا جدال التاريخ الماضي .للفرح مواعيد وللكآبة ألف ميعاد وألف بوابة تفتح للنُدماء ، إن كان هُنالك منُ نُدماء .توقف عندنا التطوّر الفني والموسيقي منذ أوائل تسعينات القرن الماضي . فلم يكنْ لدى هؤلاء صورة واضحة عن المجتمع الذين يرغبون تغييره . وصفوا كل ذلك التُراث بأنها كنزات يلبسها السائرون في ركب الشواطين ، يتعين تطهير مُجتمعنا منها!

(5)

العام 1963:
كنا نجلسُ في مقاعد الدار المُستأجرة بواسطة " فريق أبو كدوك الرياضي " وهو فريق رياضي لكرة القدم . تأسس منذ عشرينات القرن الماضي ، في أم درمان مثل فريق " أبوعنجة الرياضي " وفريق "الموردة الرياضي " . ضمّتهم جميعاً رقعةٌ أرض ، وأحياء متجَاوِرة ، واختلاط أنساب .
يرفِد فريق "أبو كدوك الرياضي " فريق الموردة الرياضي بلاعبيه "الأشبال" . فريق" أبوكدوك الرياضي " كان في الدرجة الرابعة ، وهي الدرجة التي تعم كافة فرق " السنتر ليق " . وفريق " الموردة " كان في الدرجة الأولى أوائل ستينات القرن الماضي
تكوَّن حي أبو كدوك بأم درمان قرب " خور أبوعنجة" ، بعد أن طلب الإنكليز ترحيل الأهالي الذين يسكنون شمال "الفتيحاب" ، في " مكان السلاح الطبي حالياً " ، لتكن تابعة لمعسكر الجيش الإنجليزي ، قبل تشييد "كُبري أم درمان ".
رحل أهلنا لحي أبو كدوك ، وقد سبقهم ابن أمير المهدية " أبوكدوك " ، ثم حي بانت بانت، الذي كان يوصف أهله الذين رحلوا من منطقة شمال الفتيحاب إليه : ( الرُجال بانتْ )! . كان ذلك عام 1913 م.

(6)

نادي أبوكدوك الرياضي :
جزء من طفولتنا أمضيناها ليلاً في نادي أبوكدوك الرياضي . كان المَسكن المُستأجر بمساحة تقارب 600 متر مربع . ويُطل على " شارع الأربعين " بأم درمان. يحوي غرفة من الطين اللَّبِن وغرفة أخرى صغيرة في مكان قصي تستخدم كمطبخ لصنع الشاي، ودورة مياه شعبية تلتصِق بالسور . سبعة مناضد وكراسي وفق ما يسمح به الزمان . أغلب المناشط الليلة ، باحة لرفع الأثقال ، ومناضد للعب الورق !. النادي وفق زمانه مُخصص للذكور دون الإناث . ليس من قانون ، ولكنها عادة سار عليها الجميع .
الغرفة الرئيسة تفتح شرقاً . بابها يتوسطها . أربع نوافذ تفتح مُناصفة : شمالاً وجنوباً. على يمين الغرفة وأنت تستقبِل بابها من الخارج ،توجد سبورة ، تقع في مستوى النظر. صُنعت من الأسمنت والرمل ,طُليت بالبوية السوداء . تُكتب فيها أخبار الفريق ومواعيد التمارين وأخبار مُباريات فُرق " الليق " . لم تكن هنالك ممارسات رياضية سوى كرة القدم ، والباحة العشوائية التي يسمونها " باحة رفع الأثقال " . طاولة وحيدة للرياضة العقلية " الشطرنج " كانت تهُمنا ، ونحن في المرحلة الوسطى ، في الثانية عشر أو الثالثة عشر مما مضى من أعمارنا . حينها كانت " الشطرنج " مَنبوذة لأن اللاعبين اثنين فقط وثالث ينتظر دوره . يتدخل وفق ما يتيح له الفضول ، يُلجمه تعنيفاً الذي يتجه متدحرجاً للهزيمة !. كنتُ أحد هؤلاء الثلاثة . طفلٌ يحاول أن يلحق بالبلوغ . ولكنها ترفيه " أهل الصفوة " !.

كان الآخرين يصفوننا " بالمُتمَحِّنين " . يعتقدون أننا نلعب ونحن مُتعالين عن العامة ، لأن لعب الورق كان يشبه الإدمان . صراخ وولولة ، وأحياناً رقص ، وصناعة الألقاب تصبح من مُخرجات تلك المهنة الترفيهية التي يحاول كثيرون تضييع الوقت بها ، وكان الوقت من أبخس المعروض ، لذلك يعمل العامة على قتله !. لم يدر أحد أن لعبة الشطرنج قديمة قِدم التاريخ! .
فروقات ظهرت بيننا وبين أندادنا في وقتٍ مُبكّر . فرقتنا سُبل العيش . والصِراط هو الوقت الذي يفصل الذين يتم قبولهم في المرحلة لوسطى ، وبين الذي يُكملون المرحلة الأولية ، ثم يتفرقون ليصبحوا عمالة في الحرف اليدوية كالنجارة والحدادة وغيرها .
اثنان يشغلان طاولة مع صمتهم التام وهم ينظرون ولا حديث بينهم إلا رؤوس أقلام. وفي المقابل الآخرون يلعبون الورق البريء،مع كمٌ هائل من الزعيق والضجيج !. المنهزم عندهم يطلب للفريق المنتصر كوبين من"الشاي مع الحليب" . وهذا يربط صاحب " البوفيه " بدوام الحال .الطلب بقرش صاغ. الذين يلعبون الورق هم أغلبية رواد النادي ليلاً. نحن كُنا نشتري كوبين أو ثلاثة ، كي لا يتضرر أحد.

(7)

كانت الحياة أبسط من تعقيد المدن ، وفي العام 1948 ، قبل استقلال السودان بسبعة أعوام كانت "أم درمان " من أكبر المُجمعات البشرية، ولكنا لم تزل قرية !.
من جهاز الراديو الذي يجلس عالياً على رف خشبي صغير ، كُنا نسمع كل ليلة خطاب للرئيس "جمال عبد الناصر" رئيس مصر ، من صوت العرب . يمارس هجومه اليومي الساخر على "المملكة العربية السعودية "وملكها جلالة الملك " فيصل آل سعود " ! . خصومة لم نكُن ندرِ سبباً لها عند في طفولتنا تلك. انتهت لاحقاً بعد هزيمة 1967 ، في مؤتمر القمة العربية أو مؤتمر اللاآت الثلاث بالخرطوم على يد رئيس الوزراء الأسبق " محمد أحمد محجوب" وقد قدم دعوة للقائدين ( جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر ) و ( جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ، ملك المملكة العربية السعودية ). خرج الزعيمان من بيت " المحجوب " متصالحان ! .وتفرقت الأموال التي تبرعت بها كل من المملكة العربية السعودية ومملكة ليبيا ودولة الكويت لصالح دُول المواجهة ، وترفع السودان أن ينال دعماً مادياً ، ورأى أن دول المواجهة أحق .
" يا تُرى منْ ينصف ماضينا ويعفينا من جلد الذات ، ووصم آباءنا بما لا يليق " !!
(8)

كُنا نشهد محاضرةً كل أسبوع يلقيها علينا الأستاذ " عبد الله عشري الصديق " . كان هو موسوعة ثقافية تسير على قدمين . يتحدث في كل شيء . يحفظ القاموس الإنكليزي ، ويتحدث الإنكليزية القديمة بطلاقة . كان الحضور يضُم عشرة أو أحد عشر . والبقية الباقية ليس لها غير لعب الورق . يُحسنون قتل الوقت ، كما أسلفنا الحديث!.

(9)

ثنائي أبوكدوك :
من حين لآخر نسمع صوت الثنائي : " حيدر أم حُمد ود عبد الواحد " و " فؤاد ود خوجلي أبوالجاز " يترنمان في صوتين متناغمين . فيصمت الجميع لأن جاذبية أصواتهما تُجبرك على الإنتباه والصمت. وبتشجيع بعض الأصدقاء ،بدأت التمارين على تناول الأغنيات وحفظها ، وترنيمها بشراكة " حيدر" و " فؤاد ". هكذا بدأ المشوار .سريعاً اشتهرا في حي أبوكدوك ، ثم في " أم درمان الجديدة " أو " الفتيحاب " ثم في " أم بدَّة ". وكانت الأخيرة أول نشأتها :غرفاً متفرقة في منطقة تقع غرب أم درمان . كانت سابقاً مكاناً لشجر السِدر والحِنَّاء. تنموا في الخريف أعشاب مطرية، يصل ارتفاعها لمتر أو يزيد .هي مراعٍ طبيعية للأغنام . كان في كل بيت في أم درمان أخوة إضافيين من الأنعام أو الدجاج . كل بيت في أم درمان يكاد يكتفي ذاتياً إلا من السُّكر والشاي وبضع متطلبات أخرى. اقتصاد متوازن العلاقة بين الصادرات والواردات. ولم ينهزم الميزان التجاري إلا عام 1976 م !!

(10)

أغنيات الجاغريو :
تطور الحال والتحق ثنائي أبوكدوك بنادي" فلاح للغناء الشعبي ". وتم صقل الموهبة المُشتركة لثنائي أبو كدوك . صِرنا نسمعهما يتغنيان في أغلب أغانيهم من أشعار : " أحمد محمد الشيخ – الجاغريو " الذي وُلد بالدبيبة عام 1910.و درس بخلوة الفكي الأمين . رحل وأسرته إلى " قرية بُري " التي هي " بري " الحالية التي تتوسط العاصمة . كانت في زمانها من أرياف مدينة الخرطوم. انتقل " الجاغريو" إلى الخرطوم وصَحِب " عبد الكريم كرومة " .

(11)


غنى للشاعر والمُلحِن والمغني " أحمد محمد الشيخ – الجاغريو " " ثنائي أبوكدوك " عدداً مِن الأغنيات :

الأَباحْ دمي كَتّر همِّي

وين حبيبي ياناس

الأباحْ دمّي قلبي حَبّاهُ
الشّغل فكرّي لاهِي في رُباهُ
الزُهور في الرّوض بيهُو يتبَّاهو
البِميلْ طَرّبانْ رُوحهُ عاجباهُو

وين حبيبي ياناس

بَسَمهُ أغراني حُبهُ غَيّرني
قلبي حَائر في وَصفهُ حَيرني
شُفتَ في الأحلامْ طَيفُهُ زايرني
بِسْحَرْ العُشاق طَرفُهُ حِين يَرْني

وين حبيبي يا ناس

(*)

أغنية آه من آهات قَلبي

آهـ من آهات قَلبي الإبتَلوهُ
هَاكًم قلبي للمحبوبْ سَجِّلوهُ
كلما فني يَعْلو حُسنُهُ يَزيدْ عُلوهُ
مَا قَادِرْ أميِّز يا ناس أسألوهُ
هو حُسنَ المَحاسِنْ مِن حُور عَزَّلوهُ

(*)
وَين فَايتني يَا تُومي

وَين فَايتني يَا تُومي .. أنا السَّهرانْ كِمِلْ نُومي
غَرَامَكْ لي بَراي مَقسُوم .. وفي الجنب الشمال مَرسُومْ
أسجِّلْ عُمري ليكَ رِسومْ .. ضِميرِكْ بالحِزامْ مَحزومْ
*
تَعَال يا الشادِنْ الفني .. مَعَاه الزّرعي والبُني
في دولة عِزُّهُ متهَني .. تَعال يا ودْ حَمد غَنِي

(*)

الحَوَّاتي

على زَادْ حُب السرورْ .. يا الحوّاتي جَاري الشَّبَكة ام طرور
قَلَب القَلبة بنِظام .. واتْقَفاهَا مِنْ قِدّام
الصّيرة جَات شَايْلة تَمام .. صفَّر غَلَبُهُ الكَلامْ
تسعة قُفَافْ .. يا سلام
يا الحوّاتي جَاري الشَّبَكة ام طرور
شَحَنْ الشُحنَة بضَمانْ .. عَزَلْ الضُعَافْ والسُمَانْ
قامْ اتْوَجه أم درمان .. القَدير أبوعثمانْ

سَاعة النَسَّام اتْنَسَمْ .. ضِحِكْ القَديرْ وابتَسَمْ
المُوجْ صَامِيهُ صَمْ .. مَا بدَقْدِقْ قلبهُ الأصمْ

(*)
هَجروني
هَجَروني هَجَروني .. هَجَروني أيه ذنبي
هَجَروني ليه يا مَلِكْ .. هَجَروني وبَغير عَليكْ
حَسَدوني في حُبي ليكْ .. رازوني قَطَعوا السِّلِكْ
يا رُوحي رُوقِي أكْرَسي .. يا عَوَاطْفي أهْدي وأرسي
يَا حبيبي نَقَر جَرَسي .. دَايرِني أشُوف دَرْسي


(12)

اشترك في غناء بعض الأغاني المذكورة أعلاه بعض مطربي الغناء الشعبي : منهم المطرب" عبد الوكيل أبيض " من "الفتيحاب "وبعض مطربي جزيرة " توتي " ، منهم تحت السِترٍ يبدعون ، ولكنهم هجروا تلك المواهب في مسيرة حياتهم اللاحقة، فاندثرت كثيرٌ من الأصوات الفنية، قبل أن تتفرَّق بأهلها السُبل، إذ تدربت الأصوات في ذلك الزمان على سجيّتها و تنطلق.

(13)

ثنائي أبوكدوك مثل كل الثنائيات الغنائية في الفن الشعبي : " أولاد شمبات " ، " أولاد الموردة " ، " أولاد الدبيبة " ، " تيمان عطبرة "وغيرهم . إيقاعات أغاني السيرة ، والدلوكة ، وأغنيات "راقصات السَّباتة "، وأغنيات " الفوارس" أو " الفروسية " ، والمناحات ، وإيقاعات " التُم تُم " المتنوعة الراقصة وإيقاع " السَيرّة " .
كانت كلها في ذلك الزمان تدخٌل في إطار الأغنية الشعبية ، لوسط السودان وربما في مناطق أخرى تقع في شواطي النيل شمال الخرطوم والجزيرة .
في حفلات الأعراس كان "ثنائي أبوكدوك" يقودان راقصات الحمام . يتقدمان ويتراجعان . صورة فلكلورية من رقص وغناء أفراح ستينات القرن الماضي في أم درمان . الحفلات والأفراح على الهواء الطلق . النساء في مقاعدهُن ، والرجال بعضهم يجلس وكثيرٌ منهم وقوف . كان المجتمع متسامحاً عندما تأتِ مواسم أفراح الأهل .حينذاك لم تكُن الدولة تتدخل في فرض قيود اجتماعية متزمِّتة ،كما هو الحال اليوم .لغة العيون أكثر استخداماً من لغة الجسد المفضوحة ، ولكن صقور المجتمع التقليدي وهي تُنشِب مخالبها حيث الرخو من العواطف حين تتبدّى ، تُكمل صورة الحياة والتاريخ لذلك الفن وأهله ، والحياة الريفية التي كانت تعيشها أم درمان في أوائل الستينات.

(14)

" أم بدّة" كانت جزءاً من ريف أبوكدوك . امتدت الأُسَّر وأقامت هناك . الكثير من الأحياء الأم درمانية ومن المهاجرين من قرى السودان وجدوا عندها الإستقرار . كانت أوائل الستينات فترة تكوّن وتوجُّس بين المُتسَاكنين. كل أناسٍ بمشربهم ومآكلهم وعاداتهم . من كل أقاصي السودان كان هناك ممثلين عنهم ،ليسوا شعوباً ، بل قبائل وزعماء!.
صورة للسودان مُصغّرة، كما هو حال " ود مدني " و " الأُبيِّض " ، لكن تراجعت أول الأمر كثيرٌ من العادات المُنفتِحة ، وصارت الحياة الاجتماعية أكثر تزمُّتاً . ثم تعوّد القاطنون على عُشرة بعضهم ، وتغير الحال مع مرّ السنوات، حتى تغير الحال إلى ما نحن عليه اليوم بدأ من سبتمبر 1983 ، ثم التَدَّحرُّج المُريعْ.


عبد الله الشقليني
24أكتوبر 2016

alshiglini@gmail.com

 

آراء