ثورة ديسمبر تبحث عن ليخ فاونسا جديد 

 


 

 

تمر الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر المجيدة؛ و البلاد تضربها الأزمات بسبب نخبتها التي فشلت أن تجد لها حلولا، الكل نذر نفسه للتحريض، و كل يقف على رصيفه يتهم الآخرين بأنهم سببا في خلق أزمات البلاد، و تحول الجدال إلي صراع صفري بين المجموعات، كل مجموعة يريد إقصاء لآخرين من خلال شعارت ديمقراطية، و هو طرح جديد لعملية التحول الديمقراطي بثقافة شمولية كيف؟ لا أحد يعلم...! و كل مجموعة تريد أن تكون وحدها على سرج الحصان، كل مجموعة تقدم للساحة السياسية شروطها لكيف يكون المسرح السياسي، و لا تقبل الحوار حولها، و تحدد هي من الذي يجب أن يسيطر على المسرح، الإنقاذ كل يوم تعزز موقفها من خلال ثقافتها الشمولية التي خلفتها في مسيرة حكمها ثلاث عقود، الإنقاذ انست النخبة السياسية كيف تدير معاركها السياسية بوعي و حنكة لتحقيق أهدافها. و إذا رجع هؤلاء لقراءة تاريخ تحولات الدول من الديكتاورية إلي الديمقراطية، و التي تحدوا فيها كل أدوات القمع و الظلم و الجبروت، لكي يصنعوا مستقبل بلادهم. يقول الله في القرأن العظيم لرسوله " نحن نقص عليك أحسن القصص" لكي يجعلها استلهاما و تبصرة.

الزعيم البولندي ليخ فاونسا عامل كهربائي في صناعة السفن في مدنية جدانسك في بولندا، التي كانت تحت وطأة الحكم الشيوعي، الذي كان يسيطر على كل شيء في الدولة، النقابات الاتحادات، الفنون، حتى انفاس الناس يعطيها بقدر، و كان مسنودا بقوة الاتحاد السوفيتي السابق و جهازه المخابراتي " KJP" الذي نشر بصاصينه في كل دول المعسكر الاشتراكي. في عام 1970م رفعت الحكومة البولندية اسعار السلع و منها اللحوم التي تعتبر السلعة الرئيسية التي يعتمد عليها الشعب في وجباته اليومية مثل " الفول في السودان و مصر" و خرجت المظاهرات بصورة تلقائية، و أمر الرئيس بقمعها و قتل المئات من المتظاهرين، ثم تراجعت الحكومة عن زيادة الاسعار و تم تغيير الرئيس. هنا فطن فاونسا أن قوة الجماهير هي القوة التي تستطيع أن تحدث تغييرا عاما في البلاد. لكن كيف؟ و بدأت مرحلة التفكير الإيجابي كيف تصنع التغيير في ظل نظام يسيطر على كل شيء و لا يتردد في قمع الجماهير. جاء الرئيس الجديد؛ و بعد فترة رفع الاسعار مثل الرئيس السابق، و خرجت الجماهير في تظاهرات كبيرة، و جاءت قيادة الحزب الشيوعي تخاطب المتظاهرين، و تشرح لهم الاسباب التي أدت لرفع الاسعار، و كادت الجماهير أن تقتنع و تذهب حال سبيلها، إلا أن فاونسا خرج من وسط الجموع، و خطب في الجماهير خطبة عصماء، و جاء بفكرة العمل المنظم و مساندة " نقابة تضامن" المستقلة الذي يعتبر هو أحد مؤسسيها و يصبح الخروج من سيطرة الحزب الشيوعي. كان الفكرة الأولي و الخطوة نحو النصر أن تعترف الحكومة ب " نقابة تضامن كممثل للعمال البولنديين" و تم عتقال فاونسا و رفاقه و ظلت الجماهير تطالب بخروجهم، حتى تفاجأت الجماهير عبر شاشة التلفزيون أن زعيمهم يوقع على صك اعتراف الحكومة بشرعية نقابة تضامن مع نائب رئيس الوزراء. و هنا منحت السويد جائزة نوبل للسلام لليخ فاونسا عام 1983م و بدأ العالم يراقب خطواته السياسية، كانت الفكرة الثانية لابد من الاستفادة من زخم الثورة، و الشعلة المتقدة وسط الجماهير، لذلك طالب الحكومة بالانتخابات، كان فاونسا مؤمن بأن الجماهير سوف لن تخزله، لم يتردد و لم يقول أن الحزب الشيوعي مسيطر على الدولة، و مسيطر على المال، و سوف يزور الانتخابات، و بالفعل كان الحزب الشيوعي مسيطر على كل أدوات الدولة و مؤسساتها، و رفضت الحكومة الفكرة تماما، و اعتقلت قيادة النقابة، و جاء الصف الثاني يخوض ذات النضال، و الهدف واحد دون أي تشعبات " الانتخابات" بعد فترة أطلقت السلطة سراح فاونسا و رفاقه، و وافقت على الانتخابات، كان فاونسا متأكدا تماما أن الجماهير لن تخونه مهما كانت التحديات، كان متأكدا أن الجماهير في الشارع هي التي سوف تضع حدا للشمولية و تحدياتها، لم يتناقض في القول بأن الجماهير واعية، و يتردد بأنها سوف تكسر الوعي في الانتخابات، و جرت الانتخابات عام 1990م و فاز فاونسا و تحولت بولندا إلي دولة ديمقراطية في ظل قبضة الحزب الشيوعي البولندي و الاتحاد السوفيتي و جهاز مخابراته " KJP " و أصبح ليخ فاونسا أبو الديمقراطية في بولندا، و كانت الشرارة التي انطلقت في بقية الدول الاشتراكية.

أن قراءة التاريخ تبين كيف تستطيع القيادة الواعية، من خلال الممارسة السياسية التي تنطلق من أجل تحقيق الأهداف الوطنية و تنتصر، لكن الخلط بين الرغبات الحزبية و الشخصية يضعف الهدف، و في نفس الوقت تضيع الفكرة لأنها تدخل في قضايا متناقضة. الفكرة يجب أن تبرز قضية واحدة، و تتأكد إنها سوف تحقق بقية القضايا الأخرى. و هذا الذي صنعه الشارع في السودان قبل دخول الأحزب حلبة الصراع، في بداية الثورة كان الشعار واحد " تسقط بس" الهدف السقوط باعتباره العامل الذي سوف يغير مجريات الأحداث في البلاد، و يطرح أجندة جديدة مخالفة لما قبل السقوط،، ثم اردفه بشعار أخر " حرية – سلام و عدالة" هو شعار يؤكد على مدنية الدولة و التحول الديمقراطي. لكن بعد دخول الأحزاب تعددت الشعارات التي جاءت بحمولات حزبية، خلقت تناقضا بين تصور الديمقراطية و الحولات الحزبية. أن قضية الأحزاب في السودان لم تستطيع أن تتعلم من تجاربها السابقة، و تقدم أفكارا تخدم القضايا الوطنية بدلا عن الشأن الحزبي، و الغريب أن أغلبية النخب حتى غير المنتمية تدخل في مصيدة الأحزاب، و تحمل حمولاتها المتناقضة. و الديمقراطية لا تبنى إلا بشروطها أولها الحوار للوصول لمشتركات التعايش السلمي، و الحوار المفتوح بين القوى السياسية هو الذي يقلل فرص بروز العنف. لكن للأسف أن هناك قوى سياسية لا تقبل إلا أن يقبل الجميع بشروطها، الأستاذية في العمل السياسي طريق للتمرد و العنف. و أيضا هناك أحزاب تريد أستمرار الأزمات لآن أنتهاء الأزمات سوف يتحول الصراع لداخلها هي نفسها تعاني من إشكالية الديمقراطية. و الديمقراطية تعني الحوار و قبول الرأي الأخر مهما كان مخالفا لرئيك، أتركه إذا لم يعجبك لكن عمليات التخوين و التشكيك و السبب مصدرها واحد هو التثقيف الشمولي. و هنا التناقض في الشخصية تريد أن تبني ديمقراطية بأفكار شمولية.

خرجت الجماهير منذ وقوع الانقلاب في 25 أكتوبر ترفض الانقلاب و تنادي بالدولة المدنية الديمقراطية، خرجت قيادات الأحزاب خلف الشارع الذي من المفترض تتقدمه، و تقدم تصورها لكيف الرجوع للمسار الديمقراطي، و فشلت أن تقدم أي رؤية للحل، تريد الجماهير فقط أن تخرج في مسيرات متواصلة دون أن يكون هناك برنامج، و خرج الحزب الشيوعي معه تجمع المهنيين بشعار " لا مساومة لا تفاوض لا مشاركة" و الهدف من الشعار أعلان إفلاس عن تقديم برنامج سياسي يطرح للحوار. و بالتالي تلزم الأخرين أن لا يقدموا أي رؤية للحل، هكذا تفرض حالة من العدمية، و هناك قوى تريد السلطة فقط ليس لها علاقة بقضية التحول الديمقراطي، و قوى أخرى ترفض الانتخابات لأنها تبين حجمها الطبيعي في المجتمع، في ظل هذه الرغبات المتناقض كيف يبرز الحل؟ نسأل الله للجميع و لنا حسن البصيرة.



zainsalih@hotmail.com

 

آراء