سودان ما بعد الحرب .. (إعادة البناء) بإعادة بناء الذات !!

 


 

محمود عابدين
5 September, 2023

 

*احاول من خلال هذا التقرير إلقاء الضوء على السودان في زمن الحرب، محاولا طرح بعض الأفكار لمرحلة ما بعد الحرب، اهمها أننا لو تمكنا من استعادة مواردنا الاقتصادية من يد العابثين بها محليين أو أجانب، واستثمارها على النحو الافضل فإنه سيكون بالإمكان إعادة بناء السودان من دون الاعتماد على الخارج. هذه الحرب توفر لنا فرصة لاستعادة ما تم منحه من اراضينا ومياهنا وثرواتنا الأخرى هبات للأجانب، أو تلك التي استولى عليها محليون بغير حق.*

*نحتاج أن نغعل ذلك، وأن يكون كل قطاع التعدين في المرحلة الأولى من إعادة البناء تحت سيطرة الدولة، ولكن بإدارة نزيهة بعيدة عن الفساد. إدارة تدرك أهمية التفاني لانتشال الوطن من وهدته، من أجل أن يقف السودان مجدداّ على قدميه. هذه مرحلة تحتاج أن نعيد فيه بناء أنفسنا بأن نناى فيها جميعا عن حب الذات من أجل المصلحة العامة.*
في الطريق إلى حلفا عبر شريان الشمال الذي يتصل بمصر، يلاحظ المسافر كماّ هائلاّ من العجول النافقة على جانب الطريق. يؤكد ذلك ان استنزاف الثروة الحيوانية مازال مستمراّ، لم ولن يتوقف في أحلك الظروف.

ما ينفق من العجول التي يتم شرائها بأسعار بخسة، يتم التخلص منه بكل بساطة خلال الرحلة. هكذا يستمر استنزاف هذه الثروة، التي تعد أحد أهم موارد الاقتصاد السوداني. يقول أحد المواطنين ساخرا: كل شئ عال القيمة في السودان ينساب من الجنوب إلى الشمال بمنتهى اليسر (المياه، اللحوم، الذهب...الخ)، باستثناء الإنسان الساعي للانعتاق من براثن الحرب، حيث تقف القنصلية المصرية في حلفا سداّ منيعا أمام حركته.
مضى وقت طويل منذ ان كان هذا المورد يحقق للبلاد إيرادات بالعملة الصعبة تعزز قوة الاقتصاد. كانت مدابغ الجلود تنشط في الداخل وتستوعب اعداد ضخمة من العاملين في مختلف المجالات.

يعتقد سودانيون، أن هذه الثروة تسلب من بلادهم تحت نظر المسؤولين المتحالفين مع الخارج منذ سنوات طويلة. لا يمكن في ظروف الحرب هذه، تقدير قيمة العجول النافقة على الطريق لكثرتها، غير أنه من الواضح أن الثروة الحيوانية تستنزف وتهدر ، بلا وازع لتذهب نحو الشمال. كما يواجه القليل مما يتم تصديره عقبات عديدة. بذلك لم تعد الثروة الحيوانية تلعب ذلك الدور المأمول ضمن منظومة الاقتصاد السوداني.

كانت حكومة حمدوك تخطط لوقف تصدير اللحوم الحية نحو الاسواق الخارجية، ضمن استراتيجية تستهدف الإفادة من الجلود وكل ما يعزز القيمة المضافة للاقتصاد من خلال الثروة الحيوانية التي يقدر عددها بالملايين. لكن هذه الاستراتيجية واجهت حربا خفية انتهت بسقوط حكومته واغتيال اي فكرة تستهدف استغلال هذا المورد وغيره لإنعاش اقتصاد البلاد المتهالك.

نفس المناطق التي يشقها طريق شريان الشمال، تشهد نشاطا منقطع النظير على صعيد التعدين العشوائي لاستخراج الذهب، حيث تعج المنطقة الممتدة من كدرمة التاريخية وحتى حلفا بعدد هائل من المعدنين يقدر عددهم بما يزيد عن 10 الف معدن (لا يتوفر لدى الكاتب إحصائية دقيقة). يستنزف هؤلاء ومعهم شركات ضخمة واحدا من أهم قطاعات الاقتصاد، التي كان بالإمكان الرهان عليها لإحداث تحول رئيس في مستوى معيشة السودانيين.

وفقاً لإحصاءات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، يحتلّ السودان المركز الـ12 في الترتيب العالمي لإنتاج الذهب. لكن نسبة ضئيلة جداّ منه يدخل في خزينة الدولة. ووفقاّ ل «رويترز» فإن نسبة تهريب الذهب المنتج تصل إلى 80 في المئة.

يستمر عبث المعدنين بهذه الثروة القومية، لا يهمهم مقدر الخراب الذي يحدث، أو البيئة التي تتضرر من خلال الزئبق والسينايد. ليس الذهب وحده الذي يستخرج ويتم سرقته أو تهريبه، ولكن أيضا كمية من الآثار التاريخية. وفيما يبدو أن المنطقة النوبية غنية جدا بالآثار، لكن ضررا بالغا أصاب المنطقة أيضا على صعيد هذا الارث الحضاري والتاريخي.

يقول أحد المعدنين انه ومجموعته اكتشفوا مومياء تاريخية مرصعة بالزئبق والذهب خلال عملهم في احد المواقع، مشيرا إلى أنه يتم اكتشاف الكثير من هذه الآثار التي يتم تهريبها وبيعها مقابل ثمن بخس دون إدراك قيمتها الحقيقية.
الواقع أن كل ما يتم استخراجه من ذهب وآثار وغير ذلك خلال الحرب الدائرة اليوم، ومعظم ما كان يتم استخراجه قبل ذلك، يذهب بهدوء تحت نظر المسؤولين أيضا نحو الشمال.. وانطلاقا من ذلك يطلق أحد السودانيين على هذا الطريق «شريان مصر» .. ويمضي قائلا من هذه البلاد التي تقول المنظمات الدولية ان نصف شعبه مهددّ بالجوع تذهب اللحوم والماء والذهب ومعها آثار التاريخ عظيمة القيمة نحو الشقيقة مصر...

يبدو أن السودان وفي غفلة من اهله ظل منذ أمد بعيد في معترك حرب استنزاف طويلة من عدة جهات. وهذا هو ما يعزز الاعتقاد ان الحرب التي اندلعت في شهر أبريل الماضي ليس سوى حرب موارد، وصراع انتقل من موقع إلى موقع ومن السر إلى العلن، والهدف هو الاستحواذ على مقدرات السودان الاقتصادية.

الحرب الاقتصادية حسب المراقبين أخطر من حرب القنابل والطائرات لأنها لا ولن تتوقف حتى يستحيل السودان كله جثة هامدة.

يبقى السؤال: كيف يمكن إعادة البناء واعمار سودان ما بعد الحرب في ظل استمرار استنزاف موارد البلاد الاقتصادية؟؟

الخطوة الأولى لإعادة البناء ينبغي ان تبدأ بوقف هذا النزيف الاقتصادي واستعادة كل ممتلكات الدولة التي استحوذ عليها العسكر ورأس المال الأجنبي منذ سنوات. بإمكان السودانيين اذا فعلوا ذلك تجاوز كل التحديات التي تواجههم بكل سهولة ويسر، بأيديهم لا بيد غيرهم.

العاصمة قلب السودان النابض توقفت فيها كل سبل الحياة، وتم نهب الشركات الخاصة والعامة وممتلكات الأفراد القيمة من ذهب وسيارات ومقتنيات لا تقدر بثمن. ومع توقف ضخ المنتجات أصبحت الأسواق وبخاصة في الولاية الشمالية وولاية نهر النيل تستقبل منتجات متدنية الجودة مرتفعة الأسعار. حاليا معظم السودانيين حتى في الولايات الأخرى غير الخرطوم ودارفور وكردفان (المتضررة من الحرب)، فقدوا وظائفهم تقريبا وأصبحوا بلا عمل، ومع ذلك عليهم مواجهة الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات ان وجدت.

مع تزايد وطأة الحياة تضيق الدول المجاورة على السودانيين وتتشدد في استقبالهم عبر المعابر المختلفة. امام القنصلية المصرية في حلفا ما زال السودانيون يتكدسون، ويترقب البعض منهم منذ أكثر من ثلاثة أشهر الحصول على إذن الدخول. أسرة كبيرة حصل جميع أفرادها بعد طول انتظار على تأشيرة الدخول، لكن القنصلية رفضت السماح بالعبور لابنهم البالغ عمره 17 عاما. تتساءل والدة الفتى كيف يمكنهم ترك ابنهم وحيدا في ظل المجهول الذي ينتظر البلد بأكمله.

تتفاوت تقديرات الخسائر المالية على السودان جراء الحرب لدى خبراء الاقتصاد وفقا لما يتم أخذه في الاعتبار (او تجاهله) من عوامل عند حساب تلك الخسائر مثل التوقف عن العمل، ونهب الممتلكات، والخسائر المتعلقة بتوقف الإنتاج والتصدير وتدمير المؤسسات العامة على مستوى الدولة، فضلا عن الإنفاق العسكري الضخم من قبل الطرفين.
هذه الخسائر خلال الأشهر الثلاث الأولى تتراوح ما بين 45 مليار دولار حسب مصادر اقتصادية، فيما تتجاوز حسب البروفيسور عصام بوب حاجز ال 100 مليار، وهي في زيادة مع مرور كل يوم في الحرب.
الخطر الأكبر يأتي من فشل الموسم الزراعي، بانعكاسه المباشر على الأمن الغذائي للمواطنين. الى جانب خروج المزارعين من دائرة الإنتاج. وبسبب ذلك تتكرر نداءات المنظمات الدولية من مجاعة وشيكة قد تعصف بنصف سكان البلاد.
يبدو أن زمام المبادرة برغم كل الصعوبات ما زالت بيد السودانيين مهما تعاظمت خسائر الحرب، وذلك في حال ابداع آلية محكمة تديرها كفاءات وطنية نزيهة لوقف تسرب وتهريب الموارد الاقتصادية الوطنية من ذهب وثروة حيوانية وغيرها واخضاع بعضها لسيطرة الدولة. هذه الحرب يمكن تجاوز تحدياتها من خلال إعادة النظر في الاستثمار الأجنبي واستعادة ما تم تمليكه لغير السودانيين في زمن الفوضى الاقتصادية والسياسية. السودان لا يحتاج التسول من جيرانه ولا أشقائه، فقط عليه السيطرة الكاملة على موارده التي ستغطي خسائر الحرب واكثر. الدعم الوحيد المطلوب من الاخرين هو رفع ايديهم من أراضي ومياه السودان وثروته المعدنية والزراعية والحيوانية وما تحت الارض من نفط وغاز.

الأهم ان يعي السودانيون حقيقة ما جرى بعيدا عن الهتاف وتغبيش الوعي الوطني... والحل بلغة السودانيين في *«بل كل من ينهب ثروات البلاد*.

zico.omer@yahoo.com

 

آراء