ثورة قيادات النوبا وتصحيح الأوضاع بالحركة الشعبية

 


 

 

 

 

ظلت قضية جبال النوبة تشكل إحدى الأجندة الحاضرة دوماً فى ملف السياسة السودانية ، وظلت مصطلحات (النعرة العنصرية ، الأحزاب العنصرية ، الحركة الشعبية ، الإنقلابات العنصرية … إلخ) مرتبطة الى حد كبير بهذه القضية بإعتبارها تمثل مصدر قلق دائم فى كل العهود والأزمنة ، فلذلك شأن الحركة الشعبية لم يعد يهم العضوية التنظيمية للحركة وحدها وإنما كل مجتمع جبال النوبا والسودان قاطبة بإعتبار ما يجرى ويحدث داخل دهاليز الحركة الشعبية له أثر وتأثير كبير فى سير الأوضاع بعموم الوطن ، فتصاعد الخلافات فى الفترة الأخيرة ، وحدة التوتر داخل قطاع الشمال وبطريقة دراماتيكية مفاجئة ، أدى الى إرباك المشهد السياسى برمته على أوسع نطاق لكل المتابعين والمحللين فى الداخل والخارج ، بعد أن أصدر مجلس التحرير إقليم جبال النوبا التابع للحركة الشعبية ، جملة من القرارات أبرزها حل الوفد التفاوضى حول قضايا المنطقتين وتشكيل وفد جديد ، بجانب سحب الثقة من ياسر عرمان وإقالته من منصب الأمين العام للحركة الشعبية وتجريده من كافة مسؤولياته ، وإقالة الناطق الرسمى بإسم مفاوضات السلام (مبارك أردول) ، بالإضافة الى سحب ملفات العلاقات الخارجية والتحالفات السياسية ، وأوصى المجلس بعقد مؤتمر عام إستثنائى خلال شهرين لإجازة المنفستو وكتابة دستور جديد للحركة ، كما رفض المجلس بالإجماع الإستقالة المقدمة من عبد العزيز الحلو نائب رئيس الحركة.

وأوضح آدم كوكو رئيس مجلس تحرير جبال النوبا فى خطابه الموجه لقيادة الحركة ، بإن هذه القرارات جاءت بناءاً على المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم بعد إطلاع المجلس على ملف التفاوض وأداء المؤسسات خلال السنوات الست الماضية ، فلذلك قرر إتخاذ هذه الخطوات الهدف منها مواصلة التمسك برؤية الحركة الشعبية ومشروع السودان الجديد وتعزيز وحدة النضال المشترك بين إقليمى جبال النوبا والنيل الأزرق ، وأن التأخير فى إذاعة القرارات بسبب التأكد من أنها وصلت لجميع مكاتب الحركة والقوات العسكرية بمناطق سيطرتها.

فلذلك دعونا فى هذا المقال نتناول بالتحليل ما هى أبرز الدوافع والأسباب وراء قرارات مجلس التحرير ، وما هى أبرز النقاط فى إستقالة عبد العزيز الحلو نائب رئيس الحركة ، التى رفضها إجتماع مجلس التحرير إقليم جبال النوبا التابع للحركة الشعبية ، وسحب الثقة من ياسرعرمان الأمين العام المكلف للحركة وتجريده من كافة مسؤولياته .. حتى نوضح للسادة القراء الحقيقة ، لتفنيد تلك البيانات المتناقضة التى برزت فى صفحات التواصل الإجتماعى من منسوبى ياسر عرمان فى محاولة لشخصنة ما حدث من صراعات فى الحركة ، فنقول لهم يجب النظر للأمور بعقلانية من خلال المسببات الحقيقية للخطوات التصحيحية داخل الحركة ، ولماذا هذه الحملات المنظمة والشرسة ضد قادة النوبا والحركة الشعبية .. هل بهدف إرباكها وتمزيق صفها وخاصة أن هذه الحملات وصلت قمتها ، فنقول لهؤلاء أن النوبا هم من ثبتوا الحركة الشعبية فأصبحت قوى إستراتيجية مهمة فى توازن العمل المعارض ، وإستطاعت السباحة بمهارة فى أوضاع داخلية وإقليمية ودولية كانت معقدة بعد إنشقاق الناصر ، ورفضت الإملاءات والضغوط الداخلية والخارجية ، فلولا جيش أبناء النوبا ، لا يعرف أحد عرمان أو عقار أو المعارضة نفسها ، فلذلك نود توضيح الآتى:


أولاً: يعتقد الكثيرون بأن شرارة الإشتعال بدأت بإنتشار البيان المفبرك لأحد النشطاء على مواقع التواصل الإجتماعى تم تزويره بإضافة إسم الناطق الرسمى مبارك أردول ، ولكن الحقيقة عكس ذلك ، أن هناك معلومات أخبارية وأنباء تم تأكيدها وصلت إلى بعض قيادات الجيش الشعبى من أبناء جبال النوبا ، بأن هناك إجتماع وإتفاق تم بين (الثلاثى مالك عقار وياسر عرمان والصادق المهدى) بأن يتم تهميش النوبا وتوقيع إتفاق وسلام مفاجئ مع الحكومة دون إستشارتهم أو أخذ رأيهم فى الإتفاق ، ويكون عقار نائباً لرئيس الجمهورية وياسر عرمان وزيراً للخارجية ، وتتحول الحركة الشعبية إلى حزب سياسى يمارس نشاطه وحقه السياسى من الخرطوم ويشارك فى الإنتخابات القادمة كأى حزب سياسى ، وتجريد الجيش الشعبى من السلاح وتسريح البعض منهم ودمج الآخرين فى قوات الشرطة ، فلذلك شعر قادة النوبة بالخيانة والتهميش من قبل قيادة الحركة متهمين رئيسها الفريق مالك عقار وأمينها العام عرمان فتصاعدت وتيرة الإتهامات ، فقرر المجلس الثورى والقيادة العسكرية فى كمبالا وكاودا الدخول فى إجتماعات متواصلة ، وكان من المزمع أن تعقد فى الثامن من مارس 2017 ، ولكن تم تأجيله بسبب الحزن الذى خيم على الجميع بوفاة نيرون فيليب أجو فى نيروبى بكينيا ، بالإضافة الى إصرار عرمان وعقار لرفض المقترح الأمريكى لتوصيل المساعدات الإنسانية مما تسبب فى زيادة معاناة الأهالى فى المناطق المحررة ، فلذلك جاءت هذه القرارت بصورة قوية أربكت كل التوقعات.

ثانياً: أبرز النقاط فى إستقالة عبد العزيز الحلو ، التى رفضها إجتماع مجلس التحرير .. إتهم فى خطاب إستقالته مالك عقار رئيس الحركة الشعبية وياسر عرمان الأمين العام للحركة ، بخفض سقف التفاوض ، وإضعاف موقفه بتمرير عدد من الأجندة عبر ضباط من أبناء الإقليم ، وقال بأنه لا يستطيع العمل مع رئيس الحركة والأمين العام ، كفريق واحد لإنعدام المصداقية لديهم وهناك أشياء غامضة ولا يفهم كل دوافعهم ، وإنتقد كذلك سير العمل فى الأمانة العامة للحركة الشعبية وملفات العلاقات الخارجية وملف الإعلام وطريقة إختيار لجان التفاوض فى ملف الترتيبات الأمنية وتعين المسؤولين فى المكاتب الخارجية ، بالإضافة لتجاوزات بالملف المالى داخل الحركة الشعبية ، ولفت إلى عدم وجود مؤسسية فى العمل بجانب الإبتعاد عن منفستو الحركة الشعبية ومخاطبة أسباب القضية التى من أجلها يقاتل الجيش الشعبى ، وأوضح بأن إستقالته يقف خلفها عدم إجماع أبناء النوبا عليه كممثل لهم ، مضيفاً البعض يلومه على أخطاء يرتكبها آخرون.

أكثر ما يلفت النظر فى نص الإستقالة المطولة التى تقدم بها عبد العزيز ، أنها ذكرت معلومات مهمةً ومثيرة تكشف البنية الداخلية للحركة الشعبية قطاع الشمال والتكوينات وطريقة التفكير وكيفية تشيكل الرأى العام الداخلى ، وعلى أى المواضيع والقضايا تتم المزايدات؟ وما هي القوة الرئيسة المتحكمة فى القيادة؟ ومن هم المتشددون؟ ومن هم المعتدلون؟ فالحلو نفسه يعانى من التهميش الإثنى وعدم إتفاق أبناء النوبا على تمثيله لهم فى القيادة بسبب الإثنية ، وفتح الباب للرئيس والأمين العام لتجاهل آرائه بإستغلال بعض ضباط جبال النوبا (يقصد القائد جقود الذى له ولاء وتأييد واسع داخل الجيش) من وراء ظهره لخدمة أجندتهم وتمرير قرارات مصيرية خطيرة على مستقبل الثورة ، كما فعلوا فى إتفاق نافع / عقار ، وعندما طرحوا مطلب الحكم الذاتى فى 2015 م ، والتنازل فى الترتيبات الأمنية فى أغسطس ، وليس ذلك بغريب على عبد العزيز الحلو إنه أول من إبتدع العمل خارج المؤسسات التنظيمية منذ لحظات مجيئه لجبال النوبا في 2008 ، وتعطيلها والعمل بهياكل ومسميات من عنده ليست موجودة في دستور الحركة ، وحل مؤسسات تنظيمية منتخبة بالتصعيد من القواعد الجماهيرية وإستبدالها بأخرى بالتعيبن من عنده ، حتى دخوله إنتخابات 2010 م ، بالإضافة الى إنعدام الثقة والمصداقية بين القيادة الثلاثية ، والحلو يريد أن يلعب بكرت تقرير المصير والإحتفاظ بالجيش ، وهو فى تناسى بأن تقرير المصير كرت محروق فى الداخل ، وبضاعة خاسرة ليس لها رواج فى سوق المجتمع الدولى ، وخاصة أحداث دولة جنوب السودان تكفى.

ثالثاً: وأخيراً إكتشفت قيادات النوبا داخل الحركة الشعبية أنهم مجرد خلفية باهتة ، لمسرحية قطاع الشمال ، فلم يبقى لهم شيئاً بعد سيطرة ياسر عرمان السلطوية وتهميشه للكفاءات من أبناء النوبا وتعينه لكوادر اليسار وأشخاص لا علاقة لهم بالحركة فى هياكل قطاع الشمال المختلفة ، وقد عبر عن ذلك قيادات من أبناء النوبا تم تجاهلهم وإبعادهم وفصلهم عن قصد ، ولكن بانت الأيام وحدها كيف أصبحت الحركة وأبناء النوبا مطية سهلة الإنقياد لسواقط الشيوعيين واليسار !! .. ولقد وجهت قطاعات واسعة من قيادات النوبا إنتقادات عنيفة للمسلك الذى ينتهجه ياسر عرمان بعد رفض المقترح الأمريكى لتوصيل المساعدات الإنسانية ، ولكن فى حقيقة الأمر أن عرمان يبحث عن مصالحه بمحاولة تبنى قضايا أبناء النوبا والزج بها عبر المحافل الدولية والمتاجرة بقضيتهم ، إلا أن الواقع الذى فرضته الظروف والمتغيرات على الساحة النوبية من خلال إجتماعات مجلس التحرير ، سرعان ما كشف عن الداء الحقيقى الذى كان يقف دوماً ضد رغبات أبناء النوبا ، ويزيد من عمق تشاكسهم وخلافاتهم ، والتى إستفاد منها الآخرون ، فهل ما حدث يمنح النوبا الفرصة لوضع أياديهم فوق بعض وتوحيد صفهم وخطابهم السياسى والإعلامى وجمع شملهم وثقتهم فى بعض ، لتحقيق أهدافهم والحصول على مطالبهم العادلة وحقوقهم المشروعة ، لإدارة منطقتهم ورعاية شئونها وقضاياها بجدية ومسئولية ، فالوضع الآن – حتى فى نظر المكابرين والمغالين – مختلف تماماً ، فهنالك إرهاصات لخارطة سياسية جديدة بدأت ملامحها تتشكل فى جبال النوبا ، حيث تتمخض عن قيادة سياسية وعسكرية وإستراتيجية جديدة من أبناء النوبا فى الحركة الشعبية ، ونتوقع أن يصبح رمضان حسن الأمين العام للحركة وعمار أمون رئيس مجلس التحرير ، وآدم كوكو رئيس وفد التفاوض ، فلذلك المطلوب من أبناء النوبة تجاوز صراعاتهم وإختلافاتهم ، فالسؤال ماذا هم فاعلون بعد أن أقدم أبنائهم داخل الحركة الشعبية على خطوة تصحيحة شجاعة وجريئة كهذه ، ولا سيما جنوب كردفان ساحة مفتوحة ، تعانى موت بالمجان وماسأة إنسانية وحرب ودمار وخراب بالولاية لم يعرف لها السودان مثيلاً ، تحتاج لجهد أبناء الولاية المخلصين والى حل سياسى متصل من خلال رؤية سياسية واضحة وليس حل عسكرى ، وليس إستناداً الى تاريخ سابق أو مجد غابر أو إستعراض للعضلات! .. فلذلك ندعو القيادة المرتقبة الجديدة إلى إتباع طريق الحوار السلمى والتفاوض لحلحلة قضايا المنطقة والحصول على المطالب من خلال إرادة قوية.

لذلك أيها السادة القراء .. نحاول من خلال هذا المقال إستدعاء عقول أبناء النوبا أياً كان موقعها ومكانها للمشاركة الفاعلة فى الإلتفاف حول حل قضية جبال النوبة من خلال رؤية سياسية وتفاوضية بعيداً عن الحلول العسكرية ، التى لم تجلب للنوبا غير الموت والدمار والتخلف ومزيد من التهميش والإهمال ، لأن ما شهدته الحركة الشعبية وأنظمتها الهيكلية من ربيع ، وما تشهده المرحلة القادمة ، يؤكد لا محالة أن مطالب أبناء النوبة الغيورين والحريصون على التمسك بالقضية يجب إحترامها والوفاء بها ، لعلنا نفسح المجال للحوار البناء مع فصائل الإعتدال بعيداً عن الإنطباعات المغلوطة ، ونحاول أن نفتح معهم كوة مضيئة للتثاقف الإيجابى وليس التثقيف السالب ، والتنبيه الى حقيقة مخاطر الحرب التى تهدد جبال النوبا ، والمطالب التى من أجلها حملوا السلاح ؟ ومن ثم توعيتهم وتعبئتهم لمواجهة تلك المخاطر لتوحيد صفهم وكلمتهم وخطابهم السياسى والإعلامى فى هذه المرحلة التى تمر بها القضية؟ ، وتبديد أحلام المتآمرين الذين يحلمون بأن يبقى النوبا فى ظل الهامش وجنوب كردفان شوكة فى خاصرة الوطن ، فلذا نحن نحتاج لتسليط الضوء على بعض المستجدات فى الساحة النوبية من كتاباتنا ، نحاول فيها أن نسترجع الذاكرة الى بعض فصول التجربة النضالية المريرة التى خاضها شعب جبال النوبا فى هذا السودان على مر العصور والأزمان ، و كيف أن أحلام النوبا قد تم إختزالها وتهميشها ، والتى تجاوزها النوبا الآن بهذه القرارات الأخيرة.

وأخيراً .. نقول لقيادات الحركة الشعبية بجبال النوبا ومجلس التحرير ومنسوبى الحركة يجب عليكم وضع بداية لتفكير عقلانى مختلف وخطاب سياسى مختلف يستصحب جموع سكان جنوب كردفان وأبناء النوبا غير المنتمين للحركة ، وأن تمدوا أياديكم بيضاء لكل حادب على جبال النوبا دون عزل أو إقصاء .. خطاب يغوص فى أعماق واقع جبال النوبا بشجاعة بحثاً عن أسباب المشكلة وجذورها ووضع الحلول الناجعة دون وضع قنابل مؤقوتة ، وأن تتركوا سكان جنوب كردفان وحدهم هم الذين يقررون شأنهم .. وهلموا الى قضية جبال النوبا.. ودعونا أن نتعامل بعقلانية واضحة لتغيير واقع جبال النوبا من خلال الآتى:

١- أن يتم إسترجاع كل المفصولين والمبعدين ، والذين أسسوا كيانات أخرى للحركة مثل الأغلبية الصامتة وجناح السلام وأصحاب القضية الحقيقية وغيرهم الى حظيرة الحركة الشعبية ، لحشد قواهم وتجاوز صراعاتهم وحزازاتهم وتكريس جهدهم وطاقاتهم بالمصارحة والمكاشفة والإعتراف بالاخطاء ثم المصالحة دون إقصاء لتوجه أو رأى أو عرق أو دين.

٢- توحيد الرؤية وتجاوز الإختلافات والإتفاق على الوسائل التى تحقق أمانى وأحلام سكان جبال النوبا وجنوب كردفان دون تقاطع أو تعارض مصالح.

٣- توحيد الخطاب الإعلامى والسياسى للنوبا وتحميل المركز مسئولية إيجاد معالجة جادة للتفاوت التاريخى والاقتصادى التى عانت منه المنطقة.

4- الحركة الشعبية ما زالت تعانى من الملف السياسى ، فيتوجب على قادتها عليهم الإستعانة بالسياسيين من أبناء النوبا .. كمستشاريين فى وفدها التفاوضى وإختيار قيادات سياسية واعية من أبناء النوبة وجنوب كردفان المتواجدون فى الداخل ودول المهجر ، أما بالنسبة للملف العسكرى والإنسانى الحركة قادرة على حملهما ولا تعانى من ذلك.

5- وقف التراشق والعدائيات والنقد غير البناء لإيجاد أرضية للتعايش بصورة إيجابية وحميمية تعمل على رتق نسيج التعايش الاجتماعى وترسيخ قواعده ضمن إطار واضح يقوم على ضوابط محددة يتوافق الجميع عليها.

6- عقد مؤتمر للمصالحة بين جميع مكونات الإقليم والإتفاق على القواسم المشتركة والإلتفاف حولها مع الإبقاء على الخصائص المميزة لكل عرق دون غمط لحق أحد فى الولاية.

7- المحافظة على أمن وممتلكات المواطن فى جنوب كردفان دون أى إعتداء عليه أو على ممتلكاته ، ومحاسبة كل المتفلتين من منسوبى الحركة الشعبية وكبت جماحهم حتى لا يحسب تصرفاتهم الى الحركة.

وإلى اللقاء فى مقال آخر

آدم جمال أحمد - استراليا – سيدنى - 20 مارس 2017 م

elkusan67@yahoo.com

 

آراء