رحل مولانا ( حافظ الشيخ الزاكي )، غفر الله له وأسكنه مسكن من أحب من أصفيائه الذين وعدهم الفيحاء من جنانه. وقد قال الترابي عندما تسيّد السلطة (أن كل أعضاء الحركة الإسلامية أمنين، بداً من شخصي ,إلى الأدنى )
(2)
لا يعرف المرء ماذا يكتب ؟ . فأنا حائر بين إرثنا الثقافي، وقدرته غير المحدودة في إعادة صناعة الشخوص في ذاكرتنا عبر أيقونات، نضربها بالفأرة فتنفتح السيرة تشع وهجاً و حفاوة. كم كرهت السياسة وأصحابها في كل الدنيا، لأن الكذوب من أهلها يقولون عنه: صادق وكريم، وأن النقي فيهم هو: الخاسر. وأن الساقط من ثمر شجرة السياسة يقدحون في سيرته بما فيه وبما ليس فيه. هذا رأيي مما لمسناه من تاريخنا السياسي الاجتماعي، وتواريخ غيرنا من الأمم التي نسير في أثرها، نتبع الحافر من فوق الحافر ، ولم يكن رأياً في سيرة أحد أو خروجاً عن النص. أما النعمة التي نستمسك بها، فهي السعي الحثيث لذكر محاسن الموتى، رغم أن الإنسان يتأرجح مثل الدُنيا.
(3)
قرأت ما كتبه البروفيسور" عبد الله علي إبراهيم " في مقال عن مولانا "حافظ " كرفيق درب، يقف هو على الطرف الآخر النقيض من العمل السياسي النشط و قد كان يخالفه سياسياً منذ ماضٍ بعيد، وهو يورد محاسنه الواحدة تلو الأخرى. رأيته انتقى قلادة مَدح تُضيء لمعاناً. ربما كانت لحياة الراحل الاجتماعية ملمساً حنيناً لمن عاشروه أيامها، ورءوا الجوانب المُضيئة التي رآها البروفيسور عبد الله، قبل أن تلعب السلطة بالعقول. لعله مُصيبٌ في كل ما أورده عن الرجل، فقد اعتدنا على ذكر كل الخير فيمن رحلوا، فيما اعتدنا أن نُضنّ بهذا الخير على الأحياء منا، ويقول المثل عندنا: ( الله لا جاب يوم شُكركَ ). نشكُر من بعد الرحيل، ونتجاوز عن المثالب ونرُش الماء العذب على تُراب القبر ونقرأ الأذكار ترحماً على الراحلين، ونغلق دفة الكتاب.
(4)
وأنا أقرأ مقال البروفيسور عبد الله ، تذكرت في يوم من أيام التسعينات الأُوَل، أيام الغلظة من أبناء الحركة الإسلامية وكسر العظام . احتاجت الذكرى أن نُقلب صفحات الماضي بغير ما اعتاد أهلنا الإفصاح عند الرحيل المهيب، فتركنا للزمن أن يُغسل لهب العواطف.
عندما كان الراحل مولانا " حافظ الشيخ" عضواً في لجنة المناقصات في جامعة الخرطوم، بحكم عمادته كلية القانون بعد أن تم تعيينه من علٍ!، من كتبه حاملاً درجة الماجستير لعمادة كلية القانون. وكنتُ وقتها مساعداً لسكرتير لجنة المناقصات بجامعة الخرطوم . كان بين يديَّ استمارة تدوين بيانات المناقصة والمتناقصين، في الجلسة التي تلي الفحص المالي والتدقيق الفني، ومن ثم البدء في إجراءات إرساء المناقصة. أيام كانت الشفافية منهاجاً ومسلكاً، قبل أن ينكفئ القدر، قبل انكسار الخدمة المدنية بعد أشهُر قليلة، وأيلولة الدولة إلى خزانة مبذولة للخاصة من أبناء الحركة الإسلامية! . كنتُ حينها مساعداً فنياً وكنتُ الكاتب " عبد الحميد " أيضاً !، أقوم بتسجيل الوقائع الواحدة تلو الأخرى، نتداول الصياغة ويكتبها شخصي. تتحول الأوراق وهي ممهورة بالتوقيعات إلى دفّة في كتاب العقود بين الدولة وإدارة المشتريات بوزارة المالية وبين شركات المقاولات التي أقرب للترسية. نرقب العقود تُعتمد ويتم توقيعها مع الذين يستحقون.
بعد أن اكتملت البيانات الرئيسة والخاصة بالمناقصة والمراجعة الحسابية بواسطة المراقب المالي للجامعة وجهازه المحاسبي، و بعد التدقيق من قبل اللجنة المختصة ، نحتاج لصياغة مسببات الاعتماد ،بعد التدقيق والتحليل للوصول إلى المتناقص الأفضل من قبل المختصين، ويبقى السعر الإجمالي الأقل هو الفيصل حسب النظم. ندوّن الأرقام آخر المطاف ونمهر الاعتماد بالتوقيع من الحضور. بقينا:( عميد كلية الهندسة وعميد كلية القانون وشخصي ). أنا في تدوين التفاصيل النهائية لصياغة خلاصة البَّت بكلمات موجزة لا تقبل إلا تأويلاً واحداً.
(5)
جلستُ مُنكباً على الأوراق ذات الصلة، وقد انفضَّ معظم الحضور من بعد التوقيع . عميد الهندسة و"مولانا حافظ "كانا واقفين للتأكُد من الختام والاطلاع على ما تمّ تدوينه بصورة نهائية، ليوافق ما تم الاتفاق عليه لفظاً ومعنى، وهما على وشك المغادرة .
سمعت أُذنيَّ عميد كلية الهندسة ( الدكتور عبدالله إبرهيم فضل) يقول:
- لو تسمح "مولانا "، أنا عِندي واحد من الأساتذة سافر بدون إذني، وسافر موطنه في غرب البلاد، وعرفت لاحقاً أنه غادر خارج السودان .ما عارف شنو الإجراء. رأيك شنو يا مولانا، طبعاً الإدارة عندها منشور خاص بطلبات عطلات هيئة التدريس وضرورة الموافقة الكتابية من عميد الكلية."
صمتَ " مولانا" قليلاً ,جاء الرد ( كالرّد في السّد )!. تنـزَّلت اللغة الآمرة بديلاً عن شراكة الأنداد وود الحديث، وخرج زبد السلطة الغضوب من تحت الجُلباب واهتزّت العمامة، وانهزم الوقار المصطنع:
وقال حافظ الشيخ:
- الناس ديل ما معروفين !. يمكِن راح للمعارضة في مصر مين يعرف ؟. تقوم تَكتب مُباشرةً لوكيل الجامعة بصورة من الكتاب لوزارة الداخلية ...
واستطرد ما شاء له الاستطراد. تذكر "مولانا " وهو في قمة انفعاله أنني أجلس قربه خطوة أو خطوتين !. أمسك هو بيد عميد كلية الهندسة وجذبه خارجاً بعنف وأغلق الباب خلفه. خرجا من غرفة الاجتماعات ليُكمل " مولانا" التوجيهات الأمنية!. لم أرفع رأسي عن التدوين رغم المفاجأة. تذكرت ساعتها أن السمع في الآيات القرآنية دوماً يسبق البصر والفؤاد. لم يحِلّ الباب المغلق من معرفة ما جرى. قبل أن تكتمل تفاصيل المشورة التي تحولت من إجراء إداري عادي إلى توصية بالملاحقة الأمنية !. وهو ما يناقض الإجراءات عند تجاوز إذن السفر في عطلات الجامعة، فقد كانت كليات الجامعة تنظم وجود هيئة التدريس في الكليات وفق جداول تقييم الاختبارات في المرحلة الثانية ( الملاحق ). وكان من الضروري وجود عدد من الأساتذة في الكليات للتنظيم والمراقبة والتقييم والضبط ، ورفع النتائج لمجالس الكليات .وهو أمر إداري معروف تطلب من كل عمداء الكليات تقييد عطلات أعضاء هيئة التدريس وفق البرنامج المُتفق عليه بعد تصديق عميد الكلية المُختص، ويصبح البديل مؤكد الوجود، مُداوماً في الجامعة و بمكتبه أيضاً.
نزلت اللغة الآمرة ثقيلة على مُحدثه الذي لم يحرك ساكناً . تحدث "مولانا" ، ليس بوصفه عميداً لكلية القانون ينصح زميلاً له في إجراء إداري داخلي عادي ، بل كذراع أمني يُراجع إن كان هنالك خللاً أمنياً قد حدث أو غفلة تتطلب المراجعة والاستدراك قبل أن تصيب عاديات الدهر المشروع السياسي!. يتتبع هو إصلاح هذا الخلل الأمني الخاص بسفر أحد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة( المُشتبه افتراضاً أن سفره جريمة! ) إذ ربما ينتمي لزمرة المعارضة التي تستدعي الملاحقة وتحريك الإجراءات الجنائية السياسية ، وتنبيه وزارة الداخلية !.
يبدو أن المهام الأمنية قد تدرب عليها حتى الشيوخ !. صار الهاجس الأمني سبيلاً واستباقاً لتجريم الآخرين. نسيَّ " مولانا " أن عضو هيئة التدريس هو زميل مثله، بل يحمل درجة الدكتوراه، في حين يفتقدها حافظ الشيخ الزاكي. قطع شوطاً في التأهيل ولديه مسئوليات مثله، و يمكنه أن يكون عميداً أو مديراً أو نائباً للمدير!. ويحق لأعضاء هيئة التدريس كلهم السفر في العطلات للمؤتمرات وللندوات وورش العمل وغيرها، إذ أن الدولة لم توفر لهم دعماً لممارسة حقوقهم الطبيعية للتطوير، وذلك شأن كل جامعات الدنيا. لذا يتعين أن تكون فتوى " مولانا " عن التجاوز الإداري في حدود تنبيه محدود السقف، أما التجاوز الأمني وفرضية احتمال العمل السياسي ضد الدولة في الخارج، أو الملاحقة البوليسية، فهي فكرة جهنمية ماكرة ليست لها علاقة بهيئة التدريس ولا بقواعد الضبط الأكاديمي، دعك من المرجعية القانونية لصاحب الفتوى !.
(6)
نظرت كل ذلك بعين الريبة والشك وأنا أقرأ الأريحية والنقاء والطُهر الذي منحته تجربة البروفيسور "عبد الله" المكتوبة عن الراحل " مولانا حافظ " وهو يتجول في 1964 م وفي 1983 م وفي 2007 م بالتتابُع، رغم أنهما يقفان على طرفي نقيض في تاريخهما السياسي، حين افتتح مقاله عن الراحل " مولانا حافظ الشيخ الزاكي":
(لم يمنع أنني كنت على الضفة الأخرى من نهج حافظ وأشواقه السياسية والثقافية أن أتذوق ميّزاته الجميلة الكثيرة. كان عندي مسلماً مؤمناً. )
قرأت المقال وطاف بذهني ما شهدت في أوائل التسعينات من القرن الماضي عن الحادث العارض الذي أوردناه، واهتزّت الصورة الناصعة لأهل التقى والصلاح، و نظرتُ أيضاً قبول " مولانا " التعيين عميداً لكلية القانون بجامعة الخرطوم وقد جاء من خارجها في ذلك الزمان وليست له علاقة بها، ودون التسلسل الطبيعي لتقلد المنصب بخلاف ما عهدنا يحدث في كليات الجامعة آنذاك. كان قرار تعيينه عميداً لكلية القانون وهو من خارج هيئة التدريس استثناءً مدت فيها السلطة يدها بقسوة لهزيمة النظم الأكاديمية !.
(7)
يا تُرى أيمكننا أن نقول أن هنالك ثَّلْمَةٌ في القلادة التي زينت مديح البروفيسور " عبد الله علي إبراهيم" وهو يكتب عن سيرة "مولانا"، وخالفنا نحن بما ذكرنا سُنن أهلنا، وفتحنا كوّة لا يتعين النظر منها لمن لبِست سيرته الطُهر والنقاء، فيما رشح من مقال قلمٍ البروفيسور الذي يُدقق كثيراً فيما يكتُب ولا يرمي النصوص على عواهنها حسب ما نعتقد. لقد كان في تاريخه القديم يقف على الطرف النقيض في الفكر السياسي والثقافي للراحل؟. وماذا عن حاضره؟
نشهد البروفيسور" عبد الله "وقد خفف لغة الخلاف من " طرفي نقيض" إلى "الوقوف في الضفة الأخرى "، وهي مؤشرات هدنة، ودليل مراجعة إذا أحسنا الظن، أو ذكريات خففت سنواته وقع التاريخ الغليظ للحركة الإسلامية على الحياة والآخرين ، أو هو إحياء سنة "أذكروا محاسن موتاكم ". " لعلنا تخيّرنا المكان والزمان المناسبين أم أننا ظلمنا السيرة ؟ " ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ رابط قلادة المدح ، هناك في مدونة سودانايل : ( حافظ الشيخ الزاكي: والسر في بئر ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم )