جرزيلدا الطيب وسوزان عبدالقادر، عصفورتان أروبيتان حلتا عند مقرن النيلين على فنن فطاب لهما السكن

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الرحمة والمغفرة يا ربي لجرزيلدا الطيب وسوزان عبدالقادر


بعث لي مشكوراً أخي العزيز دكتور حسن حميدة من ألمانيا مقطع فيديو جداً مؤثر وكلمات طيبات عن الراحلة الأستاذة جرزيلدا الطيب تم نشره حديثاً على صحيفة الركوبة الغراء. فعلاً لحظات المشهد "لعله الزيارة الأخيرة لتلك المقابر " رغم قصر مساحته الزمنية فقد كانت جداً حافة بالشجون الحرى بفيضان دموع المقل الساخنة مع تدفق فيض الذكريات الجميلة المحببة لجرزيلدا. كانت لحظة اختصار زمني دقيق لكنه جامع "كفلاش البرق الخاطف" لتاريخ عظيم فى عيون جرزيلدا وعيون من يتابعونها فمنهم من يعلمون ويقدرون حقائق الأشياء ومعادن الشرفاء من أفذاذ علماء وطننا الذين للأسف كثيرون منهم قد رحلوا خلسة وقد غيبهم تهميش الحاقدين من الدنيويين  والجهلاء أصحاب المصالح الزائلة، فكلاهما سيان فى نظري ، حالهم " مقتاً وعدواناً شيطانياً وجهلاً جهولا"


انتحبت من أعماقها جرزيلدا عند زيارتها الأخيرة لمقبرة زوجها ورفيق عمرها البروفيسور عبدالله الطيب وشقيقاته، وهي بدون شك الصادقة الأمينة،  ومعها إغرورقت عيوننا من على البعد تأثراً ، لم لا؟، فبعض القلوب قد تشارك بعضها بتراحم او شعور إنساني ووجداني وإن بعدت بينها المسافات أو مساحات الزمن… وكم من لواعج ومشاركة معاناة آخرين نحس بها ونتأثر لها وإن لم نعرفهم، منها ما نبوح به ومنها ما نكتمه…وفقط فى أغلب الأحيان نظل عاجزين عن التعبير أو التدخل فنرفع ايدينا بالدعاء إلى رب العالمين ورب السماء. الرحمة عليكما جرزيلدا واستاذنا عبد الله الطيب وعلى شقيقاته ومغفرة ورحمة وفردوساً أعلى يارب تكرمهم به جميعهم وكذلك موتانا وموتى المسلمين . إنا لله وإنا إليه راجعون


هذا الفيديو وهذا الحب والإخلاص المثالي لزوج إفريقي وعربي جلد هو القامة العلامة عبدالله الطيب ثم يمتد حتى بعد موته حباً وإخلاصاً له ولوطنه السودان وعشيرته فى الدامر والتميراب ذكرني بشخصية أخرى صديقة لنا شاء الله لها والقدر المحتوم أن تعبر البحر غرباً من بلدها فرنسا لتستقر وتعمل فى التمريض بالمملكة البريطانية ثم تعيش لاحقاً عمرها كله عند مقرن النيلين ثم تموت وتدفن في السودان . وقدر أستاذنا عبدالله الطيب الذي ساقه الي حب جرزيلدا والإرتباط بها كان يتكرر عند العديد من المبعوثين السودانيين في ذلك الزمن فى الخمسينيات من القرن الماضي، من ضمنهم قريبي الدكتور رقيق الشعور أحمد الطيب رحمة الله عليه ، الذي أحجم أنا هنا عن الخوض فى تفاصيل تراجيدية النهاية بقصة فشل زواجه من انجليزية إعتباراً لخصوصية الموقف. كان من بين أولئك المبعوثين أستاذ الخط والفنون الجميلة الدكتور جمال عبدالقادر. وفى قصته لحب سوزان الفرنسية الأصل ما يماثل قصة البروفسور عبدالله الطيب. حكي لي الأستاذ أحمد شبرين رحمه الله تفاصيل قصة ذلك الحب والزواج لأنه كان طرفاً فيه ومشجعاً له والشاهد على عقد القران. حكى لي أن الأستاذ جمال أخبره بقصة حبه لشابة فرنسية تعمل بالتمريض، جمعهم كورس اللغة الإنجليزية، حتى أن ثقته فيها وإعجابه بها صار يتمنى لو تكون زوجته. قال له شبرين ولماذ لا تتزوجها إن قبلت هي على سنة الله ورسوله وأنا سأكون شاهداً عند عقد القران ومسجد المسلمين ليس ببعيد من هنا. وقد تم الزواج هكذا وبأبسط التكلفة فى حفل جداً متواضع وعاد الاستاذ جمال وزوجته إلي الخرطوم وكذلك أحمد شبرين من لندن بعد انتهاء بعثتهما محاضران مدرسان بكلية الفنون الجميلة. من صدف القدر صارا يسكنان أولا في بري ثم فى شقتين متجاورتين بعمارة الأساتذة بالمقرن جوار المعهد الفني (آنذاك قبل أن يتحول إلى جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ). السيدة سوزان تأقلمت بسرعة قياسية على الحياة ونمطها السوداني المطلق وكذلك فى تعلمها وإتقان اللغة العربية. وأنا كلما أستمع إلى جرزيلدا تتحدث فى مقابلاتها المختلفة كأنني أستمع إلى سوزان لكثرة تقارب التشابه فى سرعة التحدث باللهجة السودانية مع حضور البديهة ولكنة " خواجية ملحوظة". سوزان وجمال أكرمهما الله بفوزي الإبن الذي كان جميلاً كوالده وجميلاً فى خلقه وأخلاقه والإبنة البارة بأهلها ثريا. نشأت صداقة قوية بين سوزان ووالدتي عليهما رحمة الله وعندما كنت أمارس فترة الإمتياز بمستشفى الخرطوم قالت سوزان لوالدتي " والله عبدالمنعم دا بس يا ريت يكون عريس بنتي ثريا دي" قالت لها والدتي " لكن بنتك لسع طفلة "، فردت عليها سوزان بسرعة كأنها رباطابية ولدت وترعرعت في ابوحمد "ما فى مشكلة ، بينكبرا ليه!". هكذا كانت لطيفة ومعشرها طيباً وأخلاقها وتعاملها كلها طيبة ومجاملات بلا حدود للناس فى السراء والضراء. فى إحدى المرات والونسات قالت والدتي لسوزان " والله يا سوزان أحببناك وبقيتى سودانية زينا مافيش فرق، بس ناقصاك لا إله إلا الله ، ليه ما تسلمي عشان ربنا يجمعنا بعد مانموت سوى فى الجنة " ردت سوزان " والله كل شي في الإسلام سمح وتمام بس حاجة واحدة إذا راجلي مات أحبس نفسي اربعة شهور؟ ، دي ما بقدر عليها " فردت عليها والدتي وقد تفقهت قديماً من والدها الفقية شيخ الطاهر الربيع " عفيناء من الحبس، الباقي هين". لكن لاحقاً تم لها ذلك المراد. تعلمت سوزان كل فنون المطبخ السوداني وصارت تجيد كل شيء حتى " ملاح النعيمية". بحكم ثقافتها الفرنسية وتعليمها فى التمريض كان لها نشاط توعوي طبي وإرشادي فى صحة وتربية الأطفال واستفادت منها كل الأسر السودانية التي كانت تقطن عمارات المعهد الفني فى مجالات متعددة .في تلك العمارة كان يسكن الأستاذ أحمد العربي وزوجته فوزية والأستاذ الفكي حداد وزوجته فاطمة والأستاذ عبدالمنعم أحمد صالح وزوجته حواء والاستاذ حاج بخيت وزوجته محاسن والأستاذ مصطفى حسن وفي العمارة المجاورة الأستاذ مجذوب رباح وزوجته فاطمة والصلحي وكمال بدر وبشرى وعبدالقادر الكدرو وآخرين غابت عن الذاكرة أسماؤهم. رحمة الله على من لحق منهم بالرفيق الأعلى والبركة في من تبقي على الحياة


شاء الله أن يحظى الاستاذ جمال مرة أخرى ببعثة لمدة سنة بفرنسا. فرحت سوزان وقامت بإيداعها ما تمتلك من اغراض شخصية عند شقيقتي عائشة زوجة الأستاذ شبرين وأغلقت شقة السكن وهي وابنائها ركبوا الطائرة وفوق ذلك يحملها الشوق والحنين إلى فرنسا الخضراء الجميلة آملة أن تقضي سنة رواح وبهجة ومسرة خاصة عندما تلتقي بالبقية من أهلها.نزلت مع شقيقتها وكان مركز تدريب جمال يبعد ساعات بالقطار و كان ذلك يقتضي ان يسكن هو هناك. بعد مرور أسبوعين عند ضيافة الشقيقة وكعادة صراحة الغربيين قامت الشقيقة بالإعتذار بأنها لا تستطيع الإستضافة بأكثر من ما قدمت من ما جعل سوزان تحمل طفليها وتعود للسودان. فقالت " آمنت أن السودان وطني والسودانيين هم أهلي". رحبت بها شقيقتي والاستاذ شبرين بل كل الاساتذة وأسرهم المحترمة فقد كانوا كلهم يعيشون كالأسرة الواحدة وإلى يومنا هذا لا تزال العلاقات مستمرة بين من بقي منهم على قيد الحياة بل العلاقات متواصلة حتى عبر من تركوهم من أبناء وأحفاد.توفى الأستاذ الخلوق المبتسم دائما جمال عبدالقادر ليترك سوزان تواصل تربية الابناء ، علمتهما السباحة والفروسية وكانت أمنيتها أن تتعلم ثريا البيانو، ولم تمانع ليتعلم إبنها فوزي خارج السودان في روسيا وليتخرج طبيباً بيطرياً ثم يستقر بالسويد ( رحمة الله على شبابه الغض وهو يتوفاه الله بمقر عمله بالسويد) وتبقى بفضل الله الإبنة البارة بأمها ووطنها السودان ثريا فتعمر الأرض بالأبناء البررة المجتهدين. ترعرعت ثريا رغم صغرها ناضجة وجادة في نمط حياتها وتعاملها وشمرت سواعدها متحملة المسؤلية تجاه أطفالها ووالدتها خاصة عندما كبرت سنها ومرضت حتى توفاها الله. ثريا ظلت ذهبا لا يصدأ ، متواضعة كموظفة فى مكتبها حتى أنها بعض الأحيان تركب الرقشة لتقوم بالتواصل لأداء واجب إجتماعي وتطبخ كوالدتها البامية والملوخية وتأكل مثل أمها سوزان الكسرة والدكوة وتلبس الثوب السوداني ،قبل سنوات وبعد وفاة والدتها وصلتنا في السويد تلهث وباكية خلال آخر اسبوع من ديسمبر رغم البرد والجليد لتلقي النظرة الأخيرة على شقيقها الوحيد الذي بقي لها سندا قبل أن يموت لكنه فارق الحياة قبل وصولها فبكت وتجملت بالصبر رغم عظم المصائب المتراكمة ، فنعم الإبنة لجمال وسوزان هي الثريا والأم المثالية وذرية صالحة فقد أكرمها الله بأداء فريضة الحج. ربنا يبارك لها في عمرها ودينها وزوجها وأبنائها


الرحمة على الدكتور جمال عبدالقادر وعلى السيدة سوزان عبدالقادر التي أكرمها الله بنعمة الإسلام وحسن الخلق والمعشر فأوصت شقيقتي عائشة وقد مرضت " إذا مت تدفنوني جنب جمال ويا عائشة أوصيك على بنتي ثريا". سافرت مرة لزيارة إبنها فوزي فى السويد ، قالت لي عائشة جاءتنا تودعنا فمسك شبرين يدها وقال لها " الوصية ، لا إله إلا الله " قالت ردت علية "محمداً رسول الله ". قد شاء الله أن يكون الأستاذ أحمد شبرين شاهداً على ذلك ونفذ هو وصيتها لتدفن جوار زوجها الذي كانت تحب وكان يحبها ورثاها شبرين عند الوداع الأبدي ساعت دفنها ثم لحق بهما نفسه راضياً مرضياً عنه بإذن الله بمقابر فاروق بالخرطوم.


الرحمة على جرزيلدا وسوزان وعبدالله الطيب وجمال عبد القادر وأحمد شبرين وعلى كل الطيبين من معلمين ومبدعين من أبناء السودان البررة الذين ولدوا فقراء وماتوا فقراء لكن العصامية والتجرد والصدق ونكران الذات والإخلاص لمصلحة الوطن كانت كلها أنجماً ونياشين تلمع على كتوفهم وتجمل صدورهم وسرائرهم البيضاء داخل القلوب التى تسبح وتنبض حمداً وشكراً لله. يارب تكرمهم بالفردوس الأعلى واجعل بقيتهم ذرية صالحة، وبارك الله فى الأستاذة السيدة الموقرة إبنة سوزان "ثريا" جمال عبدالقادر وفى ابنائها وزوجها وكذلك أسرة المرحوم جمال عبدالقادر بالعاصمة المثلثة. أسموها ثريا وفعلاً هي اليوم في سمائنا النجم المنير والوجه الذي يطل علينا مبتسما مخلدا لنا ذكريات والديها بل ملامح وجهيهما وابتساماتهما البريئة، حفظها الله من كل سوء


تبقى سيرة كل من جرزيلدا وسوزان مثل إبداعات حكايات ألف ليلة وليلة الأسطورية المشوقة، فكل منهما كانت رواية متكاملة لقصة حب ووفاء نادر وتضحية مثالية. القصتان تصلحان لتأليف سيناريو سينمائي ليمثل ويعرض فيلماً على شعوب العالم. هذا النوع من الإخلاص والوفاء للزوج والسماحة ونكران الذات لا يقدر بثمن. أما التضحية بالنفيس لأجل الآخرين أو لأجل الأوطان لهى قمة المروءة وجوهر معدن الأصالة الإنسانية الحقيقية. هكذا كانت كل من جرزيلدا الطيب وسوزان عبدالقادر عليهما رحمة الله. ما أجملهن، عصفورتان أوروبيتان مهاجرتان في السودان عند النيل على مقرن النيلين حلتا على فنن رطب ريان فطاب لهما السكن. يا رب تطيب مسكنهما في الفردوس الأعلى حيث هناك يتجلى طيب لقاء الأحباب والمقام و بهجة الخلود في أجمل سكن.

أوعدنا يا الله


drabdelmoneim@gmail.com

 

آراء