جلال حسن عتباني: اعتداد الدبلوماسـيّة في عَـتباتِ الرَّحيـل

 


 

 

وأفجع من فقدنا من وجدنا قبيل الفقد مفقود المثـالِ
يُدفّن بعضنا بعضاً ويمشي أواخرنا على هامِ الأوالي
(المتنبي)

(1)
جلال حسن عتباني. . رحمــك الـلـه أيُّـهـا العـزيـز. . . !
دعني أحـدّثك عن السّفير الرّاحل جلال، منذ تلك الأيام التي عرفته فيها، قبل نحو أربعين عاما. . وجلال من دبلوماسيي الجيل الثاني الذي لحق بجيل المؤسسين الكبار عند إنشاء وزارة الخارجية فجر الاستقلال عام 1956م. هو من الجيل الــذي تعلمنا منه الكثيـر، حتى وهــو في سنوات تقاعده قبيل رحيله الفاجع. تلــك قصّــــة، ولكن دعني أقصُّ عليك كيــف عرفــني أنا وصديقي الدبلوماسي الألمعي الراحل هاشم عبد الرازق صالح، منذ سنوات الثمانينات .
جمعتني مع الدبلوماسيّ الرّاحل هاشم عبد الرازق، صداقة حميمة من قبل أن تجمعنا وزارة الدبلوماسية في مدارجـها ، إذ كنت قد سـبقته بعام أو عاميـن في جامعة الخرطوم، وكـذا في وزارة الخارجية . لكـنـه وبطبعه الصوفي المنفتح على من حـوله ، صــار هاشـــم قريـبا إلى قلبـي، بأكثر ممّن زاملـوني من أبناء دفعتي في الجامعـة أو في وزارة الخارجية . تقلبـتْ بنـا مهامـنـا الدبلوماسية بين سفارة وأخرى، والسودان قمر في عيوننا.
بعد تجربة عاصفة في سفارة السودان في كمبالا، قررتْ الوزارة نقلي إلى محطة أقل صعوبة وأيسَـر حالاً ، فكانت محطتي الدبلوماسية التي اختارتها لي هي سفارة السودان في تونس.
هنالك التقيتُ بصديقي هاشم من جـديد، فأحيينا حميمية معتقة افتقدناها زمـانـا.

(2)
في تونس عام 1980م ،عملنا تحت إمرة سفير صعب المراس رحمه الله وأحسن قبوله. لم يكن يسيراً علينا ، أنا وصديقي هاشــم ، أن نتحـمّـل عسـفه ونحـن في أوّل عـتـبات المهـنة الدبلوماسـية. ظلـلـنا نشـكو لطـوب الأرض من رئــيس لبعـثـةٍ، شـغل جلَّ وقـته في متابعـة سلوك مرؤوســيهِ، تلـك المتابعـة اللصيـقة التي اقــحــمَ بـهـا نفسـَــهُ في أدقَّ خصــوصيــاتـهـم الشخصية. برغـم أنـّـي وصديقي هاشـم، كنا أعزبين، لكن لم يكن في مسلكي أنا ولا في مسلك صــديقي هاشـــم، ما قـد يُشـيـن، لكنه ظل على تحذيره لنا من "الترخًص"- حسب قوله- الذي شاع في تونس . ذلك ما يؤسف أن يصدر عن سفير معتمد لدى دولة يحمل عنها هذا الرأي المسيء، حتى وإن لم يفضِ به إلى سوانا. .

(3)
مِــن بعضِ شــططه في التعامـل معـنا، أنهُ كـان يـرى فــي تخصيــص ســيارة مـــن البعـثــة لـتـقـلّ مرؤوســـيه إلى مكاتـب السـفارة، نوعــاً من التــدلـيـل والدِّعـة الـتي فـي نظـره لا تتناســـب مع رصــــانة المهـنة الدبلوماسية. عرفنا بعد ذلك أنّ لذلك المسلك من جانبه قصة تحكى. بلغنا ممن يوثق من مصادره ، أن الرّجل يوم كان دبلوماسياً في أوّل مهمة خارجية له، منع عنه السفير - رئيس بعثته أن يستغل سيارة البعثة من مسكنه وإلى مقر البعثة ، فاقتنى حمـارا . أجل ظـلّ يجـيء لمكاتب السفارة على ظهر حمارٍ يرابط أمام مبـنى السّــفارة، لــهُ علـفٌ ولـهُ نهـيـق. ســـألني صديقي هاشم : وما ذنبـنا أنا وأنت يا جمال، يُســقط علينا الرّجل أصداء تجربته القديمة في السـفارة التي أذاقه فيها رئيسه وقتذاك، عـذاباً دفعه لاقـتنـاء حمـار يستغله في الوصول إلى مكتبه في تلك السفارة، في سنوات الخمسينات الميلادية... ؟
ذلك سؤال رفعناه معاً لسـفيرٍ أكثر تفهّماً جـاءنا في زيارة عـملٍ إلى العاصمة التونسية ، إذ قرّرنا أن نشكو له معاناتنا مع ذلك السفير العسيرالمِراس. السفير الأكثر تفهّماً هو جلال حســن عتباني. تولى مهمة التوسّــط والتحدّث إلى ذلك السفير بصراحة طالباً منه أن يعيد النظر في تعامله مع اثنين في سفارته من ناشـئة السلك الدبلوماسي ، أكد له أنهما ممَّن يُرجَى منهــما في إجـادة الأداء الدبلوماسي. لم تكن تعوزه الشجاعة في إبـداء الـرأي ولا هو ممّن يرمي الكلام في "لولوة" دبلوماسية تموّه الإفصاح بالحق فيضيع .

(4)
لم أكن وقتها أعرف جلالا معرفتي لصديقي هاشم ، إذ بينه وبيننا سنوات وسنوات . يـوم أن التحقت بوزارة الخارجية، كان جلال سـفيراً في لبـنان، وبعــدها في عدد آخرمن السـفارات السودانية، لكنّي لم أسـعد بحظٍ يجمعني للعمل معه في بعـثة واحــدة. تلك من طبـيـعة المهــنة الدبلوماسية، فقد لا يلتقي ممتهنوها في سـفارة خارجية أو في إدارة في ديوان الوزارة، حـتى بلوغ سنوات التقاعد. غير أنّ لبعضِ سـفراء السودان نظراً ثاقباً وقدرةً على التعاون الصادق مع الجيل الجديد الذي يلتحق بالدبلوماسية، فلا يبخــل على القادميــن الجُــدد بالخــبــرة ولا بالتـدريـب، وإن لــم تجمعهم مع بعضهم سفارة خارجية أو إدارة. ومن بيــن أكثر هـــؤلاء، سفراءُ كبـــارٌ جُبـلـوا على الأخذ بيد ناشئة الدبلوماسيين، بالرفـقة الحســنة قبل الصُّحــبة الأبويـة، وبالتناصـح الأخــوي المُقنع ، قبل التنطّـع بالنصح الجــاف المُنفّـِر. ومـن حســن حظــي أنْ صـادفتُ في سنواتي الدبلوماسية من أخذ بيد الأبوة الدبلوماسية الحانية ، مثل السفيرين الرّاحلين محمد العباس أباسعيد وجلال حسن عتباني. .

(5)
في عام 2006م قدمتُ إلى بيروت سفيراً للسودان ، ولم يشجعني على لبـنان إلا ذلـك السفير الحبيب الذي عمل يومـا رئــيسا لســفارة السودان، قبل نحو ثلاثيـن عاما . صحبــتي لجــلال في بيــروت حينَ كان يحـلّ بأرض الأرز، وهو في ســنوات تقاعـده. في رحلـتـه الصيفية إلـى ربـوع لبـــنان، صحــبـة منـحــت لإقـامتي في تلك البلاد متـعـة برونـق أيامـهـا الربيعية ، وصـفاء أنشـــطتـها الدبلوماسية برفقة ســفير عشــق بيروت وله فيه قرينة عمره، كما حفــظــتْ لــه ذكــريات جـــولاته والحرب الأهليــة في أولى سنوات حــرائقـها أواسط ســبعينات القـــرن العشــريـن الميلادي. ظلّ يؤانسني معلمي السّـفير عـــن أيامه تلك ، فأعجب كيف قام على إدارة سفارته رابط الجأش، في تلك السنوات، فيما احتــشد من حول سفارته في بيروت، القناصون والقتلة من كل لون وجنس وديانة .

(6)
لقد كانت أيامي في بيروت، غير أيام السـفير الرّاحل جـــلال عتــباني ومستشاره صـــديق أبوعاقلة. كانت أيامي ساخنة بخصومات الساسة وبخلافاتهم المستعصية، ولكـنها لــم تصل إلى مرحلة التقاتل الذي وقـع في السبعينات. على أيـامي وفي سخونتها الناعمة- وقد شاركني فيها معلمي السفير عتباني– شهدتْ اضطــراباتٍ تركت البــلاد بلا رئيــس جمهـــورية فاعــل وجكومة يقودها الســنيورة وتحاصرها خيــام اعتصــــام المعارضين لحكـومتـه ومن ورائها حزب الله .
يضحك السفير جـلال على جرأتي لمقابلة فخامة رئيس الجمهورية اللـبنانيـــة وقتــذاك إميل لحّــود، مرافقاً لمبعـــوث رئاســـي من السودان، فيما لم يتفضّل رئيس الجمهورية بتسلم أوراق اعتمادي، وفق الترتيب الدبلوماسي التقليدي، إذ استقال وزيرالخارجية يوم جئته لأقــدم نســخة من أوراق اعتمادي. ابتسم الرئيس لحّــود قائــلا: لا علــيـك فليــس عــنــــدي وزيــر خارجية. . !

(7)
تلك حال بيروت وقد خاصمتْ حكومتُها رئيسَ جمهوريتها، فبقـيـتْ أكثر السفارات في حيرة من أمرها شهورَ عددا. عزائي في وحشة أيامي في بيروت ، تلك الجلسات التي يتحفني فيها السفير جلال برؤاه حول الذي يدور في الساحة اللبنانية . شــكا لي مرّة عن تأخّــرهِ عن زيارتي في السفارة لأيام بسبب صعوبة إيجاد موقف لسيارته الصغيرة، فوجّهت إدارة الأمن لتوفير موقف إضافي لسيارات السفارة السودانية حتى تجد سيارة السفير مكانها مع سيارات البعثة. . إكراما لسفير سبق أن جلس وقبل ثلاثين عاماً ، على ذات الكرسي الذي كنت أجلس عليه في عام 2006م. لقد اعتمدتُ بصفةٍ شخصيةٍ - ويا لحظي- معلمي جلال مستشاراً لي في العلاقات السودانية اللبنانية. .

(8)
يومَ قررتْ أسرته أن يغادر إلى القاهرة لاستكمال العلاج، قاوم إرادة الأســرة باعـتـداد . لم تخُنهُ إرادتُـه ولا جرأتُـه ولا شــجاعتُـه التي عرفناها عنه، في قراءة حالته الصحية. ودّعناه بأدمعٍ عجـزنا أن نخفـيها عنه ، لكنّـهُ- وحيــنَ أعـجــزته العِــلـّة عن النطــق- ودّعـنـا بابتـسامةٍ جريئـةٍ ووادِعــة ثـمَّ رحـَـل. .

الخرطوم – 5 مارس 2023

 

آراء