جمعة إنقاذ مصر من السيناريو الجزائري

 


 

 

انعقدت في جامعة وستمنستر يوم الأربعاء الماضي حلقة دارسية بعنوان: "تأمين الديمقراطيات الجديدة في العالم العربي"، شارك فيها لفيف من الأكاديميين والقادة السياسيين. وكان لقيادات الأحزاب الإسلامية الحضور الأبرز، لأسباب لا تخفى. وقد كانت هذه المؤتمرات سنة استنها مركز دراسات الديمقراطية بقيادة مؤسسه ومديره السابق البروفيسور جون كين حتى قبل انضمامي إلى المركز، حيث عقد في عام 1996 حلقة دراسية حول مشاركة الإسلاميين في السلطة نشرت وقائعها في كتاب من إعداد الدكتور عزام التميمي. وقد مثل هذا إدراكاً مبكراً من قبل المركز لأهمية دور الحركات الإسلامية في إنجاح العملية الديمقراطية في البلدان العربية، ووعياً استباقياً بالإشكالات التي يطرحها هذا الدور.
وبدءاً من عام 2006، وفي أعقاب الانتصارات التي حققها الإسلاميون في انتخابات مصر والمغرب والبحرين وفلسطين وغيرها من الدول العربية، وحتى في الانتخابات المحلية السعودية، تجاوز إدراك أهمية هذه المسألة إلى مراكز صنع القرار الغربي، حيث عقدنا في ذلك العام مؤتمراً شاركت فيه قيادات من الحركات الإسلامية من المغرب والجزائر وفلسطين وليبيا وتونس ومصر والعراق ومعظم دول الخليج العربي، إضافة إلى مساهمة ومشاركة فاعلة من وزارات الخارجية الأمريكية والألمانية والنرويجية والبريطانية، إضافة إلى لفيف من الأكاديميين الغربيين والعرب بالطبع. وقد دارت في ذلك اللقاء الذي استمر ثلاثة أيام نقاشات معمقة تناولت رؤية ومخاوف الأطراف المختلفة، وطرق التوفيق بين رؤاها.
وقد دأبنا منذ ذلك الحين إلى عقد هذه اللقاءات سنوياً. وفي عام 2007، أضفنا لقاءً آخر حول مستقبل مصر، شارك فيه مفكرون وناشطون مصريون من مختلف التوجهات. وخلال كل هذه اللقاءات، كان أحد أهم محاور النقاش هو الأعباء المفروضة على كل الأطراف من أجل تحقيق ثم إنجاح التحول الديمقراطي في العالم العربي، وخاصة الدور الملقى على عاتق الحركات الإسلامية باعتبارها فصيل المعارضة الأقوى، خاصة وأن الأنظمة ظلت تستخدم التخويف من الإسلاميين لتبرير تمسكها بالسلطة، ولتثبيط همم المناضلين من أجل الديمقراطية.
اكتسب هذا السؤال أهمية إضافية في مؤتمر عام 2007 الذي كان عنوانه : "الإسلاميون والديمقراطية والعنف السياسي في العالم العربي: تحدي حماس"، وتناول التحدي المزدوج الذي فرضه وصول حماس إلى السلطة في فلسطين عبر الباب الانتخابي، ثم العملية الانقلابية التي نفذتها في غزة وإحكام سيطرتها عليها عبر جهازها العسكري. وكان لهذا التحدي جوانب عدة، أولها أن حماس وصلت إلى السلطة وهي لم تكن تتوقعها أو تريدها، وكانت مفاجأتها بنصرها الكاسح مثل مفاجأة غيرها، حيث لم تكن مهيأة لإدارة سلطة أوسلو التي تتطلب تنسيقاً مع السلطات الإسرائيلية، وكلاهما لا يعترف بالآخر. ولهذا كان انتصارها مأزقاً أكثر مما كان كسباً، وكانت البداية فشلها في إقناع أي طرف فلسطيني آخر بالانضمام إلى حكومتها. ونفس هذه المشكلة تواجه الحركات الإسلامية الأخرى التي لم تحضر نفسها لتولي السلطة بتبني برامج واقعية أو بناء تحالفات واسعة تطمئن الآخرين وتضمن الاستقرار. ولهذا كانت حركة الإخوان في مصر تسعى إلى طمأنة الآخرين بالتأكيد أنها لن تسعى لاكتساح الانتخابات. ولكن كما ذكرنا فإن هذا الاكتساح قد يأتي رغماً عنها كما حدث لحماس. وفي انتخابات عام 2005، فاز ثلثا مرشحي الإخوان للبرلمان، رغم التزوير والجهود الجبارة التي بذلتها السلطة. فكيف سيكون الحال في انتخابات ديمقراطية؟
التحدي الآخر يتعلق بمخاوف الأطراف الأخرى من أن يسعى الإسلاميون إلى الانفراد بالسلطة بعد انتخابهم لها، وهي مخاوف كان الإسلاميون يرون أنها غير مبررة. ولكن ما فعلته حماس في غزة أثار شكوكاً إضافية حول هذه التطمينات. كانت هناك أيضاً إشكالية ثالثة تتعلق بحماس وحدها (وكذلك بحزب الله في لبنان)، وهي "الاستخدام المزدوج"، إن صح التعبير، لسلاح المقاومة. ففي الحالين كانت الحركات تدافع عن حقها في التسلح بالاحتجاج بأن السلاح موجه للعدو وللدفاع عن المواطنين ضد العدوان الخارجي، ولن يستخدم أبداً ضد الخصوم السياسيين المحليين. ولكن كلا الطرفين خرق هذا التعهد، وبالتالي قدح في مشروعية تملك السلاح.
في المؤتمر الذي انعقد في يونيو من العام الماضي، اختلفت الأوضاع كثيراً، وبقيت الاسئلة والتحديات. فالديمقراطية تحققت، ولكن الحركات الإسلامية تجد نفسها هذه المرة على أعتاب تسلم السلطة. مرة أخرى طرحنا سؤال أن ترداد التعهد بعدم اكتساح الانتخابات لم يعد يكفي، ولا بد من التحضير لظروف قد تتولى فيه الحركات الإسلامية السلطة منفردة. ولكن حتى في تلك اللحظة، لم نكن نتوقع الاكتساح الكبير للتيارات الإسلامية للساحة الانتخابية في مصر وتونس والمغرب والكويت.
لكل هذا اكتسب مؤتمر الأربعاء الماضي أهمية خاصة، حيث أن الأوضاع التي يعالجها هي التي كنا نناقشها من قبل كسيناريوهات محتملة، ولكنها أصبحت واقعاً. ولعلها كانت مصادفة ذات مغزى أن الأسبوع الذي سبق المؤتمر شهد اشتعال الساحة المصرية بالسجال حول الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي، وانتقد باعتباره تكريساً للسلطات في يد الرئيس الإخواني. وقد رأي خصوم الإسلاميين في هذا المسلك تصديقاً لكل مخاوفهم من التوجه الاستبدادي لدى الإسلاميين. في نفس الوقت شهدت الساحة التونسية تجاذبات مستمرة حول الحقوق والحريات، خاصة في مجال الإعلام.
كان من بين حضور المؤتمر الدكتور محمود حسين، الأمين العام لحركة الإخوان المسلمين في مصر، الذي دافع في مداخلته عن قرارات مرسي بالقول بأن مؤامرة كانت تحاك لتقويض المؤسسات الدستورية عبر حل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية، وربما التشكيك في انتخاب الرئيس، مما كان سيؤدي عملياً إلى انهيار دستوري وعودة الجيش إلى الحكم. ولهذا اتخذ الرئيس هذه الإجراءات الاحترازية لحماية العملية الانتقالية، وهي إجراءات مؤقتة لحين إجازة الدستور وتحقيق الانتقال إلى مؤسسات منتخبة.
أما الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة في تونس، فقد تحدث بلهجة مخلتفة تماماً، كان فيها رد غير مباشر على تبريرات الدكتور محمود حسين، حيث وصف صيغة الحكم الائتلافي في تونس باعتبارها أكثر من ضرورة براغماتية فرضتها نتائج الانتخابات، بل هي صيغة مثلى للحكم في ظروف الانتقال. وأكد الغنوشي أن الحركة ستعتمد هذه الصيغة حتى لو كسبت الأغلبية في الانتخابات القادمة. وأضاف أن إجازة الدستور لا بد أن تتم بالتوافق بين القوى السياسية، وليس بالأغلبية الميكانيكية. وبنفس المنطق فإن الحديث عن التداول السلمي للسلطة يفترض توافقاً على الأساسيات، لأنه لا يمكن تداول السلطة بين أحزاب تختلف برامجها بصورة جذرية (كأن تكون بين حزب ليبرالي يؤيد سياسة السوق الحر وآخر شيوعي يريد تأميم كل شيء) لأن مثل هذا التغيير لا يكون تداولاً، وإنما انقلاباً. وعليه لا بد لنجاح أي عملية ديمقراطية من أن يتم التوافق على الأساسيات بين جميع الأطراف الفاعلة مقدماً، وإنما تترك الخلافات الفرعية لكي تحسم عبر العملية الانتخابية.
أثارت هذه المداخلات، إضافة إلى مشاركات الأكاديميين المرموقين في الندوة، نقاشاً مستفيضاً، ومساهمات قيمة يصعب تلخيصها هنا. ولكن يكفي القول أنها كانت تميل إلى الرأي الذي عبر عنه الغنوشي في أهمية التوافق والبعد عن الاستقطاب. ويعتبر هذا الموقف محل إجماع معظم منظري الديمقراطية، حيث يرون أن ما يسمى "عدم اليقين المحدود" (أي اعتماد نتيجة العملية على قرارات الناخبين، ولكن في داخل حدود متفق عليها، فلا يمكن ترك كل شيء لنتائج التصويت) هو أحد أهم أعمدة البنيان الديمقراطي.
وفي مداخلة كاتب هذه السطور كان التركيز على نتائج دراسات متعمقة لتاريخ الديمقراطيات المتعثرة في المنطقة، أشارت إلى أن الديمقراطيات كانت تنهار بسبب الاستقطاب الحاد بين القطاعات الفاعلة في المجتمع: بين التقليديين والحداثيين في مطلع القرن الماضي، وبين اليسار واليمين في منتصفه، ثم بين الإسلاميين والعلمانيين في نهاياته. وبين هذا وذاك، كانت هناك الاستقطابات الطائفية والعرقية والقبلية. والملفت هنا أن خطوط التماس تتغير، ولكن المشكلة تبقى نفسها، وهي الخوف من الآخر. وقد يتعجب المرء كيف أن الاستقطاب المسيحي-الإسلامي كان محور الصراع في لبنان (في تطابق جزئي مع اليميني-اليساري)، بينما نجد السنة والمسيحيين اليوم في حلف اليوم ضد الشيعة. ولعل المفارقة الأكبر هو أن الاستقطاب الإسلامي-الليبرالي في مصر، والذي بدأ بعد الثورة، كان محوره معاداة الليبراليين للعسكر ومهادنة الإخوان لهم، أما اليوم، فإن الليبراليين يطالبون بأعلى الصوت بتدخل الجيش ضد الحكومة المنتخبة.
في دراسة أخرى أجراها كاتب هذه السطور ظهر دور محوري لسيناريوهات التخويف في تقويض الديمقراطية وتبرير التطرف. وكانت مفارقة أن التبرير الإخواني للإجراءات الاستثنائية استند في جوهره على سيناريو من هذا النوع عن مؤامرة لتقويض العملية السياسية. ولعل مقبل الأيام تكشف عمن روج لمثل هذه التكهنات، حيث يبدو أن هنا جهات أمنية سربت مثل هذه المعلومات عن مؤامرات تحاك في الخفاء بين قوى الظلام ضد الانتقال الديمقراطي، وقد تكون هذه بدورها "مؤامرة" لاستدراج الإسلاميين إلى الصدام مع القضاء والجيش وبقية القوى السياسية.
ورغم أن للإسلاميين مبرراتهم لتصديق مثل هذه السيناريوهات، خاصة وأن مثلها قد وقع من قبل، إلا أنه لا بديل، رغم ذلك، عن السعي الجاد إلى التوافق، وبذل التنازلات من أجل الوصول إليه. فالمطلب الأساس في هذه المرحلة هو تثبيت العملية الديمقراطية، وليس تحقيق أهداف أخرى، مهما كانت أهميتها. ولن يضر الإسلاميين شيئاً أن تحل المجالس أو حتى تسقط الرئاسة، لأنهم سيعودون إذا كانت هناك انتخابات حرة، وإذا حافظوا على مكانتهم الشعبية عبر إثبات تمسكهم بالديمقراطية. ولكن أخطر شيء هو شق الصف كما حدث بعد الإعلان الدستوري الأخير، الذي جعل الإسلاميين في خانة العداء لأنصار الديمقراطية، وأعطى خصومهم تأكيدات لمقولاتهم وسوء ظنهم.
ونحن نقول إنه لو كان الإعلان الدستوري نصاً قرآنياً لوجب تعليق العمل به لما سببه من شرخ في الصف الوطني وضربة لسمعة الإسلاميين ومؤهلاتهم بالديمقراطية. فالمقاصد العليا أهم من النصوص الفرعية. ولن يضير شيئاً كذلك تأجيل الاستفتاء على الدستور حتى يتم التوافق على نصوصه، فكما قال الشيخ راشد، فإن الدستور لا ينبغي أن يجاز بنسبة 51%. والديمقراطية ليست حصراً حكم الأغلبية، ولكن حكم الأغلبية في إطار متوافق عليه، فالحروب الأهلية تفجرت في بلاد رغم حكم الأغلبية كما حدث في السودان والعراق ولبنان لأن بعض الأقليات شعرت بالإقصاء.
ولنذكر كذلك سيناريو الجزائر الذي فاز فيه حزب إسلامي بثمانين بالمائة من المقاعد، ولكن قادته ذهبوا إلى السجون لا البرلمان، ولم يجدوا ولياً ولا نصيراً بسبب خطابهم الإقصائي. ولعلها كانت مفارقة أن مرشد الإخوان كان يؤكد قبيل الانتخابات إنهم لا يريدون أن يترشحوا للرئاسة ولا الهيمنة على البرلمان حتى لا تواجه مصر مصير غزة. ولا شك أن ذلك التحليل لم يكن صحيحاً، لأن غزة لم تواجه الحصار لأن الإسلاميين فازوا في الانتخابات، وإنما أولاً لأنهم يرفضون صيغة أوسلو التي انتخبوا بموجبها، وثانياً لأنهم انقلبوا بالقوة على النظام الذي انتخبوا فيه. ولكن سياسات مرسي الأخيرة تهدد بتكرار سيناريو غزة-الجزائر معاً (وأرجو ألا يكون هذا "سيناريو تخويف" من اختراعي!)، ما لم يتم تداركه بسرعة، وذلك يتم في رأينا بتعليق الإعلان الدستوري وتأجيل الاستفتاء على الدستور، والاتفاق على أن تقوم لجنة من القضاة والمحامين والخبراء بمراجعة مشروع الدستور وتعديله بالتشاور مع كافة القوى السياسية، ثم إعادته للرئيس للتصديق عليه وطرحه للاستفتاء على أساس التوافق.
بهذا فقط (أو بحل توافقي على نفس المنوال)، يمكن تجنب الكارثة، والله المستعان.

Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء