جنوب السودان: مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال 2-3 . عرض وتحليل: د. أحمد إبراهيم أبوشوك
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
16 June, 2011
16 June, 2011
جنوب السودان: مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال 2-3
تأليف: الدكتور محمود قلندر
عرض وتحليل: د. أحمد إبراهيم أبوشوك
الشمال والجنوب ومشاهد انهيار الثقة والاتصال
يعطى المحور الثاني قراءة تحليلية للفصل الثاني المعنون بـ "الشمال والجنوب: مشاهد انهيار الاتصال"، والفصل الثالث الموسوم بـ "وقائع الانهيار"، والفصل الرابع الذي أطلق عليه المؤلف: "عبود والجنوب: مشاهد تعميق الانهيار". والمحصلة الوسطى التي تجمع بين هذه الفصول الثلاثة هي عملية انهيار الثقة بين أبناء السودان الحر المستقل، وفشل النُخب السودانية الحاكمة في صيانة جسور الاتصال والتواصل بين الجنوب والشمال. ويمهد الدكتور قلندر لهذا المشهد الحزين بنظرة سريعة إلى نشأة الحركة الوطنية السودانية، التي يصفها بأنها حركة "نخبوية حضرية"، انحصر اهتمامها في قضايا النضال السياسي المرتبطة بدوائر الحكم البريطاني في الخرطوم، وإن اهتمامها بقضية الجنوب لم يأخذ وضعاً محورياً إلا في عقد الأربعينات، عندما سلم مؤتمر الخريجين العام مذكرته الشهيرة إلى السكرتير الإداري، وانتقد في بعض بنودها سياسة الحكومة الرامية إلى "تغريب الجنوب عن الشمال"، ثم نادى بضرورة إلغاء قانون المناطق المقفوله، ورفع القيود على حرية التجار والتنقل بين الشمال والجنوب، وإلغاء الإعانات الممنوحة للإرساليات، وتوحيد برامج التعليم بين شطري القطر. وأعقب هذا المشهد الإيجابي دعوة الحركة الوطنية إلى إلغاء المجلس الاستشاري لشمال، وإنشاء هيئة تشريعية للشماليين والجنوبيين معاً، ثم المشاركة في مؤتمر جوبا الذي انعقد في مايو 1947م، وتمخضت وقائعه في نبذ "فكرة الانفصال" والاعتراف "بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب". وقد حدثت هذه النقلة النوعية في الفكر الجنوبي في جو الوعود التي صاغها محمد صالح الشنقيطي، مدافعاً عن وجاهة وصل الجنوب بالشمال، ومذكَّراً "الجنوبين بمحاسن الانضمام إلى الشمال"، التي تتمثل في "المساواة في الأجور"، والحصول على "الوظائف الجديدة المتاحة للموظفين والإداريين"، وانهاء العداء الذي زرعته الإدارة البريطانية بين الشمال والجنوب. (قلندر: ص 112) فإن هذه الوعود البراقة، كما يرى المؤلف، كانت تمثل جزءاً من برامج الحملات الانتخابية للأحزاب الشمالية عشية الاستقلال، وجزءاً من الآمال المعقودة على أعمال لجنة السودنة، إلا أنها في حقيقتها كانت سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. وقد لخص الدكتور قلندر هذا الواقع المرير في عبارات البروفسور محمد عمر بشير، الذي أفصح عن ذلك بقوله: وعندما أعلنت لجنة السودنة قرارها في أكتوبر 1954، انقلبت شكوك أبناء الجنوب التي انطوت عليها الجوانح أكثر من خمسين عاماً إلى مشاعر معادية صريحة.(قلندر: ص 116) وقد عبر الجنوبيون عن فقدان ثقتهم في الشماليين، عندما عرضوا الفيدرالية كنموذج أمثل لحكم الجنوب، متذرعين بأنه سيكون ترياقاً مضاداً لتغول الشماليين في إدارة الجنوب. إلا أن هذا العرض قد رُفض من قبل حكومة الأزهري الأولى، التي كانت تعتبر الفدرالية دعوة مارقة تقود إلى "انشطار الوطن في ليلة ميلاده". ومن ثم فإن هذا الرفض الصريح قاد إلى انهيار آخر في قنوات الاتصال بين الشمال والجنوب، وتجلت معالم ذلك في استقالة الوزرين الجنوبيين الوحيدين في حكومة الازهري، وفي تحول الجنوبيين الناشطين إلى جماعة ضغط سياسي، أضحت تُعرف فيما بعد بالكتلة الجنوبية، التي كانت تسعى إلى تحقيق مطالب الجنوبيين المتمثلة في رفع أنصبتهم في الوظائف الإدارية، وطرح الفيدرالية كبديل أمثل لتنظيم علاقتهم السياسية مع الشمال. ونتيجة لرفض هذا المطلب المشروع من قبل الساسة الشماليين "تجسدت رغبة الجنوبيين في الابتعاد نفسياً عن السلطة التي تتأمر على الأهل والولد". (قلندر: ص 119)
فلا عجب أن هذه القطيعة النفسية قد قللت فرص الاتصال بين شطري القطر، وجعلت الظن السيئ والشك المميت في نوايا الشماليين يبثان سمومهما في أوساط الجنوبيين، الذين بدأوا ينظرون إلى رحيل القوات الاستعمارية بأنه يعني "وقوف الأعزل دون حام ولا نصير"، ويجسد بداية انفراد الشمال بالجنوب. ويصور لنا الدكتور قلندر في عدد من صفحات الفصل الثالث، كيف تحول هذا الشك والكراهية إلى مواجهة رافضة الإنصياع لإدارة الحكومة السودانية الإنتقالية، ثم كيف تبلور هذا الواقع في سلسلة من المؤامرات السياسية والصدام المسلح عيشة الاستقلال. فتخفيض العمالة في مشروع الزاندي بحجة سوء الأداء وقلة العطاء عارضته الجبهة المعادية للاستعمار في الشمال، تحسباً بأنه سيقلص دائرة نشاطها الماركسي في أوساط العاملين في جنوب السودان، وعارضه أيضاً بعض الساسة الجنوبيين وأهالي الزاندي، تعللاً بأنه سيؤدي إلى تكريس سلطة الشماليين العاملين في المشروع على حساب أهل الأرض في الجنوب. وأخيراً تحولت هذه المعارضة إلى مظاهرات عارمة في أنزارا راح ضحيتها نفر من أهل الجنوب. فلا جدال أن هذا الحادث كان يمثل شرارة الصدام المسلح الأولى، التي اشعل فتيلها الغُل السياسي، والثقة المفقودة بين أبناء السودان، الذين كانت تتوزع مشاعرهم بين الفرح بقدوم الاستقلال، والحزن لما يجري في الجنوب، وبين هذا وذاك نلحظ أن وسائل الاتصال الرسمي والشعبي كانت عاجزة عن توحيد هذه المشاعر المتناقضة.
ومع اقتراب يوم الجلاء (أي جلاء القوات الاستعمارية من السودان)، كما يرى المؤلف، "انطلقت عناصر الكتلة الجنوبية في مختلف مدن وقرى الجنوب تبشر بمبدأ الفدرالية، وتشرح لبسطاء المواطنين معناه، باعتباره السبيل الوحيد لمقاومة سيطرة الشمال المنتظرة بعد الاستقلال. وفي سبيل كسب التأييد للفدرالية، استعملت القوى السياسية الجنوبية كل أساليب الترويج الدعائي، فتمادت في دعايتها إلى حد تصوير الاستقلال وكأنه بداية احتلال جديد للجنوب من قبل الشمال". (قلندر: ص 126) ويعضد هذا التوجس وقائع الاجتماع الذي عقده السياسي المرموق بوث ديو في منـزله بتوريت مع نفر من الساسة والعسكر الجنوبيين، ويلخص الدكتور قلندر توقعات بوث ديو التي نقلها لأحد الضباط الذين حضروا الاجتماع في النقاط التالية:
1. "إن السياسيين الشماليين يضمرون للجنوب نوايا سيئة بعد أن يكتمل الاستقلال،
2. إن عدداً من الساسة الجنوبيين سيتقدمون بمطالب من أجل الاتحاد الفيدالي،
3. إنه في حالة عدم الاستجابة لمطلب الاتحاد الفدرالي سيسعون إلى الاستقالة من البرلمان ليحدثوا انهياراً يمكن أن يقود إلى عودة القوات البريطانية". (قلندر: ص 134-135)
وفي ظل هذه الظروف المشوبة بالتوجس والحذر رفضت حكومة الخرطوم مشروع الفيدرالية، وواصلت سيرها قُدماً تجاه التحضير ليوم الجلاء واستقلال السودان الموحد، ومن جملة التدابير التي اتخذتها في هذا الشأن: "إخطار سرية توريت الثانية بالانضمام إلى حامية الخرطوم" التي ستكون بمثابة رمز من رموز التوحد الوطني، وترحيل قوة من قوات الهجانة المقيمة الخرطوم إلى مدينة جوبا عاصمة المديرية الاستوائية. فلا غرو أن هذه التدابير قد فُسرت تفسيراً سالباً من قبل بعض الساسة والعسكر الجنوبيين الذين اعتبروها نقطة انطلاق لتمكين سيطرة الشمال على الجنوب. ويبين الدكتور قلندر كيف احكم هؤلاء الرافضون حلقات التآمر وإعداد المسرح النفسي في الجنوب، عندما وزعوا برقية "مزورة" باسم السيد إسماعيل الأزهري، وكانت هذه البرقية تٌقرأ كما يلي: "إلى رجال إدارتي في المديريات الجنوبية الثلاث. لقد وقعت الآن على وثيقة تقرير المصير. لا تستمعوا لشكاوى الجنوبيين الصبيانية. اضطهدوهم وضايقوهم وعاملوهم معاملة سيئة بناء على تعليماتي. وكل إداري يفشل في تنفيذ هذه سيكون عرضة للمحاكمة. وبعد مضي ثلاثة أشهر ستأتون وتجنون ثمار ما قمتم به من أعمال." (قلندر: ص 159)
وفي اليوم الموعود لترحيل سرية توريت الثانية إلى الخرطوم (18/8/1955م) انفجر بركان الدم في توريت، وقَتل أفراد السرية الثانية قادتهم العسكريين الشماليين، واتسعت تدريجياً دائرة القتل والتنكيل لتشمل معظم المواطنين الشماليين العُزَّل في مدينة توريت، وتكرر هذا المشهد في جوبا، وكبيوتا، وياي، ويامبيو، ومريدي، وبعض المدن الأُخرى بدرجات مختلفة. وحقاً فقد أفلح المؤلف في تصوير هذا المشهد التراجيدي تصويراً دقيقاً من خلال المعلومات التي حصل عليها من التقرير الذي أعدته لجان التحقيق بشأن وقائع التمرد وتداعياته. ويصف اللواء قلندر في حُرقة هذا الواقع المأساوي بقوله: "وكانت مثل هذه التصرفات الناضحة حقداً وغلاً، هي الدليل الأقوى على أن الذي جرى لم يكن من إفراز الممارسة السياسية الآنية، بل هو ناتج تراكمات تجاوزت بحجمها السنوات، لتضرب بجذورها العميقة في الزمان وتتشكل من وقائع التاريخ الغابر، فتم توارثها لتنبت في وجدان كل جيل، حيث بقيت ساكنة كامنة في الأعماق، تغذيها التصرفات الحمقاء والأقوال". (قلندر: ص 175)
وتحت ضغط الرأي العام الشمالي والوسطاء وحكومة الخرطوم استسلم معظم المتمردون، وحوكم نفر منهم محاكمات تراوحت بين الإعدام والسجن، وبانتهاء هذه المحاكمات، حسب رأي قلندر، "أسُدِل ستارٌ ثقيلٌ على الأحداث الماسأوية التي ظللت الوطن، منذ ذلك التاريخ، بظلام كثيف، وكبَّلت قدراته وأقعدته عن بلوغ الغايات والأهداف المرجوة". (قلندر: ص215) ومن ثم فقد كانت محاكمات توريت تمثل خطوة تسكينية تجاة إعادة الثقة المحفوفة بالتوجس والكراهية، واستئناف بث شبكة الاتصال الاجتماعي ذات القاعدة الهشة بين أبناء الشمال والجنوب.
أما الفصل الرابع فيتحدث عن واقع الحال العسكري والسياسي بعد أحداث توريت، ويعطى صورة حية لمشاهد تعميق الانيهار وفقدان الثقة بين الشمال والجنوب في عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، التي لجأت للقهر والعنف باعتبارهما أنجع وسيلتين لإعادة هيبة الدولة وفرض السكون والطمأنينة في ربوع الجنوب، المتوجس في كافة تصرفات الشماليين، الصالح منها والطالح. فالحضور العسكري الشمالي الكثيف في الجنوب، كما يرى المؤلف، قد بدل "مشاعر الطمأنينة بالخوف والقلق والتزعزع النفسي"، وتعقدت الأمور عندما قامت حكومة عبود بالغاء عطلة الأحد، وجعلت الجمعة عطلة رسمية في كل أنحاء الجنوب، وقلصت النشاط التبشيري المسيحي، ووسعت دائرة العمل الإسلامي الدعوي. فالمؤلف مـُحقٌ عندما انتقد هذه الاجراءات الإدارية، ووصفها بعدم التوفيق، لأنها أعطت الهيئات التبشرية المختلفة في الجنوب أسباباً قوية لمواجهة الحكومة ومعارضة إجراءاتها الاحترازية، كما أنها منحت السياسيين الجنوبيين الفرصة المناسبة لدفع حركة المعارضة في اتجاه الدعوة إلى تحقيق استقلال سياسي للجنوب في علاقته مع الشمال. ونتيجة لتعنت حكومة الخرطوم غير المدركة لعواقب مثل هذه الاجراءات، نشطت حركة المعارضة الجنوبية في الداخل والخارج، ووجدت أيضاً تأييداً أقليمياً وعالمياً، ثم أخيراً نظمت نفسها في كينونات سياسية مثل "اتحاد السودان المسيحي"، والاتحاد الوطني الإفريقي للمناطق المقفولة"، و"حركة تحرير جنوب السودان"، وكوَّنت لنفسها جناحاً عسكرياً يُعرف بـ "الأنيانيا". وفي ضوء هذه التطورات الدرامية كثرت أحداث العنف والعنف المضاد في جنوب السودان، وظهر نوع من التململ في الشمال على المستويين الرسمي والشعبي ضد سياسة الحكومة غير الموفقة في الجنوب. ويستشهد الدكتور قلندر في هذا المضمار بالمذكرة التي رفعها وزير الداخلية آنذاك، محمد أحمد عروة، والتي تقرأ بعض فقراتها على النحو التالي: "إن سيطرة الحكومة على الموقف (في الجنوب) لا يعني إطلاقاً الحل النهائي للمشكلة، إن الحل الصحيح هو إيجاد حل فعلي ودائم للجانب السياسي للمشكلة. ولذا يجب علينا قبل أن نمضي في تحمل أعباء الصرف والتنمية والإدارة في الجنوب، أن نتبين منذ الآن وقبل فوات الأوان مستقبل وحدة البلاد وما الاحتمالات أو الأهداف التي ستصل بنا إليها هذه الأوضاع بعد فترة من الوقت. إننا طبعاً لا نقر الانفصال بأي حال من الأحوال، ولكن فرض الوحدة بالإكراه لن يحل المشكلة، وربما كان من المستطاع أن نصل إلى حل يرضاه ويؤمن به المواطنون في الجنوب والشمال. ومتى وماتوصلنا لمثل هذا الحل أمكن لنا أن نعمل جميعاً من أجله." (قلندر: ص 240-241) فلاشك أننا نتفق مع اللواء قلندر أن مذكرة عروة كانت مذكرة صائبة وذات رؤية مستقبلية فاحصة، لكنها لم تُدرك بمُنْعَرج اللَّوى، بيد أنها كانت واحدة من الأسباب الرئيسة التي ألَّبت الرأي العام في الشمال ضد حكومة عبود، وقادت إلى ما يٌعرف في تاريخ السودان الحديث بـ"ثورة 21 أكتوبر 1964م"، التي دقت اسفيناً في نعش النظام العسكري ومهدت الطريق إلى ديمقراطية ثانية (1964-1969م).
نقلاً عن صحيفة الأحداث
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]