جنوب السودان: مناطق مقفولة تحت الانتداب
كفى بك داءً
انشغل الإعلام الأميركي بالحرب الدائرة في جنوب السودان أيما انشغال، أفردت مجلات الرأي الصفحات للخبراء من كل طيف لتفسير الأحداث في البلد الأحدث في العالم واقتراح الحلول. في كل ذلك، ردد جماعة القول أن جنوب السودان وُلد على يد الولايات المتحدة وصرفت فيه دم قلبها، فلا يجوز أن تتركه هكذا لنخبة سياسية "غير ناضجة"، بل "طائشة" لا تعرف قيمة ما تيسر لها بالهول الأميركي!
كتب محرر النيويورك تايمز مارك لاندر في تقرير منشور السبت أن الرئيس أوباما يتلقى يوميا تقريرا شافيا عن الأحوال في جنوب السودان منذ اندلاع النزاع منتصف ديسمبر الماضي، ما يعد مستوى من الاهتمام لا تحظى به أي أزمة في افريقيا جنوب الصحراء. تصديق ذلك أن التايمز نشرت تقرير لاندر تحت باب السياسة الداخلية الأميركية وليس افريقيا كما هو معتاد.
أحسن من عبر عن الأبوية الأميركية هذه كاتب مجلة الأتلانتك ج. باسكال زاكاري الذي اقترح في مقال طويل وضع جنوب السودان تحت انتداب الأمم المتحدة حتى تنشأ فيه مؤسسات دولة مستقرة وقيادة سياسية "ناضجة". اعتمد زاكاري في تزكية اقتراحه على فكرة صرح بها نازح جنوب سوداني لجريدة التايمز. قال قاديت كوانق دينق للتايمز أن حبذا لو أشرفت الأمم المتحدة على جنوب السودان لعشر سنوات على الأقل حتى يتعلم البوليس كبح الجماح والجيش حسن التصرف. هنا انتهى حديث دينق.
من ناحيته، جعل زاكاري لفكرة دينق وليدة اللحظة حواشي من الكتاب الاستعماري، عمادها عقيدة توارت خلف "مسؤولية الحماية" في عجز الافريقي عن القيام بشأن نفسه، حجته في حالة جنوب السودان أن الولايات المتحدة لم تتصور قط فداحة الفساد الذي وقع فيه حكام جنوب السودان المستقل. تهور زاكاري أكثر من ذلك وزكى الانتداب كخطة دولية كلما اتجهت قومية مضطهدة للاستقلال عن الدولة الأم وفازت به، فسمى دارفور كمثال وارد في المستقبل وافريقيا الوسطى. في كل، قال زاكاري، حبست الحدود الاستعمارية أقوام في أوطان لا يرضونها ولا ترضى بهم، والحل متى استقلوا بشأنهم أن تسعى إليهم الأمم المتحدة بالانتداب.
علقت شابة من جنوب السودان على مقال زاكاري قائلة "مجنون..والله مجنون"، لكن جنونه عند غيرها عقل، حيث دافع دبلوماسي أميركي مخضرم عن الفكرة بالقول أن البوسنة والهرسك في التاريخ المعاصر جرى عليها الانتداب حتى استعدلت وكذلك كوسوفو وتيمور الشرقية التي استقلت عن اندونيسيا عام 1999 فلما لا جنوب السودان؟ لم يذكر سعادته بطبيعة الحال أفغانستان والعراق حيث أصفى صور الحرفة الأميركية في "بناء الدولة".
m.elgizouli@gmail.com