جنوب كردفان: مشروع الفرصة الأخيرة قبل اندلاع الحرب الاهلية … بقلم: د. حامد البشير ابراهيم
24 February, 2009
hamedelbashir@yahoo.com
عقب التداعيات الأمنية الأخيرة والمتواترة بين النوبة والعرب وبين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني فى جنوب كردفان لقد بات من المؤكد ان الولاية قد وضعت رجلها اليمني على عتبة الحرب الاهلية الشاملة وتبعا لقراءة الكثيرين ونبوءاتهم فان جنوب كردفان هى دارفور الجديدة التى انتقلت شرقا نحو فيافي ووديان ومرتفعات كردفان. وبين مناداة العقلاء بضرورة التدخل العاجل لاحتواء المأزق ونكران المتنفذين فى السلطة و"بأن كل شئ على ما يرام" فاننا نضرب صافرة الانذار مرة اخرى حيث امامنا –ربما- الفرصة الأخيرة لنزع فتيل الازمة ولتجنيب كردفان الجنوبية حربا طاحنة تقضى على الانسان والحيوان والزرع، وفوق ذلك ستقضي على ثقافة المساكنة والتعايش التى تفرد بها هذا الاقليم دون غيره من مناطق التواصل الحضاري فى السافنا السودانية الواقعة فى وسط السودان الكبير.
وبتلك المعاني فستكون مردودات الحرب الاهلية هى بداية النهاية لتماسك السودان الوسيط بعد ان انهارت عرى المجتمع فى غربه فى دارفور واصابها الوهن فى شرقه وشماله ويتم الاعداد لطلاق بائن فى جنوبه.
فى رأينا وبناءً على فهم طبيعة النزاع فى جنوب كردفان وطبيعة التركيبة الاثنية وتركيبة الادارة الاهلية والحكم المحلي والتاريخ نقترح المشروع الاسعافي التالي وهو –فيما نظن- كفيل بنزع فتيل الازمة وتحقيق قدر كبير من الوئام الاجتماعي فى الاقليم ريثما تتم معالجات المدى المتوسط والبعيد والتى تشمل التنمية المتكاملة والاقتسام العادل للسلطة والثروة ومعالجة افرازات الحرب فى اطار نظام ديمقراطي مستدام وفيدرالي عادل.
المشروع المقترح يتكون من ستة مكونات واجراءات اساسية نجملها فى الآتي:
المصالحات بين البؤر الاثنية الملتهبة
احياء وتنشيط الاعراف القبلية القديمة بين القبائل
(لقاء التنظيمات السياسية من اجل السلام
لقاء منظمات المجتمع المدني من اجل السلام
لقاء رجالات الادارة الاهلية لدعم السلام
اللقاء الجامع بين النوبة والعرب للحقيقة والمصالحة
اولا: المصالحات القبلية بين البؤر الاثنية الملتهبة
من خلال فهم الواقع الاجتماعي والعلاقات الاثنية فى جنوب كردفان وكنتاج لافرازات الحرب الاهلية خلال العقدين الماضيين فى المنطقة فان هنالك عدة بؤر اثنية ملتهبة فى الولاية خاصة بين القبائل المتجاورة من النوبة والعرب وربما داخل المجموعات العربية او النوبية ايضا فعلى سبيل المثال هنالك بؤرة ملتهبة بين النوبة الدلنج ودار بخوتة وبين دار بخوتة وبرقد (وهما من المجموعة العربية). وايضا بؤرة ملتهبة بين مجموعة دار نعيلة (عرب) والغلفان (نوبة) وغيرها الكثير من الثنائيات المتضادة فى المنطقة وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
وبذات القدر يمكن تحديد وترسيم حدود هذه الثنائيات المتضادة فى جنوب الولاية وغربها وشرقها ومعالجتها كحالات وكأجزاء قبل ان تؤثر سلبا على بنية البناء الاجتماعي فى كلياته. ومثال آخر لصراع البؤر الاثنية الملتهبة فى غرب الولاية يكون الصراع بين المسيرية الزرق (عرب) وبين ابي جنوك (نوبة) او بين المسيرية الحمر (عرب) والدينكا نوك فى منطقة ابيي، وغيرها الكثير حتى يظن البعض ان بؤر الصراع والتوتر اضحت اكثر انتشارا من مناطق الاستقرار والوئام وعمرى فان تلك هى اقوى مؤشرات بداية الحرب الاهلية الشاملة التى تتسرب الى واقعنا بسلاسة ومكر حتى يصعب معها الفهم والاحتراز.
ثانيا: احياء وتنشيط الاعراف القبلية بين القبائل
العلاقات بين القبائل كانت تحكمها الى وقت قريب اعراف وتقاليد وقوانين قبلية صارمة وراسخة فى العقل الجمعي وفى الثقافة المحلية وهى قديمة ايضا قدم هذه القبائل (حوالى اكثر من خمسمائة عام). وكإجراء احترازي لتجنب الحرب وتحقيق السلام لابد من تنشيط هذه القيم والاعراف عن طريق المؤتمرات بين الجماعات الإثنية التى تربط بينها اواصر تاريخية على شاكلة: حلف الكتاب او (الخوة)- التآخي- او التحالف او غيرها من انواع العلاقات القبلية التى تكون بين مختلف القبائل وغالبا ما تمليها عوامل مثل القرب الجغرافي او تقاسم المرعى او تداخل الرعى والزراعة كمصالح حيوية للقبائل فى هذا الاقليم.
واقترح فى هذا الاطار ان يتم تعيين سفراء للنوايا الحسنة من القبائل: اثنين من النوبة، اثنين من العرب وواحد من الفلاتة وواحد من الدينكا وتكون مهمتهم ان يجوبوا المنطقة ويلتقوا بالقبائل والادارات الاهلية يشرحون ويعقدون اللقاءات والتصالحات واحياء الاعراف فى مجال العلاقات القبلية حاثين الناس على التعايش الاثني المتسالم منعا للحرب ودفعا للنهضة المحلية.
شريطة ان لايكون هؤلاء السفراء القبليون موظفين عند الدولة بل يظلوا شخصيات مستقلة ذات وزن وقبول اجتماعي وشعبي، وهم يتحركون فى اطار منظومة المجتمع المدني حتى تضمن لهم هذه الوضعية الاستقلالية الضرورية للتفويض وللقبول وفى ذات الوقت هم يعملون بالتعاون التام مع اجهزة الدولة فى اطار برنامج واهداف محددة ولفترة محدودة تنتهي بانتهاء المهام المرجوة منهم. انهم ليسوا جسما يضاف الى بناء الادارة الاهلية لكنه يتعاون معها ومع الاجهزة الرسمية والشعبية باستقلال وحياد.
ثالثا: لقاء التنظيمات السياسية من اجل السلام
لابد من قيام مؤتمر عام لكل القوى والكيانات السياسية فى جنوب كردفان يكون هدفه تحقيق السلام كواقع معاش فى حياة الناس وكذلك من اجل نزع فتيل الحرب التى اوشكت على الانفجار. ويشمل هذا المؤتمر السياسي الولائي:
حزب المؤتمر الوطني
الحركة الشعبية
حزب الامة القومي
المؤتمر الشعبي
الحزب القومي السوداني
الحزب الشيوعي السوداني
الحزب الاتحادي الديمقراطي
اتحاد عام جبال النوبة
حزب الامة الاصلاح والتجديد
حزب البعث العربي الاشتراكي
وغيرها من الكيانات السياسية الفاعلة وذات الوجود فى المنطقة.
وهذا المؤتمر السياسي للقوى السياسية يرجى منه الخروج بخارطة طريق واضحة للخروج من الازمة الامنية فى الولاية. كما وعلى هذا الاجتماع ضرورة الخروج بميثاق شرف تمهره كل القوى السياسية وتلتزم به ويكون هدفه الاساسي الحفاظ على الوحدة فى الاقليم وتجنيبه المزيد من الانفلات الامني المفضى للفوضى الشاملة وللحرب الاهلية المدمرة والتى قد عاشها الاقليم خلال العقدين الاخيرين ومازال يعاني من آثارها.
رابعا: لقاء المجتمع المدني من اجل السلام
هناك مجتمع مدني متنامي تدريجيا فى جنوب كردفان يشمل الروابط والجمعيات والمنظمات الطوعية المحلية والدولية وكذلك الكيانات الثقافية فى خضم التداعيات المتلاحقة فى جنوب كردفان والتى تنذر جميعها بتدهور الاوضاع وبالانفلات الوشيك. لابد من ان يسمع النساء والرجال المخلصون فى منظمات المجتمع المدني اصواتهم حول امر ليس فقط ضروريا بل اضحي حيويا فى حياة الناس وفى حياة الوطن الصغير (جنوب كردفان). لابد لمنظمات المجتمع المدني ان تدلوا بدلوها فى امر اصبح شأن حياة او موت لاهل الاقليم المضطرب وان تسمع صوتها للمؤسسة السياسية والعسكرية والتشريعية فى البلاد. ولابد ان تخرج مجموعة المجتمع المدني بتوصيات وبخطوات عملية من شأنها ان تضيع الفرصة امام صقور الحرب وان تسمع صوت العقل لكل افراد المجتمع من خلال التعاون الوثيق مع الاعلام المقروء والمشاهد والمسموع وكذلك عبر وسائل الاعلام الشعبي المحلي على ان تشكل جماعات المجتمع المدني وعلى رأسها قطاعات الشباب والمرأة مجموعات ضغط ولوبي للسلام يضغط على المؤسسة السياسية للكف عن اللعب بمصائر الاقليم واهله من خلال لعبة القط والفأر (فى الاقليم) التى تمارسها حكومة الوحدة الوطنية مستغلة فى ذلك الجماهير المغلوبة على امرها كمخالب قط لحسم نزاعاتها السياسية لا من اجل مصلحة المواطن بل من اجل مصالحها الحزبية الخاصة.
خامسا: لقاء رجالات الادارة الاهلية لدعم السلام
تركيبة الادارة الاهلية فى جنوب كردفان ترجع الى العشرينيات من القرن الماضي عند بدء التأسيس لنظام الادارة الاهلية غير المباشرة بالاقليم وبكل السودان.
وتبعا لذلك لقد وضعت شخصيات ذات قدرات قيادية جيدة على رؤوس القبائل وافرعها المختلفة وسط النوبة والعرب والفلاتة وغيرهم من الكيانات القبلية فى جنوب كردفان. صحيح ان تدخلات الدولة خاصة فى ظل الانظمة الشمولية قد احدثت كثيرا من الارتباك والحقت الضرر احيانا بكفاءة هذا الجهاز الاداري المحلي ولكن رغم ذلك فان للادارة الاهلية بعض الملامح الايجابية مثل التقدير من افراد القبيلة وتمثيل القيادة القبلية والتحدث باسم القبيلة والالمام بالعرف وتاريخ العلاقات القبلية البينية. هذه الميزات وغيرها من الحيثيات المحلية تؤهل رجالات الادارة الاهلية فى جنوب كردفان لان يعقدوا مؤتمرا عاما يتداولون فيه قضايا السلام الاجتماعي والتعايش وفض النزاعات ونزع فتيل الحرب التى توشك ان تنزلق فى اتونها المكونات البشرية فى الولاية.
هذا المؤتمر وجميع المؤتمرات الاخرى يجب ان تتم تحت اشراف لجنة قومية محايدة لكن بتمويل من الدولة طالما انه جهد يصب فى السلام المنشود للاقليم وللوطن بأكمله. وان توصيات هذا اللقاء الجامع يستهدى بها السياسيون وراسمو السياسات والاداريون فى التأسيس للسلام الاجتماعي المستدام والذى بدونه لاتتم النهضة المنشودة.
سادسا: اللقاء الجامع بين النوبة والعرب
فى المشروع المقترح لنزع فتيل الحرب فى جنوب كردفان يكون اللقاء الجامع بين النوبة والعرب هو ذروة سنام الجهد المفضى الى تحقيق السلام الاجتماعي المستدام فى الولاية وهذا اللقاء يكون جامعا لكل كيانات النوبة والعرب الاثنية والعشائرية والثقافية تحت مظلة مستقلة وبعيدا عن المؤثرات بحيث يكون جهدا شعبيا خالصا تنظمه منظمات المجتمع باهداف واضحة وتحت رعاية تامة من لجنة قومية ذات حيدة ودراية واعتبار تشتمل –على سبيل المثال- على الشخصيات التالية:
البروفيسور يوسف فضل حسن
السفير بشير البكرى
البروفيسور الطيب زين العابدين
البروفيسور عبدالغفار محمد احمد
البروفيسور بلقيس يوسف بدري
البروفيسور ادريس سالم الحسن
الدكتور كبشور كوكو قمبيل
البروفيسور الامين حمودة
البروفيسور حماد عمر بقادي
الفريق شرطة العادل عاجب يعقوب
المهندس النو على جبريل
الاستاذ عبدالله التوم الامام
الدكتور سليمان الدبيلو
الدكتور القوني عبدالرحيم راضي
الدكتورة الرضية آدم
اللواء (م) ابراهيم احمد حسين
اللواء(م) احمد عثمان ابو كلام
السيد عبدالجليل الباشا محمد احمد
الدكتور حسن محمد ماشا
السيد ابو القاسم عامر ابوديك
البروفيسور آدم الزين محمد
وبالتشاور مع السلطات المحلية ومع الكيانات السياسية ومنظمات المجتمع المدني تكون اللجنة القومية لجنة ولائية لهذا المؤتمر الجامع وكذلك يتم تكوين سكرتارية تتولي المسائل الاجرائية واللوجستية والفنية الخاصة باعداد الاوراق والمجالات البحثية والتوقيت والمشاركين وغيرها من التفاصيل العملية وتكون اهم مخرجات هذا المؤتمر الجامع برنامجاً متفقاً عليه لتحقيق السلام المجتمعي الشامل فى جنوب كردفان بين النوبة والعرب ومختلف الكيانات الاثنية الاخرى. ويكون هذا البرنامج نابعا من الناس واليهم وبعيدا عن الاجندات السياسية او الحزبية الضيقة وتدعمه آلية شعبية للحقيقة والمصالحة وان تكون لجنة متابعة لتنفيذه على ان يعقد مؤتمر للمتابعة بعد كل عامين حتى يصبح السلام حقيقة اجتماعية وثقافية معاشة بين الناس فى حيواتهم اليومية فى الولاية.
خاتمة
لا يمكن ان يكون الحظ فى صالحنا فى كل المرات ونحن ندمن ارتكاب الاخطاء الكبيرة فى حق مجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة وفى حق المواطن ويبدو اننا قد استنفدنا كل فرص الاخطاء التى لاتفضى الى الهلاك وبقيت امامنا فقط المهلكة والمدمرة. لقد اصبحنا تماما فى مواجهة المصير- مصيرنا ومصير اجيالنا من بعدنا- والذى سنقرره خلال ساعات قلائل من التفكر العاقل او من عدمه.
وفى الحالتين فالخيار خيارنا وليس مفروضا علينا ولكن يجب ان نضع نصب اعيننا المأساة الانسانية الاكبر (فى العالم) فى دارفور وما ترتب عليها وما سيترتب عليها فى الايام القادمات. اذن علينا ان نمعن التفكر والتبصر حتى لانعيد انتاج الفشل القومي مرة اخرى فى كردفان.
إن المسئولية تقع على عاتقنا جميعا لكن المسؤولية الاكبر تقع على عاتق الاخوة الذين يديرون شؤون السودان وشؤون الولاية من الوالي وطاقمه التنفيذي وكذلك قيادات المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. وكذلك تقع المسئولية على نخب الولاية من الفعاليات الحديثة والشعبية التقليدية ومن البرلمانيين وشاغلى المناصب الدستورية وقيادات الخدمة المدنية والاجهزة الامنية. ان فرطنا ووقعت الحرب هذه المرة ستكون اكبر بكثير من سابقتها.. وان الغد سوف لن يكون مثل الأمس ولا مثل سابقه. انها حتما ستكون النهاية.
ارجو من جميع الفاعلين فى شأن جنوب كردفان وفى هذه اللحظات المفصلية ان يحتكموا لعقولهم وضمائرهم قبل ان يحتكموا الى اجنداتهم الحزبية الضيقة والى مصالح ذواتهم الفانية والا قريبا سيأتي اليوم الذى يحاكمهم فيه التاريخ وحينها سيكونون مادة دراسية فى كتب المطالعة يتدارسها اطفال ما تبقى من السودان وهم يشيرون اليهم: هؤلاء هم الرجال الذين احرقوا جنوب كردفان واحرقوا السودان.
مع مودتي