جهة خيرية !! … بقلم: عبد الله الشقليني

 


 

 




(1)    
يوم فاتر من أيام التسعينات  الأولى من القرن المنصرِم  . حرٌّ جاف.. ، صيفاً وخريفاً وربيعاً وفي كل المواسم. دولة انتبذت مكاناً قصياً ، مُدججة بالكراهية ، تبتني جيش العُسرة مرة أخرى ووضعت نصب أعينها الموت هدفاً لا الحياة .عُسرة صنعتها " الجماعة " غطاء لمآرب أخرى . إرهاق مُضنٍ في أعمال  الهدم المؤسسي الذي بدأ منذ اللحظة الأولى للانقلاب . تخيرت " الجماعة " للوظائف القيادية الأولى أهل التنظيم بالتعيين للتمكين. وبقينا نحن  ننتظر دورنا في الإحلال في أية لحظة وبدون سابق إنذار .
مدير الإدارة الهندسية الأصل لا ينتمي للجماعة ، وهو في "نزهة قصيرة " كما يقول المًصطلَح ، مع اثنين من رجال الأمن . نقلوه بسيارة مكشوفة " دبل كبين" من مكتبه إلى بيته الجامعي بحي المطار . قلبوا  منزله رأساً على عقب ، وفتشوا كل الأوراق والخزانات والكتب والحقائب علّهم يحصلون على شيء . وفي خاتمة المطاف ذهبوا به إلى مكانٍ مجهول . أربعة أشهر أمضاها في معتقل ناءٍ في كسلا كي لا يزوره أحد! . وعرفنا فيما بعد أنهم قد سألوه سؤالاً واحداً مُكرراً :
( عندما دعوناك للمؤتمرات يا دكتور ، لِمَ لم تَحضُر ؟ )

(2)

قمتُ بمهام مدير الإدارة الهندسية بالإنابة في غيبته الطويلة  . وكان المهندس  "صلاح "خير ساعد لي في زمان صعب ، يحيط بكَ الماكرون . الثعالب يرتدون لباس التُقاة . تواجهك ابتسامتهم الصفراء فلا تعرف أنت كيف تتصرف !. المهندس " صلاح " وقد أكسبه العمل النقابي السابق  دربة على التنظيم والعمل المضني ، لا يكلّ من كثرة الأعباء ولا يملّ العمل العام . يقوم بمهام الرجل الإداري الثاني على أكمل وجه . وجدتُ في شخصه  نصيراً لم أعهده مدة طويلة في الزمان . كأننا التقينا في طفولتنا الباكرة وخططنا لتاريخنا اللاحِق أن نلتق في حياة أخرى هي الماثلة أمامنا . أكْبُره بسبع سنوات ، ونشترك ذات المهنة التي أورثتنا النقاء الشقي وطيبة أهلنا التي أورثتنا المهالِك .

(3)

قَدِم أستاذ من كلية الطب جامعة الخرطوم  ذات يوم ، يعمل هو في قسم الكيمياء الحيوية ، ومعه رفيقه الأستاذ المساعد  . هادئ  الطبع قليل الحديث ، خافت الصوت. مستطيل الوجه أسمر اللون .لحيتُه تُحاول الإستدارة فلم تستطع  . ملامح عاديّة لا شيء يميّزه.كل القرائن تدلّ أنه صاحب سلطة ، فعينيه أصدقُ تعبيراً من طيبة مسلكه. رَغِبا الاثنان الاجتماع بنا على انفراد . وكان موضوع الاجتماع أن "جهة خيرية" تبرعت  لتأهيل معمل الكيمياء الحيوية بكلية الطب ، وأن المبلغ قد تمّ تسليمه للسيد وكيل جامعة الخرطوم، وكان هو حينها  يقضي عطلة عمل بالولايات المتحدة الأمريكية . وأنهما يعرضا الأمر للإدارة الهندسية المعنية بكتابهما المرفق لتقوم بالتجهيزات الهندسية والمستندات ذات الصلة ومن ثمّ  تنفيذ التأهيل .
حددنا معاً موعداً لنلتقي في موقع  معمل الكيمياء الحيوية وعمل المسح اللازم من قياسات وحصر للمعدات و للطاولات والمقاعد وصنابير المياه وأحواض الغسيل وأنابيب غاز الإشعال والأرفف وتوصيلات الكهرباء والمياه  والأرضيات والحوائط  وخزائن المواد ..الخ .

(4)

جئنا في الميعاد المضروب ، والتقينا بأستاذَي كلية الطب في المعمل المذكور  ، وأنجزنا المطلوب بعد حوار طويل  معهما حول تصورهما للتأهيل ، وقدم لنا المساعدة الفنية كبير فنيي المعمل  . كان المعمل بحق في حاجة للتأهيل. بعد الإنتهاء من المسح ، التقينا مجدداً  وتفاكرنا . وقلنا بأننا لا نعلم بشأن الاثنين وأربعين مليوناً من الجنيهات التي يتحدثان عنها ، فأكدا لنا أن المال محفوظ لدى وكيل الجامعة وفي عهدته .وقلنا إذن  هذا أمر من السهولة بمكان ، لأن النُظم قادرة على تسيير العمل الإداري بالجامعة ونعرف مراجع الثبت الدقيق لأموال الجامعة من حساباتها المعروفة . فعقّب أحدهما بتعبيرٍ جاد :
" أنا أفضّل انتظار حضور السيد وكيل الجامعة بشخصه " .
قلت إن التأكُد من المبلغ المرصود هو الذي سيقرر حجم التأهيل المطلوب . وسوف نبدأ بتجهيز المخططات والمستندات الخاصة بالمناقصة بعد أن نتأكد من حجم المبلغ من إدارة الجامعة . وتوادعنا ، وقبض المهندس "صلاح "على يد أحدهم طويلاً لأتذكره ، وفي الطريق قال لي :
" إنه الذي استخرج شهادة وفاة الدكتور علي فضل من السلاح الطبي !"

(5)

حضرنا لمكاتب الإدارة عند الواحدة من بعد الظهر . وقمنا بصياغة كتاب للسيد وكيل الجامعة لعناية السيد نائب الوكيل ، وصورة للمراقب المالي بالقصة وتفاصيلها ، ومعها أسماء وكتاب  أساتذة كلية الطب ذوي الصلة بالموضوع ، وطلبنا التأكيد على وجود المبلغ الذي تقدمت به "الجهة الخيرية "، وطلب التفضل بأمر التكليف  كي نقوم بتجهيز المستندات بناء عليه .وقّعت الكتاب بعد التدقيق، ورأى المهندس" صلاح" أن نذهب  بالكتاب مباشرة للسيد نائب الوكيل  لتقصير الظل الإداري .

(6)

التقينا نائب الوكيل  في مكتبه ، وهو ليس من " الجماعة " ، بل من الرعيل الإداري الذي ورث ضبط الخدمة المدنية بأصولها المعروفة . شربنا في ضيافته " الشاي الأحمر" . وقدمنا له الكتاب الأصل مباشرة والكتاب المرفق . قرأه ، وأمّن على محتوى كتابنا ، واستدعى المراسلة ليخطر المراقب المالي بطلب حضوره الفوري، وهو أيضاً ليس من " الجماعة " ، فماكينة التمكين لم تكتمل دورتها  بعد .
بعد حضور المراقب المالي والتداول بشأن الأمر ، استأذن المسئول المالي ليُدقق على حسابات الجامعة . وحضر بعد ثلث الساعة ومعه البيانات المحاسبية ، وتبين أنه لا وجود للمبلغ ولا وجود لأي "جهة خيرية "تبرعت للموضوع قيد النظر أو لغيره . وقرر نائب الوكيل الانتظار إلى حضور السيد الوكيل من الولايات المتحدة ، للبت في أمر الميزانية الخاصة بالمشروع ، على أن تقوم الإدارة الهندسية بما يتوجب من تجهيزات فنية ومستندات توطئة للعمل  ، وأوحى لنا بأنه ربما " لديهم  حسابات أخرى "- يقصد الجماعة !.
تأكدنا من تسجيل الكتاب في البريد الرسمي ورجعنا لمكاتب الإدارة .

(7)

استمر العمل أكثر من أسبوع ، وتم تجهيز مخططات المسح الميداني للعمل والمعدات الثابتة والمتحركة ، وتم إعداد مستندات المناقصة وجداول الكميات . والمواصفات العامة والخاصة .ورأينا أن نسترشد بأسعار المقاولين الذين نفذوا أعمالاً للجامعة  أو لديهم أعمال قيد التنفيذ ، وقدمنا نسخاً من جداول الكميات لعدد ثلاثة من المقاولين لملء أسعارها استرشاداً ، وطلبنا تسليمها في مغلف باسم السيد مدير الإدارة الهندسية ، لنقوم لاحقاً بعرضها على السيد الوكيل عند حضوره من السفر ،و بعد أن نستوثق من توفر المبلغ المظنون صحته، عندها نقوم بالإجراءات حسب الأصول .

(8)

حضر السيد الوكيل من زيارته للولايات المتحدة التي امتدت شهرين  ، ولم  نلتق به إلا بعد يومين  . حضر هو لزيارتنا ، فنحن الذراع التنفيذي للمشروعات الجامعية الكُبرى ونقود التنمية والتطور الإنشائي والعمراني  ونتبع له مباشرة . قدّمنا اعتذاراً مُبطناً عن عدم زيارته  في مكتبه " حمداً لله على سلامة العودة " لانشغالنا بالأعمال التي يعلمها هو. كانت الساعة قد قاربت العاشرة صباحاً حين زارنا بمكاتبنا ، واستقبلناه في قاعة تضم مجموعة من الفنيين ،وفسحة لجلوس الأضياف . وكانت الضيافة المُعتادة تلك الأيام  " الشاي الأحمر".
وتساءل السيد الوكيل متبسماً  : أليس من ضيافةٍ أفضل ؟
فرد المهندس" صلاح " ضاحكاً :
" والله يا سيادة الوكيل لو ما شربت الشاي، في ناس كُتار راجينو "
وضحكنا وتسامرنا قليلاً قبل فتح الموضوع . وأخطرنا السيد الوكيل  بأنه قد أحضر عدد خمسين من أجهزة الكبيوتر من الولايات المتحدة  لتحديث العمل الإداري بالجامعة ، وربما يُخصص جهازاً للإدارة الهندسية .

(9)

بدأنا نقصّ عليه قصة أستاذَي قسم الكيمياء الحيوية بكلية الطب ، وأموال "الجهة الخيرية " وما خلصنا إليه من قيامنا بما يجب حسب توجيه السيد نائب الوكيل  ، وما تبقى إلا  موضوع الميزانية . وأكدنا أن المعمل بحق في حاجة لإعادة التأهيل وأن كلية الطب تُكافح من أجل إبقاء الإعتراف بها ، وهذا التأهيل يصب في تقييم الكلية بما يواكب تاريخها وسمعتها الأكاديمية.
تبسم السيد الوكيل ، وقال :
"خيراً فعلتم ،... جزاكم الله خير "  
عرضنا عليه أسعار السوق  التي استدرجناها من ثلاثة من المقاولين الذين تعاملت معهم الجامعة من قبل ، لنتعرف على الأسعار السائدة في السوق في الزمان ، قبل طرح المناقصة رسمياً .
فتح السيد الوكيل المغلفات ونظر الأسعار كلها واختار واحدة ،و كانت لشركة "دان فوديو" . وطلب إلينا تجهيز عقد بالمبلغ على ثلاثة أقساط . واستدركنا بتذكيره  أن العروض كانت أولية ، ولم تكن مناقصة حسب النُظم ...وردَّ سيادته بأنهم في حاجة للإنجاز ولن يستطيع الإنتظار لمناقصة رسمية! . واقترح أن تقوم الإدارة الهندسية بتجهيز العقد بعد أن رأي تخفيض العرض بنسبة محدودة وإرساله لمكتبه . وأخطرنا السيد الوكيل  بأنه سوف يستدعي مدير شركة" دانفوديو" للموافقة على العرض المُعدل وتوقيع شخصه على العقد  إنابة عن الجامعة ، وبالنظام الذي ارتآه . وأمَّن على تكليف الإدارة الهندسية بالمراجعة الهندسية لكافة أعمال التأهيل . وعند مراجعة دفعات المقاول واعتمادها هندسياً  وفق الأعراف والمواصفات الهندسية المدونة ، يتم الكتابة إليه مباشرة  ليقوم بالتصديق والصرف . وأبدى توجيهه الهام " كل المكاتبات حول المشروع  تُكتب لي مباشرة بدون إرسال صورة  للمراقب المالي " !.
وانفض الاجتماع .

(10)

أمسك المهندس " صلاح " بيدي ، وذهبنا لمكتب مدير الإدارة الهندسية ، وأغلقنا بابه  علينا . وفي الذهن لفيف من الأسئلة الصعبة :
ما هي  الجهة الخيرية  التي تبرعت للمعمل ؟
ما هو المبلغ الحقيقي الدقيق ، أهو المبلغ الذي عرفناه أم هو أكثر ؟
في أي حساب وُضِع المبلغ ، أفي الخزانة الخاصة أم الحساب الخاص ، أم هو في حساب " الجماعة " الذي هو خارج النُظُم ؟
ماذا لو كان المبلغ في الحساب الشخصي ، وماذا سوف يحدُث إن لا قدر الله توفى سيادة الوكيل ، أيذهب المال للورثة الشرعيين  أم ماذا ؟
..............

28/4/2013

عبد الله الشقليني
abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء