جوته وتأبط شراً: إنّ بالشِّعبِ الذي دونَ سلْعٍ

 


 

 

بلغ إعجاب شاعر ألمانيا الأكبر يوهان ولفغانغ جوته (1749-1832م) بالشعر العربي الجاهلي مبلغا لا نظير له بين شعراء أوربا.
غير أن القصيدة العربية القديمة التي كان لها أثرا بعيد المدى في نفس جوته، هي قصيدة تأبط شراً ، في الثأر، والتي مطلها:
إنَّ بالشِّعبِ الذي دونَ سَلعٍ/ لقتيلاً دمـُـه مـــا يطلُّ
وهي القصيدة "التي يتغنى بها الشاعر الفارس تأبط شرا بالانتقام. فقد شاء الحظ أن يحمّله تبعة أخذ الثأر لدم خاله أخي أمه أمينة الذي قتل في إحدى المنازعات مع أبناء قومه من هذيل".
ومن شدة إعجاب جوته بهذه القصيدة أنه قام بترجمتها كاملة إلى الألمانية كما قام بإيراد نصها كاملا بالفصل المعنون (العرب) بالتعليقات والأبحاث التي ذيل بها (الديوان الشرقي) وقدم شرحاً وتحليلاً لها حيث جاء:
"ويكفي القليل من الملاحظات لفهم القصيدة. فعظمة الخلق والصرامة، والقسوة المشروعة للفعل هي عصب هذا الشعر". بدوي ص 375.
وعن ترجمة جوته لقصيدة تأبط شرا، يقول الدكتور عبد الرحمن مكاوي، الخبير في اللغة الألمانية: "والمدهش حقاً أن الشاعر فهم القصيدة فهماً تاماً، واستطاع أن يتمثّل معانيها الغريبة عليه، ويعبّر عنها بشعرٍ سلس بسيط، لا يكاد يترك معنى من معاني تأبط شرا دون أن يسجله". مكاوي ص 81
وتورد كاتارينا مومزن، أستاذة الأدب الألماني بالجامعات الأمريكية، في كتابها (جوته والعالم العربي) شاهدا آخر يدلل على عظم الأثر العميق الذي خلفته القصيدة في نفسية جوته. فهو حتى بعد أن بلغ من العمر أرزله كان ينشد عدداً من أبيات القصيدة عن ظهر قلب. فقد روى أستاذ اللاهوت البروتستانتي "اشتكل" بجامعة ينّا عن جوته ما يلي:
"لقد زرت جوته لآخر مرة في 22 مارس 1931 أي قبل عام واحد من ذلك اليوم الذي فارقت فيه هذا العالم أعظم روح شعرية في شعبنا. وكان سبب زيارتي له هو رغبتي أن أقدم له نفسي بعد تعييني أستاذاً مساعداً، إذ جرت العادة أن يقدم نفسه للسيد وزير الدولة (يقصد جوته) كل من يتم تعيينه في مثل هذا المنصب. وبعد إبدائي الرغبة في مقابلته جاءني مستخدم يحمل ردا فحواه أن سعادته متوعك، إلا أنه يمكني الصعود إليه. وهكذا اقتدت إلى غرفة ضيقة بعض الشيء تطل على الحديقة. وكان الأثاث بما في ذلك المكتب ورف الكتب، غاية في البساطة. وكان جوته جالسا على كرسي إلى جانب مكتبه وقد مد ساقه على كرسي ثان لأنها كانت تؤلمه.. وفي البداية تناول الحديث محاضراتي الأكاديمية ثم انتقل إلى الديوان الشرقي، فتحدث عن اهتمامه في صباه باللغة العبرية والعربية أيضاً. وما أن عبرت عن إعجابي بترجمته الرائعة والمثالية للقصيدة البطولية العربية المدرجة في الديوان حتى راح رأسه يرتفع عاليا بحيث بدت قامته وكأنها تكبر وتكبر على الرغم من أنه كان لا يزال جالسا، وفي جلال عظيم ابتدأ ينشد وكأنه زيوس الأولمبي:

تحت الصخرة على الطريق
يرقد مقتولا،
لا تبل دمه
قطرات الندى.
وعند الظهيرة بدأنا، نحن الفتيان الهجوم،
ثم واصلنا السير بالسرى
كما لو كنّا سحابا لا يستكين.
كل واحد كان سيفا،
متشحاً بسيف،
إذا ما سُلّ،
فهو برقٌ سَنيٌ
كانوا يحتسون أنفاس النوم،
ولكن ما أن هوّمواـ
حتى رحنا نقاتلهم
فكانوا هباء منثورا.

"وبينما هو ينشد هذه المقاطع بصوتٍ رنّان، ويا لعظمة ذاكرة هذا العجوز! كانت القصيدة كأنها تولد من جديد في وجدانه المفعم بنشوة الخلق، واتسعت عيناه اتساعاً شديداً، وبدتا لو كانتا تقدحان برقاً.". مومزن، ص171- 173
وأصل هذه الأبيات التي انشدها جوته في هذا اللقاء مترجمة، في قصيدة تأبط شرا هكذا:

إنَّ بالشِّعبِ الذي دونَ سَلعٍ/ لقتيـــلاً دمُـــــه مـــــا يطـــلُّ
وفُتــُوٍ هجَّــــــروا ثم أســـــــــــروا/ ليلهم حتى إذا انجابَ حـَـلوا
كلُّ ماضٍ قد تردى بماضٍ/ كســنى البرقِ إذا ما يُسلُّ
فادركنـــا الثأرَ منهم ولمّـــا/ ينــجُ ملحـــيين إلا الأقـــــــلُّ
فاحتســـوا أنفاسَ نــــومٍ فلما/ هوّمـــوا رُعتَــــهم فاشْـــــمعلّـــــوا

بالله عليك، تأمل الصورة البديعة المتجاوزة والتي لا يحدها زمان ولا مكان، في قول الشاعر:" فاحتســـوا أنفاسَ نــــومٍ"!
وكانت كاتارينا مومزن صاحبة كتاب (جوته والعالم العربي) والمتخصصة في أدب جوته، قد عبرت عن الإستغراب عن إعجاب جوته بقصيدة تأبط شرا بقولها: "افتتان جوته غير المألوف بتأبط شرا، وتفاعله العميق مع قصيدته الثأرية، سيظلان أمرا مستغربا نظرا لسجية جوته المسالمة ونفوره الشديد من الحروب التي عاصرها".
وقد حاولت مومزن أن تجد الإجابة على ذلك في مقولة وردت في حديث لجوته مع (اكرمان) حول أشعار الحرب، حيث يصف جوته هذه الأشعار القديمة بأنها "خلافا للشعر المحدث، لا تتغنى بالمعارك الحربية فحسب، بل تمنح بني البشر الشجاعة على الثبات في معارك الحياة اليومية". مومزن، ص 171
ونحن نضيف عاملاً آخر ربما ساهم في شدة إعجاب جوته بالقصيدة وتذوقه لها، وهو البنية الدرامية للقصيدة، فهي تجكي قصة (لها بداية وسط ونهاية). والبنية الدرامية هي أبرز خصائص الشعر الأوربي التي ورثها عن شعر اليونان واللاتين. فأنت تقرأ القصيدة الأوربية وكأنك تقرأ قصة.
يدلك على ما ذهبنا إليه، وصف جوته لقصيدة تأبط شرا في سياق شرحه لها والتعليق عليها بالملاحظات التي ذيّل بها (الديوان الشرقي) وهو قوله: "أروع ما في القصيدة، في نظرنا، هو أن النثر الخالص للفعل يصير، عن طريق تعاقب الحوادث المختلفة شعرياً.. ومن يقرأ القصيدة وهو يضع نفسه في الموقف، لا بد أن يرى الحادث نفسه، من البداية حتى النهاية، وهو ينمو شيئا فشيئا أمام خياله". بدوي ص381 ، مومزن ص 168.
وكان اهتمام جوته بالشعر العربي قد بدأ مبكرا منذ أيم الدراسة الثانوية. غير أن معرفته الحقيقية بالشعر الجاهلي بدأت بعد اطلاعه على ترجمة المستشرق الإنجليزي الكبير السير وليم جونز، معاصر جوته، للمعلقات العربية فقد نشر ترجمته لها باللاتينية سنة 1774 تحت عنوان "القصائد المذهبة السبع".
وبعد ذلك بثلاثة سنوات أعاد الألماني آيشهورن، أستاذ اللاهوت والاستشراق بجامعة ينّا، طبع ترجمة جونز وأهدى جوته نسخة منها. وفي عام 1783 ظهرت المعلقات بنصها العربي المطبوع بالحرف اللاتيني مرفقة بترجمة إنجليزية قام بها وليم جونز.
وقد حفزّ ذلك جوته على أن يبيت النية على ترجمة المعلقات إلى اللغة الألمانية. وتظهر هذه الرغبة في رسالة بعث بها جوته إلى صديقه فون كنبيل والمؤرخة في 14 نوفمبر 1783 جاء فيها:
"هذه القصائد في جملتها تدعو للدهشة والإعجاب، وتشتمل على مقاطع محببة للنفس. ولقد قررنا تقديمها للمجتمع مترجمة". مومزن، ص 57
غير أن التاريخ لم يحفظ لنا، كما تقول الباحثة القديرة، كاتارينا مومزن، من جهود جوته في ترجمة المعلقات سوى الأبيات الأولى من معلقة امرىء القيس المخصصة للنسيب وعددها ثمانية عشر. "فقد فتن النسيب جوته وسحره سحرا شديداً". ص 57.
ويظهر الأثر العميق الذي تركته المعلقات على جوته في ديوانيه (حِكم أليفة) و(الديوان الشرقي للشاعر الغربي). فبعد مضي ثلاثين سنة من بداية تعرفه على المعلقات نجده يكتب عنها بـ(الملاحظات والتعليقات التي تعين على فهم الديون الشرقي للشاعر الغربي) قوله:
"وعند العرب كنوز رائعات، وهي القصائد السبع التي كتبت بماء الذهب وعلقت على أبواب مسجد مكة". ويقول إنه لن يستطيع أن يصف روعة هذه القصائد بأفضل مما وصفها بها "الصائب الحكيم" السير وليم جونز والذي قال في وصفها:
"إن معلقة امرئ القيس لينة، مرحة، ناصعة، أنيقة، متنوعة الأغراض رشيقة. أما معلقة طرفة، فجريئة، جياشة بالعاطفة، متوثبة، ومع ذلك يشع فيها شيء من البهجة. ومعلقة لبيد، خفيفة، غرامية، أنيقة، رقيقة، وهي تذكرنا بالرعوية الثانية لفرجيل، لأنه يشكو من كبرياء الحبيبة، وتكبرها ويتخذ من ذلك فرصة لتعداد فضائله والتفاخر بقبيلته. ومعلقة عنترة تبدو متكبرة، متوعدة رصينة فخمة، وإن كانت لا تخلو من جمال الأوصاف والصور. وعمرو (ابن كلثوم) عنيف، سامٍ، ميال إلى الفخر. أما الحارث (ابن حلزة) فهو على العكس غني بالحكمة والذكاء والكرامة". مومزن ص 66، مكاوي، ص71 ، بدوي ص375
وترى كارتينا موموزن المختصة في أدب جوته أن جوته استلهم المعلقات العربية وتناصص معها في عدد من قصائد (الديوان الشرقي). وهذا أمر يلحظه كل من اطلع على (الديوان الشرقي للشاعر الغربي).
وأما ديوان جوته (النفحات الأليفة) Die Zahmen Xenien والذي يدور حول فكرة رئيسة هي "التعبير من منظور الشيخ الهرم عما يجيش بخاطر الشاعر عن الشيخوخة والشباب" فترى كاترينا مومزن أن جوته استلهم فيه الحِكم الواردة بمعلقة زهير، وهي تورد عدداً من الأمثلة التي تكشف بصورة جلية عن اقتباس جوته المباشر من زهير وتوظيف هذه الاقتباسات في التعبير عن رؤاه الشعرية.

مراجع ومصادر:
1- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمة عدنان عباس، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، رقم 194، الكويت، فبراير 1995
2- عبد الغفار مكاوي، جوته: النور والفراشة- مع النص الكامل للديوان الشرقي للشاعر الغربي، ترجمة وتقديم: عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2006.
3- جيته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة وتقديم وتعليق: د. عبد الرحمن بدوي، المؤسة العربية للدراسات والنشر. (صدرت الطبعة الأولى عن دار النهضة العربية، القاهرة، سنة 1967 ).

عبد المنعم عجب الفَيا – 8 نوفمبر 2022

abusara21@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء