جيري فاولر: رسائل من داخل السودان … بقلم: خالد موسي دفع الله

 


 

 

Kha_daf@yahoo.com

 

قبل أن يجف مداد التوقيع علي الأتفاقية الأطارية بين الحكومة وحركة العدل والمساواة بالدوحة ، أتحفتنا منظمة (كفاية) Enough التي يرأسها الناشط المعادي جون بريندر قاست بتقرير تحليلي لدوافع ومآلات الأتفاق. وفي ذات الوقت ظل جيري فاولر رئيس تحالف أنقاذ دارفور يبعث برسائله من الخرطوم، ودارفور وجوبا الي منسوبي منظمته في أرجاء الولايات المتحدة ناقلا إليهم أنطباعاته الأولي عن الزيارة، ومستحثا عضويته علي تنشيط حملة التبرعات لدعم جهود منظمته. وعليه سنستعرض في هذا المقال فحوي ومضمون الرسائل التي بعثها جيري فاولر الي عضوية تحالف أنقاذ دارفور من داخل السودان، ومن ثم نعمل مبضع التحليل لأستقصاء المؤشرات التي حواها تقرير منظمة كفاية. وسيحدد مضمون الرسائل التي بعثتها هاتان المنظمتان، أضافة الي النقاش الذي سيتمخض عنهما، مستقبل أتجاهات عمل منظمات المجتمع المدني في الولايات المتحدة تجاه قضية دارفور.

بعث جيري فاولر رئيس تحالف أنقاذ دارفور بأولي رسائله الي مناصريه ومنسوبي منظمته - تحالف أنقاذ دارفور- منتصف الأسبوع الماضي من الخرطوم بعد أن قضي أسبوعا في معسكرات النازحين واللاجئين في دارفور، وشرقي تشاد. وقال فاولر في رسالته التي حملت عنوان (من داخل السودان) إنها المرة الأولي التي يزور فيها السودان، ودارفور بصحبة أثنين من ناشطي منظمته  هما مارك لوتيس ، وشيان بروكس. وقال إنه قدم طلبا للحصول علي تأشيرة دخول منذ 2004، إلا أن الحكومة السودانية لم توافق علي زيارته إلا في شهر فبراير 2010، ، رغم نشاطه المكثف، وأطلاعه الدائم علي النزاعات و المآسي في السودان. وأشار الي أن أولي ملاحظاته هي أن أوضاع الأطفال في معسكرات اللاجئين والنازحين، تعتبر جيدة وشهدت تحسنا ملحوظا، ولكن ما زال هؤلاء الأطفال يعانون من الآثار النفسية الشرسة للحرب، وإنعدام الثقة في الحكومة. وضرب مثلا بأنه عندما زال معسكر عطاش للنازحين بنيالا برزت إليه صبية لا يتعدي طولها ثلاثة أقدام ونصف ، مشيرة بأصبعها الأبهام قائلة : إن رأس الدولة مجرم، وأن الخواجات صادقون ويقولون الحقيقة.ولعله لا يخفي علي القارئ الطبيعة الدعائية للرسالة، وهو يبعثها من الخرطوم الي عضوية منظمته الذين يبلغون الملايين في شتي أنحاء الولايات المتحدة، وفحواها أن النازحين ما زالوا يعتمدون علي عمل منظمته ومصداقيتها.لذا لا بد من الوقوف معهم ومساعدتهم وعدم خذلانهم، بجمع التبرعات والتعبير عن تطلعاتهم وقضاياهم.. وحول طبيعة المعالجات الجارية لحل أشكال دارفور قال جيري فاولر في رسالته إن مشكلة دارفور لا يمكن حلها بمعزل عن قضايا السودان الأخري المرتبطة بالأقصاء والتهميش.وأعرب عن قلقه من أتجاه الأدارة الأمريكية لحل مشكلة دارفور بمعزل عن بقية قضايا السودان الأخري، سيما وأن أجراء الأستفتاء لتقرير مصير جنوب السودان أصبح قاب قوسين أو أدني ..وأعترف جيري فاولر في رسالته بأنحسار العنف ضد المدنيين في دارفور، ولكنه حذر من أن فرص أرتفاع وتيرة العنف ما زالت قائمة إذا لم يتدخل  المجتمع الدولي ليضع ضمانات كافية تحول دون أستخدام العنف لحل المشكلة ، رغم أنخراط الأطراف في التفاوض. كما أعترف أيضا، بأنعدام الحرب المنظمة بين الحكومة والحركات المسلحة، ولكنه في ذات الوقت أنتقد حالة اللا سلم واللا حرب السائدة في المعسكرات وجبهات دارفور المختلفة، حيث لا يزال النازحون معرضون لغوائل العنف والتشريد. وأشاد فاولر برغبة النازحين العارمة للسلام والأمن، ولكنه أيضا أومأ الي آراء قادة بعض المعسكرات في دارفور الذين أشاروا الي التحديات التي تعترض مسيرة السلام، وعودة الأوضاع الي طبيعتها السابقة. وأستدل بحديث أحد قادة المعسكرات الذي أكد أستحالة أعادة اللبن المسكوب علي الأرض الي إناء الحلب مرة أخري.أي أنه ليس ممكنا أعادة الأوضاع الي طبيعتها السابقة مرة أخري، ولكن لا بد من توفير الظروف المناسبة، والأستقرار اللازم، والأمن المطلوب، حتي تعود الحياة الي طبيعتها. وحسب رأي فاولر فأن ذلك يتطلب جهودا حثيثة من الفرقاء السودانيين علي وجه العموم والحكومة السودانية علي الخصوص ، وكذلك توفير ضمانات كافية من المجتمع الدولي عن طريق التعاطي الأيجابي مع جميع الأطراف.

تري كم هي المسافة التي قطعها تحالف أنقاذ دارفور، في دهاليز الصراع مع السودان  بين فحوي ومضمون هذه الرسائل وبين شعارات التدخل العسكري في دارفور منذ 16 يونيو 2005 عندما أحتشد المئات من مناصريه في حديقة نيويورك المركزية يطالبون الجيش الأمريكي بالخروج من العراق والتدخل الفوري في دارفور out of Iraq into Darfur ولعل ذلك ما دعي البروفيسور محمود محمداني في مناظرته الشهيرة مع الناشط جون بريندرقاست في جامعة كولمبيا بنيويورك الي وصف منسوبي تحالف أنقاذ دارفور الذين يطالبون بالتدخل العسكري بأنهم  محض صبية مجندون في جيش تحالف أنقاذ دارفور child soldiers of Save Darfur  يفتقرون للمعرفة و الأدراك لطبيعة وحقائق الصراع في دارفور، الذي هو في الأساس صراع سياسي وليس أخلاقي كما تصوره الرسالة الأعلامية للتحالف..

بدأت منظمة كفاية التي يقودها جون بريندرقاست حذرة في الترحيب بالأتفاق الأطاري بين الحكومة وحركة العدل والمساواة،وأنتقدت السقف الزمني لأنجاز الأتفاق،في ضوء التعقيدات المحيطة بالقضية خاصة فيما يتعلق باعادة انتشار القوات. وبدت المنظمة متفهمة شيئا ما لقيام مسارين للتفاوض في الدوحة مع الحركات المتوحدة تحت قيادة التيجاني السيسي، والعدل والمساواة. و بشأن حسابات البيدر والحقل للأطراف المختلفة،تري أن أكبر مكاسب الحكومة أضافة الي الشرعية السياسية بالأنتخابات، وحصار أدعاءات محكمة الجنايات، هو الحفاظ علي جبهة عسكرية هادئة في الغرب، أستعدادا لأنفصال الجنوب بموجب الأستفتاء ولعدم مقدرة الجيش علي المحاربة في جبهتين منفصلتين.وأشار التقرير الي أن الأتفاق فتح باب التكهنات من جديد لتوحيد الأسلاميين في السودان بمساعدة بعض الدول العربية لمواجهة تداعيات الأنفصال في الجنوب.وربما يساعد تطبيق أتفاق مع حركة العدل والمساواة في تخفيف العقوبات الأقتصادية من قبل الولايات المتحدة،وتحسين علاقات السودان مع المجتمع الدولي.

أما بالنسبة للعدل والمساواة، فقد أدرك خليل أبراهيم أن الظروف الأقليمية لم تعد في صالحه،خاصة من تشاد الدولة المضيفة لقواته والمساندة له، وعليه أن يغتنم الفرصة بالتوصل الي أتفاق سلام لتوسيع نفوذه السياسي، والمشاركة في كيكة السلطة والثروة،أما بالنسبة لحركة التحرير والمساواة بقيادة السيسي فلم يعد لها مساحة للمناورة لأن القوي الأقليمية المساندة لها أضافة للضغوط الدولية تجبرها للأستجابة لعروض منبر الدوحة دون تلكؤ أو تراخ. ولعل حسابات المبعوث الأمريكي قريشن تبدو مختلفة حسب تقرير منظمة كفاية، لأن تركيزه الأساسي قائم علي أيجاد تسوية سياسية في دارفور، من أجل تحقيق إستقرار أمني يمهد الطريق لأنفاذ أتفاقية السلام، وأجراء الأستفتاء علي تقرير المصير في يناير 2011 دون مشاكل أمنية أو تهديدات من الشمال. وفي المقابل تري (كفاية) أن غريشن سيقوم بمكافأة الحكومة السودانية مقابل توقيع أتفاق سلام نهائي في دارفور. ويري التقرير أن المؤشرات السلبية تكمن في الطبيعة الأقصائية للعدل والمساواة التي تقف ضد مشاركة فعاليات المجتمع المدني، والحركات الأخري في التفاوض، أضافة الي غياب ضمانات عضوية، وآلية دولية لمراقبة وضمان أنفاذ الأتفاق في دارفور.وأشار التقرير الي ضرورة تقوية آليات قوات حفظ السلام الدولية علي الأرض لمنع حدوث أنتكاسات كبيرة في مسيرة السلام في دارفور.

تري هل مضمون رسالة جيري فاولر الي منسوبي منظمته، وتقرير منظمة (كفاية) يقدمان مؤشرات كافية لدعم السلام أم أنهما يبحثان عن ثغرات في مجال الآليات والضمانات لأستثارة الرأي العام في الولايات المتحدة ضد مسار التسويات الجارية؟. يبدو جيري فاولر في زيارته الراهنة للسودان أكثر أستعدادا لتقبل التحولات الأيجابية التي حدثت علي الأرض حيث أعترف بأنحسار العنف، ووقف الحرب المنظمة بين الحكومة والحركات المسلحة رغم وجود بعض الأشتباكات العسكرية هنا وهناك.وتقف مطالبات فاولر الذي يقر بدنو تحقيق السلام بأيجاد حل شامل لقضايا السودان، و ليس حل مشكلة دارفور فقط بصورة منفردة. ولعل جيري فاولر ما زال متمسكا بنظرية السودان الجديد التي ترهن السودان كله الي صراع بين المركز والهامش، ولا شك إن هذه النظرية أصبحت تفقد بريقها كلما أقترب موعد الأستفتاء لأن الحركة الشعبية الملهم الأساس للنظرية في الحياة السياسية في السودان أصبحت أكثر نزوعا للألتصاق بالجنوب والأنسحاب من الشأن القومي في الشمال. أما تقرير منظمة كفاية فقد تضمن قراءة جمعت بين التوازن والتعسف ولكنها لم تفرز أي مؤشرات ضد مسارات السلام الراهنة في الدوحة، ونادت لأيجاد ضمانات عضوية، وآلية دولية لضمان تطبيق الأتفاقية. ولعل المطعن الأساسي في قراءة منظمة (كفاية) هو تعظيمها لحسابات الحقل والبيدر للحكومة وحركة العدل والمساواة، وتوقعاتها بتوحيد الأسلاميين بدعم من دولة قطر لمقابلة تداعيات أنفصال الجنوب. ولعل المؤشر الأكبر والأهم في هذه القراءة هي مغادرة رئيس تحالف أنقاذ دارفور جيري فاولر لمنصبه الشهر القادم ، عائدا لمتحف الهولوكوست بواشنطون. فلا ندري إن كان هذا القرار نابعا من إحساسه بتراجع دور المنظمة وأضمحلالها مع تطورات عملية السلام، أم يعود قراره الي حسابات داخلية خاصة بالمنظمة خاصة مع أتساع الخلاف ووجهات النظر بالطريقة التي شهدها أجتماع نواب وزراء مجلس الأمن الشهر الماضي لتقييم أستراتيجية الولايات المتحدة نحو السودان التي شهدت خلافا حادا غادر علي إثره البعض الأجتماع مغاضبا، مما دعي بعض المنظمات الناشطة للمطالبة بتنحي قريشن كمبعوث خاص للسودان، سيما وأنه ظل يحرز تقدما، ونقاطا إيجابية كلما أرتفع التعاطي مع قضايا السودان من مستوي المنظمات والناشطين، الي مستوي وزراء مجلس الأمن، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية. 

 

آراء