جربيقا جلباق هو شخصية معقدة منفرة من رواية الكاتب الكبير عبدالعزيز بركة ساكن مسيح دارفور. وهو قائد جنجويدي مجرد تماماً من الإنسانية في تعامله مع من هم خارج محيط عشيرته وأسرته، تديره الحكومة كروبوت لايفقه أي شيء سوى القتل والتدمير. إن الظروف التي تمر بها البلاد عموماً والعاصمة الخرطوم خصوصاً منذ فترة ليست قصيرة من حيث الإنتشار الكثيف لقوات الدعم السريع وسيطرتها التامة والواضحة لكل مداخل ومخارج العاصمة ومواقعها الإستراتيجية، ناهيك عن سيطرتها المحكمة لمواقع القوات المسلحة بما فيها القيادة العامة، وهو أمر واضح للعيان يبدو أنهم لايهتمون كثيراً لإخفائه، هذا غير الأنباء شبه المؤكدة عن سيطرة ليست أقل إحكاماً على أسلحة القوات المسلحة نفسها بما فيها الطيران والمدرعات (نعم) مع تكبيل تام لفيلق الضباط. وبما أن قوات الدعم السريع تدين بالولاء التام والشخصي لقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) فبالتالي فإن هذا يعني سيطرته الفعلية على البلاد وهو يعلم ذلك والكل يعلم ذلك. لقد كان لدي معظم الناس إعتقاد بأن حميدتي ليس سوى جربيقا جلباق خاوي الرأس لايستطيع أن يتحرك دون أوامر سادته في الحكومة السابقة وبأنه كان يرتعب ويخاف خوف شخصي من البشير ولا يستطيع أن يعصي له أمراً أو يقف أمامه مناقشاً أو حتى محاوراً. وبأنه ليس سوى قائد مليشيا قبلي في أقاصي الهامش لن يقوى ولايمكن أن يتخيل أنه يمكن أن يخوض في لجة السياسة في المركز (وإلا تبقى دي قلة أدب بعد دة). المهم في الأمر أن (قلة الأدب) قد حصلت وأن حميدتي لم يخض فقط في لجة السياسة في المركز، بل لقد إستلم حكم السودان الذي هو خارج سيطرة الحركات التحررية المسلحة برمته بلا أي منازع حقيقي في الأمد المنظور. ولقد تبدد ما كان في المخيلة الجمعية (رغم أن البعض لازال يكابر) شبح شخصية جلبيقا جلباق الأحمق ليظهر في الواقع رجل ذو شخصية كارزمية يتشح بالكثير من الصفات أبعد ما تكون عن الحمق أو الغباء أو التبعية وهي الصفات التي يلصقها أهل المركز بكل شخصية من الهامش تشكل تهديد حقيقي لمركزهم بل لقد ألصقوا هذه الصفات بدكتور جون قرنق رغماً عن مؤهلاته العالية جداً وألمعيته حتى خارج السودان. فالرجل (حميدتي) من الواضح للمراقب منذ البداية بأنه منظم جداً ويسعى نحو أهدافه بلا هوادة ويخطو خطواته بدقة محسوبة وحاسمة ولقد كان واضحاً إستغلاله لتناقضات نظام البشير لمصلحته، وقد كان مذهلاً كيف أن البشير في أخريات عهده قد إرتكب أخطاءً إستراتيجية لايمكن تصديقها لصالح حميدتي مكنت للرجل سيطرته فعلياً حتى قبل سقوط البشير؟ فيما يبدو أن البشير كان يتعامل معه بنفس عقلية المركز الإحتقارية التي ذكرناها آنفاً .. أو أن الرجل (البشير) كان يقاوم محاولات أهله الجعلية وكذلك الشوايقة بعد تآمر كوادر القبيلتين في المؤتمر الوطني، كل على حدى، للإطاحة به. والأغلب أن الأمر خليط من هذا وذاك. أولاً وقبل كل شيء أود التنبيه هنا أننا لا نود أن نمدح أو نضع الدعم السريع وقائده في خانة إيجابية بقدر ما نود أن نفضح ونعري عقلية المركز وخصوصاً الإخوة في الوسط والشمال النيلي تجاه كل من ليس منهم، مع تكرار إحترامنا العميق لمن تجاوزوا هذه العقلية من بينهم، وتكرار أن معظم لومنا يقع دائماً على نخب هذه الحاضنة لأنها كرست ولازالت تكرس هذه العقلية كنخب كان عليها واجب ضخم في توعية قواعدها ولكنها لم تستطع، وفي الأغلب آثرت عدم فعل ذلك لأسباب كثيرة أهمها ضمان إستدامة وضعها النخبوي في الدولة وإحتكاره دون تشاطره مع نخب شركائها الآخرين في هذه الدولة. إن هذه النخبة وحاضنتها قد تعاملت مع ثلاثة مكونات سودانية ذات خصائص مختلفة تماماً بنفس العقلية، وفي كل مرة تختلق عذراً جديداً، ولكن الأمر باطنه أن هذه المكونات الثلاث خارج دائرة الوسط والشمال النيلي وهم: (أولاً الجنوبيين، ثانياً سود أو مايصطلح عليه بزرقة أو غير العرب في كردفان ودارفور خصوصاً، ثالثاً عرب الغرب عموماً خصوصاً من الرحل في الإقليمين المذكورين). لقد كان الأمر أن الدولة قد قاتلت الجنوبيين والنوبة لأنها إسلاموعروبية، ثم إتضح للناس جلياً أنها عروبية عندما قاتلت حفظة القرآن في منطقة مسلمة حصرياً، بل لها سبق في الإسلام، أما الآن فلقد نزعت الدولة آخر قطعة من ملابسها وتعرت تماماً (بمعنى تعرت!) بعد أن كشفت تشنجها العنيف كدولة وحاضنة إجتماعية تجاه مسألة الدعم السريع وحميدتي فسقطت العروبية وإتضح أنها دولة شمال ووسط نيلية دون مكياج وباروكة الإسلاموعروبية والتي إتضح أنها سلاح آيدلوجي ليس إلا. ولولا القوة الضاربة البينة للدعم السريع وسيطرتهم الخاطفة على مقاليد الأمور لكانت هذه الحاضنة بمباركة نخبتها الأكيدة قد ذبحت أفراده على أسس عرقية كما فعلت من قبل في الجنوبيين (في وسط الخرطوم في الستينيات)، هذا مع علمهم يقيناً بأن هذه القوات وقائدها هم من حسم مسألة إسقاط البشير ومن بعده بن عوف، هذا رغم أن الشرطة والأمن بشقيه (الرسمي - والشعبي) قد إرتكبوا فظائع لا تقل، بل أشنع، مما إرتكبه الدعم السريع في قمع ثورة ديسمبر. هذا وللمناسبة لقد ذكر لنا عميد معاش مطلع على الأمور من نفس هذه الحاضنة في مناسبة إجتماعية بعد نجاح إعتصام القيادة وقبل سقوط البشير بأن هذا الإعتصام المهيب أمام القيادة بغرض حث الجيش على إستلام السلطة سوف لن ينجح في إسقاط البشير حتى لو جلس المعتصمون هناك لستة أشهر بل لقد أضاف بأن الكيزان نفسهم سوف يقدمون السندويتشات والمرطبات للمعتصمين! ثم شرح عدة أسباب فنية كنت أنا شخصياً مطلع على بعضها عرضاً من بعض الأخوة في القوات المسلحة عن لماذا لن يستطيع الجيش إسقاط البشير مهما حدث، ثم فاجأ الجميع بأن قال حرفياً بأن هناك ’’رَجُل‘‘ واحد فقط يستطيع إسقاط البشير إن أراد ذلك ’’هذا الرجل هو حميدتي‘‘ ولقد قالها بهذه الكلمات. ولا داعي أن نقول بأن القلق وعدم الإستساغة مصحوباً بعدم التصديق كان واضحاً في أوجه الحضور، ولقد كان كل الحضور من الشماليين إلا أنا، وبينما لم تدهشني المعلومة لأني كنت واثقاً منها إلا أن الذي أدهشني هو صراحة ذلك العميد، ففي تلك الأجواء، أجواء ما قبل سقوط البشير، لو كنت مثلاً قد تفوهت بمثل هكذا حديث لكان قد تم ربطي في أقرب عمود!!. حميدتي الآن يمثل معادلة محيرة للجالسين في قاعة إمتحان السودان! فإذا سلمنا بأن معضلة السودان الحقيقية والتي يحاول جميع الساسة خصوصاً الشماليين التهرب منها وهي الصراع بين الهامش والمركز فقد يعتقد البعض بأن الهامش قد إنتصر أخيراً بدخول إحدى طلائعه للمركز، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. ولهذا دعونا نطرح بعض السيناريوهات لما يمكن أن يحدث وموقف كل طرف من المعادلة في الفقرات القليلة التالية، ولكن وقبل أن نخوض في هذه السيناريوهات دعونا نتأمل في الخطأ التاريخي لقوى الحرية والتغيير والذي قد يؤدي لتبلور بعض هذه السيناريوهات بل وتسريع ظهورها على أرض الواقع. إن قوى الحرية والتغيير قامت بممارسة نفس عقلية المركز الأزلية في التعاطي مع الأوضاع بعد سقوط البشير وحتى قبل سقوطه حيث قامت بإقصاء الحركات المسلحة وقد كان هذا مفهوماً وتحدثنا عنه كثيراً من قبل حيث أن القوى السياسية الشمالية سواء أكانو إسلاميين (بما فيهم الأحزاب التقليدية) أو علمانيين هم وجهين لعملة واحدة عندما يتطلب الأمر التعامل مع قوى الهامش، ولكن كان الخطأ التاريخي بالنسبة لهم كقوى سياسية شمالية عندما قامت قوى الحرية والتغيير بالتعامل مع حميدتي بنفس المنطق رغم أن المصلحة المفترضة هي مصلحة مشتركة وهي التخلص من الكيزان وهو الجسم الذي رفضته القوى الشمالية بالإجماع وأرادت التخلص منه. وكان من المفترض أن تكون هذه هي المصلحة المشتركة بين الحرية والتغيير وحميدتي، بما أن الأولى لم تكمل الثورة حتى النهاية وتطيح بالبرهان وحميدتي كما ذكرنا في مقال سابق (النقطة العمياء)، حيث أن حميدتي من أهدافه الرئيسية إزالة الكيزان كما أن له غبائن شخصية معهم ناهيك عن أن حلفائه في المنطقة (خصوصاً السعوديين والإماراتيين) يعولون عليه في هذه المهمة في إطار سياسة إزالة الأخوان المسلمين وأزرعهم من المنطقة، وقد كان نشوء تحالف بين قوى الحرية والتغيير وحميدتي كفيلاً بإنجاز هذه المهمة بكفائة، ولكان حميدتي قد سحل الكيزان في الشوارع دون أن يخشى في ذلك لومة لائم. ولكانوا جلسوا بعد ذلك في طاولة مستديرة مع الرجل ليروا كيف سيحلوا مشكلة السودان الحقيقية مع باقي شركائهم في السودان دون أن يعكر عليهم الكيزان وأذنابهم الأجواء بل ولكانوا قد كسبوا الرجل ككرت في صالحهم في مواجهة حركات التحرر المسلحة عند التفاوض وغيره من الإحتمالات بعد أن تصبح الثقة متبادلة بينهما. ولكن لنرى كيف فكرت قوى الحرية والتغيير ولا زالت تفكر تجاه حميدتي وتجاه الهامش عموماً، فالحرية والتغيير عضو أصيل في جسد الجاك (المركز) بل هي الجاك الأصلي نفسه يحاول إستعادة السيطرة بعد طرد صعاليكه الذين سيطروا لثلاثين سنة ولم يفلحوا في مهمتهم الأساسية، فالجاك أجندته وأموره واضحة ولا يقوم بإخفائها، ببساطة لقد كانت قوى الحرية والتغيير منذ البداية تعول على القوات المسلحة لتقوم بالتغيير الجذري نيابة عنها وقد كان موجعاً أن التغيير قد أتى من قوى لم تكن في حسبانها رغم أنها قوى كانت تعمل جمباً إلى جمب مع قواتهم المسلحة وقامت بما لم تستطع القوات المسلحة أن تقوم به، وبما أننا قلنا من قبل أن القوات المسلحة هي أداة العنف التي يحتكرها الشمالييون ويحكمون بها السودان وهي تخصهم وحدهم، وبما أن التغيير كما قلنا من قبل أيضاً هو كالعادة تغيير داخل الإطار الشمالي بالطريقة المعهودة المعروفة (ترتيب البيت الشمالي النيلي ’وبواديه‘) فقد كان حدوث التغيير داخل هذا البيت من قبل مجرد قوى قادمة من الهامش تحارب عنهم بالوكالة بدلاً عن القوات المسلحة أمراً موجعاً للغاية، وهو موجع وبنفس القدر للحرية والتغيير والكيزان معاً بإعتبار أن صراعهم في إطار محدد قد تم خرقه لأول مرة في تاريخنا المعاصر، فبالنسبة لهم جميعاً فإن حميدتي وقواته يجب أن لاتكون أكثر من مجرد قوات صديقة كما كانوا يسمون القوات الجنوبية التي كانت تحارب الحركة الشعبية مع الحكومة قبل إنفصال الجنوب وهي قوات كانت الحكومة والمجتمع الشمالي تحتقرها أشد الإحتقار، إلا أن القوى الشمالية تناست أن حميدتي رغم أنه كان يقاتل عن الحكومة بأنه أيضاً كانت لديه ومقاتليه أسبابهم الموضوعية للقتال، ولهذا فهو أيضاً كان يقاتل عن أصالة، فقد تناسوا أن هناك إشكالات وقضايا حقيقية بين الرعاة الرحل الذين ينتمي إليهم حميدتي والمزارعين المستقرين الذين تنتمي إليهم معظم الحركات المسلحة، والذين في مجملهم (رعاة ومزارعين) يشكلون الهامش الكبير الذي ينظر إليه الشمالييون نظرة واحدة ولكن بدرجات، وهو الصراع الذي يصب تماماً في مصلحة المركز وسبب بقائه الطويل في الحكم، ورغم أن الرجل قد أثبت جدارة في الميدان بغض النظر عن أن سبب معظم هزائم الحركات المسلحة أمامه كان سببها تفتت هذه الحركات وإختلافها وفقدانها البوصلة أكثر من قدرة حميدتي الفعلية على مجابهتها إلا أن الرجل قد أثبت مقدرات عسكرية وقيادية لايمكن إنكارها، حتى أن الرجل قد تسنم رتبة الفريق وهو في الواحدة والأربعين من عمره، وعملياً فإن الرجل قد قام بنفس المهمة التي كان يجب أن تؤديها القوات المسلحة وبكفائة، وإلى هنا كان حميدتي حلو المذاق! وسنرى كيف سيصبح مر المذاق في ما بعد!. ولكل ما سبق كانت العدالة تقتضي أن يكون للرجل وقواته وحاضنته الإجتماعية عضوية كاملة في النادي الشمالي الحاكم، فبالنسبة للكيزان فقد أراحهم من القوات المسلحة والتي يشاركهم فيها باقي الفرقاء الشماليين ولهذا فهي مصدر خطر عليهم، أما بالنسبة للقوى التي تتشكل منها قوى الحرية والتغيير بمختلف إتجاهاتها بلا إستثناءات فإن قولهم مثلاً بأنهم لايقبلون بحميدتي وقواته، على الأقل بالدور الذي قامت به في الثورة بدلاً عن القوات المسلحة، بإعتبارها قوات إرتكبت فظاعات في مناطق النزاعات فإن هذا قول مردود عليهم حيث أن الفظاعات التي إرتكبتها القوات المسلحة طوال تاريخها وحتى آخر لحظة لايمكن مقارنتها بالفظاعات التي إرتكبتها أي قوات أخرى قاتلت في مناطق الهامش حتى بالمقارنة مع الجنجويد، وعلى أصحاب ذاكرة الماء أن لا يتناسوا الفظاعات التي إرتكبتها القوات المسلحة في الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق والتي لم تجد نصيبها من التوثيق والإعلام كما حدث في دارفور والتي صمتت عنها هذه القوى صمت القبور بل وقد كانت داعمة معنوياً ومادياً للقوات المسلحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. أما القول بأنهم لايقبلون بقوات معظم تكوينها من إثنية أو إثنيات ومناطق معينة بل حتى عشيرة أو أسرة معينة، فإن هذا أيضاً قول مردود عليهم فقد كان هذا بالضبط ما تمارسه النخب السياسية الشمالية على مستوى الحكم عموماً، أما بالنسبة للقوات المسلحة فإن الأمر فضائحي ومخجل حيث أن القوات المسلحة تسيطر عليها إثنيات محددة، إن معظم فيلق الضباط مكون من الشماليين مع أعداد بسيطة متناثرة هنا وهناك من القوميات الأخرى كترميز تضليلي ولمهام محددة معروفة وفوق ذلك فإن السيطرة والقيادة الفعلية للقوات المسلحة في داخل الشماليين أنفسهم هي لإثنية ومنطقة محدودة للغاية نعرفها كلنا مع كامل إحترامنا لمواطنيها الشرفاء، وليست علاقات النسب والقرابة ببعيدة عن هذه القيادة. أما بالنسبة لمكون الجيش من الجنود وضباط الصف، خصوصاً من المقاتلين، فهم في معظمهم من الهامش ليس لأن القيادة ترغب في ذلك ولكن لأن التجلي الإثني لتقسيم العمل لايسمح بغير ذلك، ولطالما كانت هذه الوضعية تثير قلق القيادة ولقد حاولت، خصوصاً القيادة السياسية للإنقاذ، كسر هذه الوضعية بتكوين قوات تدخل سريع (لانقصد الدعم السريع هنا) عالية التدريب مع مخصصات وإمتيازات جيدة مكونة من الشماليين جنوداً وضباط صف وضباط مع تتبيعها لجهاز الأمن والشرطة أو قادة المؤتمر الوطني مباشرة كي تكون إحتياطياً جاهزاً لأي هجوم من الهامش من داخل أجهزة المركز مع مهمة حماية الإنقاذ نفسها طبعاً، إلا أن هذه القوات أثبتت فشلاً زريعاً وقد تجلى هذا الفشل خصوصاً في عملية الزراع الطويل التي قام بموجبها المرحوم خليل بزيارة الخرطوم زيارة غير مرحب بها حيث تساقطت ما كانت تسمى بالأحجار الكريمة (وكأن المقاتلين من القوميات الأخرى غير كريمين) أمام قواته في أول معركة على مشارف أمدرمان بطريقة كارثية - وفي النهاية لم ينقذ الموقف بالإضافة إلى ملابسات أخرى إلا القوات المكونة من المقاتلين غير الكرام الذين لم تكن الإنقاذ راغبة في قواتهم ولا فيهم إلا في إطار سياسة ضرب أبناء الهامش ببعضهم البعض. ولقد كان فشل هذه القوات على الدوام من الأسباب التي أدت إلى اللجوء لحميدتي ومقاتليه. ولهذا فإن القول بأن حميدتي يرتكز على قوات ذات تكوين أثني معين يجب أن يخجل مرددوه من السياسيين الشماليين، فعلى الأقل فقد كانت هناك مبررات موضوعية لتكون هذه القوات بهذه الصورة، فطبيعة النزاع المحلي الذي إستغله المركز وأذكى نيرانه منذ حكومة الصادق المهدي قبيل الإنقاذ هي بين الرحل والمزارعين، ولايمكن بطبيعة الحال تصور أن حميدتي مثلاً في مثل تلك الظروف كان سيقوم بحشد المزارعين ليقاتلوا معه المزارعين الذين هم الحاضنة الإجتماعية للحركات التحررية المسلحة كما لا يمكن التصور بأنه كان سيقوم بطلب قوات شمالية من إثنيات الوسط والشمال لتقاتل معه لتكون قواته قومية وإلا لكانوا قد إتهموه بالجنون! ولهذا فإن موضوعية تكوين قوات حميدتي لايمكن مقارنتها بموضوعية تكوين القوات المسلحة الشاذ، إلا أننا إعتدنا من الساسة الشماليين جميعهم بأن أي شيء عندما يتكون من الشماليين فهو قومي أما إذا كانت به أي رائحة غير شمالية فهو عنصري، فلقد تم ممارسة هذا الأمر على جميع مكونات الهامش، من الجنوبيين قبل الإنفصال وحتى العرب الرحل من أبناء الغرب الآن. إن عدم تقبل الساسة الشماليين لحميدتي بعد أن قام بنفس الدور الذي كان من المنتظر أن يقوم به الجيش - هنا أصبح حميدتي مُراً في حلوقهم! - هو محض عنصرية ليس إلا. ولقد قلنا من قبل أن أسوأ كوابيس المركز هو فقدان السيطرة على العرب الرحل من أبناء غرب السودان، ويجب أن يحمدوا الله كثيراً وبنية خالصة أن هذا قد حدث بطريقة ناعمة لم نكن نتصورها. حيث أن الطريقة التي إستلم بها حميدتي مقاليد الأمور قد ترتبت بطريقة بها الكثير من الحظ في صالح المركز، لأن السيناريو المنطقي كان يقول بأنه عاجلاً أم آجلاً كانت هذه القوات ستضيق زرعاً بمؤامرات الإنقاذيين وستنقض على حكمهم ربما بمشاركة حلفاء آخرين، ولكان هذا كفيلاً بمسح حكم المركز بطريقة لا لبس فيها إلا أنه كان من المرجح أن يكون طريقاً معبداً بالكثير من الفظاعات من نوعية نفس الكأس الذي سقاه المركز لهوامش السودان. ماذكرناه من خطأ قوى الحرية والتغيير قد يؤدي خصيصاً للسيناريو التالي:- تحالف براغماتي لقوى الهامش: هذا التحالف يتبلور بسرعة الآن وهذا التحالف ليس بالضرورة مقصود به تحالف حميدتي مع حركات التحرر المسلحة حيث أن قاعدة كبيرة من المواطنين المنحدرين من مناطق الهامش خصوصاً في المدن الكبيرة يبدون تعاطفاً كبيراً لايخفى عن العين مع حميدتي وإستياء وسخط واضح من الطريقة التي يتم بها تداول الحكم في السودان في دائرة إثنية واحدة شديدة الضيق (مع رمي عظمة هنا أو هناك لعبيد المنزل) تحت لافتات مختلفة أصبحت لاتعني لهم الكثير بينما هم يتقلبون في الصاج، وفي أحيان كثيرة يكون التعاطف مع حميدتي ليس من أجل حميدتي ولكن نكاية في هذه الدائرة. كما إن إحتمالية أن يتحالف حميدتي مع الحركات التحررية المسلحة على هدف مرحلي محدد ليست ببعيدة. وكلما تشنجت نخب هذه الدائرة في محاولتها للتشبث بإمتيازاتها فإنها تقوي من إمكانية هذا السيناريو. ولكننا يمكن أن نتأمل في فرصة حدوث بعض السيناريوهات الأخرى ومنها: أولاً: إنقسام قوى الهامش بين حميدتي والمعارضة الشمالية والحركات التحررية: من المؤكد أن حميدتي يرتكز على فصيل من الهامش كقاعدة صلبة لايستهان بها وأخذ يكتسب جيوب حتى خارج حواضنه الإجتماعية على الأقل كما قلنا كنكاية. إلا أن هناك إحتمالية إنقسام قوى الهامش بين حميدتي والمعارضة الشمالية مع تأرجح الهامش المضمون الولاء للحركات التحررية في التعاطف ما بين حميدتي وهذه المعارضة، ويجب أن لا نستبعد هذه الإحتمالية حيث أن للقوى الشمالية بما فيها المعارضة باع طويل وأدوات مجربة في التفتيت، كقوى ذات عقلية إستعمارية، قد تمكنها من إحداث هذا الإنقسام خصوصاً وأن النواة التي يمكن زرعها لإحداث هذا الإنقسام موجودة بإعتبار أن شخصية حميدتي وقواته مثيرة للجدل بإعتبارها وقائدها كما هو شائع إحدى فصائل الجنجويد سيئي السمعة خصوصاً في الهامش، وبينما كانت معظم القوى في الشمال تنظر إليهم بإعجاب وشماتة في ضحاياهم، فإنهم دون إختشاء سيلعبون الآن على هذا الحبل. وحري بي القول أن التصريحات التي كانت تطلقها تلك القوى الشمالية لصالح الضحايا في أيام المأساة لم تكن أصيلة Genuine وإنما كانت للدعاية السياسية وللحشد والكسب ضمن القواعد الإجتماعية للضحايا. وبخصوص هذا السيناريو لكي يتحقق فمن الواضح أن على الحرية والتغيير أو أي قوى شمالية أخرى أن تنافس حركات التحرر المسلحة على جمهورها وبالطبع فإن هذا تحدي قائم بذاته وسيكون نوعياً بالنسبة لها، فهذه ليست الستينات أو السبعينات أو الثمانينات من القرن الماضي، وهذه مسألة تعني خاصة الأحزاب التقليدية (ناس سيدي). كما أن عليهم مجابهة حقيقة أن حميدتي الآن هو المحتكر الأول لوسائل العنف في السودان خارج سيطرة حركات التحرر المسلحة، فهو بغض النظر عن الدعم السريع غالباً - وليس بعيداً جداً بالمناسبة - ستصبح القوات المسلحة تحت يديه وستصبح جميع وظائفها وأجهزتها تحت تصرفه طوعاً، فهو فقط الآن قام بتكبيل الوحش بعد أسره تمهيداً لترويضه، وبالتأكيد فإن هذا سيصعب من مهمة الحرية والتغيير وأي قوى شمالية أخرى. ثانياً: إستيعاب حميدتي لجزء من قوى الهامش والمعارضة الشمالية: لقد تحدثنا عن أن حميدتي لديه جزء مضمون من الهامش وهذا أمر مفروغ منه. يبقى أن حميدتي قد يتمكن من شق المعارضة الشمالية وهذا أيضا إحتمال وارد، فرغم أن المعارضة الشمالية تشكل ضغط هائل لحميدتي في مناطق حواضنها الإجتماعية إلا أنه كذلك يشكل عليها ضغط كبير أيضاً قد ينهار بسببه جزء من هذه المعارضة ويتخذ جانب حميدتي بطريقة ناعمة حتى ولو بنوايا تكتيكية. ولا أدري لماذا يخطر ببالي الصادق المهدي وحزب الأمة فالرجل دائماً في خضم الصراعات يبحث عن سقف أمان عالي جداً له شخصياً ولمصالحة عامة، ولكن هذا مجرد تكهن فمن غير المعروف كيف ستجري الأمور في هذا الإتجاه. ثالثاً: إغترار حميدتي بقوته والمحاربة في جميع الإتجاهات: هذا بالتأكيد أضعف السيناريوهات، فحميدتي وطاقمه قد تجاوزوا مرحلة القتال البحت هذه - على الأقل في هذه المرحلة - وهم الآن يقطفون الثمار وغالباً لن يسمحوا لأي حماقات أو عداوات غير منطقية بأن تفسد لهم موسم الحصاد. فبالقليل من الدبلوماسية والردع الإستراتيجي (التهديد المبطن) لغرمائه في الشمال قد يستطيع أن يحقق أكبر حصاد ممكن في الشمال ويثبت من أقدامه، ويتوافق هذا مع إعمال المزيد من الدبلوماسية وإظهار النوايا الحسنة لحركات التحرر المسلحة حتى إذا لم يتم التوصل لإتفاق، وهو في حوجة لهذه المعادلة حيث أن تواجده الآن وجزء كبير من قواته بعيداً عن قواعده وعمقه الإستراتيجي ناهيك عن إستنزاف ذلك له ولطاقمه فكرياً ومعنوياً هذا غير العبء الإداري الذي لم تكن هذه القوات معتادة عليه سيجعله مكشوفاً أمام غرمائه في الهامش مما سيضعف من سلطته في الإتجاهين ويعيده خطوات كثيرة إلى الوراء هذا إذا لم يعيده هذا إلى نقطته الأولى وبالتأكيد فهو ليس بهذا الغباء ليقوم بذلك. ولكن حتماً في النهاية عليه مواجهة أحدى طرفي المعادلة. رابعاً: ما في هذه الفقرة ليس سيناريو ولكنه إمكانية من غير المعروف حتى الآن لماذا لم تقوم حركات التحرر المسلحة بصورة جادة بمحاولة تحقيقها، رغم أنه كان للمرحوم د. جون قرنق محاولات جادة فيها، ألا وهو محاولة دمج من لم ينضوي تحت راية حميدتي من عرب الغرب الرحل (بعضهم معادي له) لحركات التحرر المسلحة بصورة فعالة أو مساعدتهم في تكوين حركة خاصة بهم تقاتل جنباً إلى جنب مع حركات التحرر التقليدية المكونة في الغالب من العناصر الأفريقية الزنجية على وعد صادق بإقتسام السلطة معهم في ما بعد، سواء في سودان موحد تم قهر المركز فيه أو إذا ما قامت دارفور أو جبال النوبة بالإنفصال، فالعرب في هذين الإقليمين هما حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهم مواطنين أصيلين في هذين الإقليمين من غير العملي أو الممكن التشكيك في مواطنتهم بغض النظر عن ما حدث من مآسي كما إنهم في النهاية مهمشون عرقياً وإقتصادياً أيضاً ومن غير المصلحة فقدانهم بالكامل للمركز، ولنواجه الحقائق بشجاعة فإن هذا أحد الأسباب الرئيسية للفشل. كما إن خطوة كهذه ستعادل كفة حركات التحرر إذا ما حاول حميدتي العودة للقتال لصالح المركز من جديد أو لصالحه هو، وستجعله يفكر ملياً في وضع أجندة الهامش نصب عينيه بجدية وليس كتكتيك يحوز عن طريقه السلطة. ويجب أن نتأمل في حقيقة أن التفاوض مع الشماليين غير مجدي، وأن الزمن الذي ضاع في التفاوض معهم لو أنفقته حركات التحرر المسلحة في التفاوض مع جيرانها من العرب الرحل (وهو ما يجب أن يكون عليه الحال من الآن فصاعداً) وتكلل ذلك بالنجاح لكان قد تم حسم المركز من زمن بعيد. إن تحقق أمر كهذا يعني بكل بساطة Game over وأن على الجاك أن يتخذ ركناً قصياً بعد سحقه وتحطيمه تماماً وأن لا يظهر إلا سنوياً في مناسبة الإحتفال بهزيمته ليعدد تاريخه المخزي كدرس تاريخي يستفاد منه. وبعد أن إستعرضنا بعض السيناريوهات الممكنة يمكننا أن نضيف بأن المسرح إستراتيجياً أمام حميدتي الآن أشبه باللعبة الصفرية فهو إما أن يتحالف مع المركز ضد الهامش أو العكس، ونحن لانقول هذا الكلام من فراغ ولسنا من المؤمنين بالخيارات الصفرية ولكن هذه الخيارات عبر التاريخ هي دائماً خيارات مفروضة على اللاعبين فالعنصري لن يتقبل ضحية عنصريته إلا جبراً بينما ضحية العنصرية من المستحيل عليه أن يتقبل العنصرية ويصمت إلا جبراً أيضاً ثم تأتي أجيال وأجيال تحت التربية الصحيحة لتتقبل الآخر دون جبر (بالتأكيد المستنيرين موجودين ولكن لانعنيهم هنا ونكن لهم إحتراماً عميقاً لايمكن وصفه بالكلمات)، والحاضنة الإجتماعية للمركز سوف لن تتقبل حميدتي تحت الظروف العادية مهما فعل وسوف يكتشف هو ذلك بالطريقة الصعبة The hard way كما إكتشفه الكثيرون من قبله. وسوف أسوق لكم قصة صغيرة حدثت لي يوم التوقيع المبدئي على الإعلان الدستوري في يوم الرابع من أغسطس في خضم الإحتفالات الصاخبة التي قادها الشباب في شوارع العاصمة المثلثة والتي أعاقت الحركة عموما والمواصلات خصوصاً في الكثير من شوارع العاصمة، كنت لسوء حظي قادماً من زيارة لأحد أصدقائي في منطقة بعيدة عن منطقتي وإضطررت كغيري لإضاعة ساعات طويلة في عملية المواصلات، وأنا أقف أمام إحدى المستشفيات منتظراً للمواصلات اللعينة إياها لأكمل خط سيري والذي إضطررنا لأن نكمله سيراً على الأقدام في النهاية، وقف بجانبي رجل من أبناء الوسط والشمال النيلي منتظراً أيضاً، تدل سيماه على أنه شخص متعلم وقد إتضح هذا فعلاً ونحن نتجاذب أطراف الحديث حيث إتضح أنه يعمل كادراً طبياً في المستشفى الذي نقف أمامه وأخذ يحكي لي بمناسبة التوقيع عن رد فعل مجموعة من الطبيبات (لاحظ المستوى التعليمي) في ذلك المشفى على التوقيع سأقتبسه بالدارجي كما قاله موجها الكلام لي وهو يعتذر إعتذار حقيقي عن عدم اللياقة: (معليش يعني .. معليش ديل الطبيبات زملانا هنا يعني بعد التوقيع قالوا الناس ديل مش وقعوا خلاص؟ .. الزول ده مش وقع؟ .. ما يرجع بلدو خلاص!! تاني في شنو!!!) ثم أردف قائلاً: (أنا قلت ليهم يا بنات الكلام ده ماعيب .. ده ما الكلام الجاب المشاكل ذاتوا) ثم أكمل وهو يشير بيده إلى المحلات التجارية التي أمامنا قائلاً: (الزول ده لو ماهو كان الكيزان وكتائب الظل كسروا المحلات دي كلها وكتلوا الناس .. هو الخوف الكيزان ومنعهم مايعملوا حاجة .. بخافوا منو خوف شديد .. ). طبعاً بالتأكيد المقصود بـ (الزول) حميدتي. لقد تقبلوا حميدتي عندما كانوا يعتقدون أنه تحت قيادة البرهان وأبناء الشمال النيلي في المجلس العسكري - الذين يحاولون بإستماتة الحفاظ على شعرة معاوية بين حاضنتهم الإجتماعية من جهة وبين حميدتي وحاضنته من جهة أخرى - بعد الإطاحة بابن عوف، ورفعوا صوره في ميدان الإعتصام كبطل، وفي مخيلتهم بأنه قام بدوره الطبيعي المرسوم لأي شخص من الهامش يعمل معهم، في حماية سلطتهم الطبيعية لكي يتنازعوها براحتهم في ما بعد بعيداً عن أعين الآخرين حفاظاً على الخصوصية حيث من العيب أن ننظر أليهم وهم يمارسون حقوقهم الخاصة، أما حميدتي فقد تمت مكافأته بأن أصبح نائباً لرئيس المجلس العسكري ومن غير المتصور أنه يمكن أن تتم مكافأته بأكثر من ذلك. ولكن كانت المفاجئة والطامة عندما إكتشفوا أن الرجل هو المسيطر والحاكم الحقيقي وأن السحر قد إنقلب على الساحر هذه المرة وأصبح هو الذي يستخدم أبناء الشمال النيلي لخدمته فحدث التشنج الذي حاولوا من قبل ويحاولون أن يقنعونا الآن أنه من أجل الوطن، وهو فعلاً من أجل الوطن .. وطنهم هم. وأخيراً نقول بأن ’’الجاك‘‘ سواء أكان حرية وتغيير أو كيزان أو غيرهم سوف لن يرضى بتشليع منزله طوعاً ليقوم مكانه منزل يسع الجميع، وهو يريد أن يكون داخل المنزل الصغير المتهالك ويصدر الأوامر المطاعة لمن هم خارجه في العراء وتعوي الذئاب حولهم وهو مستمتع بذلك إيما إستمتاع ولن يبدل متعته هذه بأفخم القصور لكي يسكنها معه الآخرون على قدم المساواة. F**k the jack