حتى صاحب العقل لا يستطيع التمييز

 


 

 

العالم بستان

محمد الكي إبراهيم
 مضى علينا زمان كان الناس لا يعرفون موقع بلادنا فيخلطون بين السودان والسعودية، وأحيانا يسألونك لو أنت من فنزويلا. وأعرف حالة واقعية سألت فيها فتاة فرنسية صديقا لنا لو انه كان من الروسيا. وكان الرد التقليدي على تلك الجهالات شيئا من نوع: يقع السودان جنوب مصر.. ألا تعرف مصر؟.. انظر إلى هذا- وبسرعة خاطفة ترسم له الشكل الخارجي لأهرامات الجيزة الثلاثة.فيقول لك: يا سلام.. أنت ايطالي إذن.
 لا أعرف كيف انقرض ذلك الطراز من البشر، وحل محله أجانب واسعو الاطلاع تثقفوا بفضل الإنترنت والعولمة في فنون الجغرافيا ومجريات الأخبار وأصبحت لا تفوت عليهم شاردة أو واردة من أخبار  العالم. تلتقي بواحد من ذلك الطراز المستنير من الأجانب فيتبادل معك أو تتبادل معه كلاما عاديا عن حالة الطقس أو بطء المعاملات في إدارة الحركة والمرور أو ازدحام المحلات في ساعة الغداء، وبذلك تكون العلاقات قد توثقت بما يكفي ليسألك من أي البلاد أنت. وعندما تصارحه بحقيقتك فإنه غالبا ما يقول لك شيئا من قبيل:
- لا بد انك سعيد بوجودك خارج السودان
-لا بد انك سعيد بوجودك هنا - هل أنت من دارفور؟ - شاهدت بالأمس حلقة تلفزيونية عن بلادكم.. هل حقيقة تحدث تلك الأمور؟ أما إذا كان اللقاء في التاكسي فإن السائق يكون في العادة إفريقيا اسود، مثلك، يقدم نفسه قائلا:
- مان (يا رجل) أنا من غانا، من أين أنت؟
- من السودان
- السودان؟ اعرفه. تقضون وقتا سيئا مع العرب. رأيت في التلفزيون شريطا عن بيع الرقيق.. لا افهم كيف يقوم الأسود باسترقاق أخيه الأسود. *وكل هذه السيناريوهات باعتبار أن محدثك أو محدثتك من الناس المهذبين بيضا أو سودا. ولكن هنالك آخرون مثل الأمريكيين السود الذين لا يرغبون في التفاهم يقولون لك بلغة مستحيلة النشر أن الأمور في بلدك عجينة من الأشياء القبيحة.. ثم ينطلق لسانه بسلسلة من تلك الكلمات التي يسمونها كلمات (حرف الفاء ). ومن عجب أن الناس يفترضون انك من دارفور أو من جنوب السودان ولا يفكرون مطلقا باحتمال أن تكون واحدا من (عرب) شمال السودان، وذلك أن صورة العربي في مخيلتهم لا تطابق صورة العربي السوداني أو (ود البلد). ولقد ظللت ألاحظ أن الأشرطة التلفزيونية لا تقدم الجنجويدي إما جهلا منها أو تجاهلا مقصودا، فهو الآخر إفريقي اسود، وغالبا ما يظهر متخفيا وراء الأشجار فلا تقول الكاميرا انه جنجويد ويظن المشاهد انه مناضل إفريقي يتصدى بالسلاح لظلم الأعراب. وربما كان في الخلفية من يعرف تلك التفاصيل ولكنه يستغل الوضع ليسيء إلى العرب الحقيقيين، ويضيف إلى عنفهم ضد الغرب عنفهم ضد السود مبالغة في عزلهم في عنبر المجانين وإظهارهم بمظهر القسوة والوحشية غير المبررة.
*يقول لي صديق عربي إن السودانيين اختفوا تحت لونهم الأسمر حين أصبح الجو ساخنا بين العرب والأمريكيين وتركوا العرب بهيئاتهم المتوسطية يتعرضون لجهل الجهلاء. والواقع أن العربي يتعرض لتدقيق شديد حتى لو كان يسافر بجواز سفر أمريكي، ويتعرض الدبلوماسيون العرب للتفتيش العشوائي وما هو بعشوائي إذ انه لا يصيب إلا ذوي الأسماء العربية وذوي السحن العربية دبلوماسيين وغير دبلوماسيين. وقد حاولت أن اشرح لواحد أو اثنين إن الفرق بين الجنجويدي والفوراوي هو فرق لغوي، فالأول يتحدث العربية والآخر أيضا يتكلمها، ثم عدت وقلت: يتكلمها إلى جانب لغته الأفريقية، ثم عدت وقلت ولكنه يحذق العربية أكثر مما يحذق لغته الأم. وإذا أضفنا لذلك كونه مسلما ومتمسكا بإسلامه أكثر من الجنجويدي فإن (درب يودّر في مويه) يعني تضيع آثار الأقدام عند دخولها الماء. من كل ذلك نرى أن ما يحدث في دارفور لوثة جنون ابتلانا به الله في عصر الابتلاءات هذا، فهنالك لا نحارب أحدا سوى صورتنا في المرآة؛ نحارب أنفسنا، ندمر بيتنا بأيدينا ونلقي بمسؤولية ذلك على أمم الغرب وعلى الأمم المتحدة ومنظمات الغوث والرحمة والإنسانية

 

آراء