حتى لا تعود ريمة العربية الى قديمها !
د. على حمد إبراهيم
8 May, 2011
8 May, 2011
نحن العالم العربى ، حكاما ومحكومين ، نمثل عالما آخر ، يختلف عن عوالم الشعوب الأخرى ، ليس فى المأكل والملبس ، انما فى طرقنا السياسية . كيف يصل بعض قادتنا الى سدة الحكم . و كيف يحكمون . و كيف يخلقون المشاكل مع شعوبهم . و مع رصفائهم من حكام المعمورة الآخرين . وكيف يفشلون فى حل تلك الخلافات فى كل الاحوال ، على كثرة ما يحاولون .
مع مراعاة اليسير من الاختلافات ، وفروقات الظروف ، يصل معظم قادتنا الى سدة الحكم إما عن طريق القوة الفعلية او القوة المعنوية . ونعنى بالقوة الفعلية إمتلاك الطامع فى السلطة للسلاح ، وامتلاك القدرة على استعماله حتى يقهر الذين يحولون بينه وبين ما يطمع فيه . بمعنى أن يكون عسكريا محترفا تم تأهيله وتدريبه على حساب دافع الضريبة . و شحن ذهنه بأنه ، من دون جميع البشر ، صار مكلفا بحماية الحدود والثغور . ودافعا عن الوطن كل البلايا والرزايا حين يجد الجد . وهذا السبب وحده كفيل بأن يملأ صدره بالغرور ، و يجعل منه طاوؤسا غجريا لا ينظر تحت قدميه ابدا . ويكبر هذا الشخص المعمدان ويكبر فى ذهنه الوهم الكبير : بأنه حامى حمى الوطن . المتحزم . والمتلزم للزود عنه آناء الليل وأطراف النهار . ثم يتطور الوهم . ويحس هذا المعمدان بأنه الأحق بالمكان العالى من كل العالمين فى الوطن . خصوصا أنه حين يلتفت ، يجد قريبا منه سلاحه المشكوك عن آخره . و ينظر فى من حوله من ة خصومه فلا يرى لهم سلاحا أو منعة من أى نوع فيدعوه ذلك الى حمل سلاحه والتوجه الى بوابة القصر ، حتى اذا دان له الأمر أرسل الرسل الى محطات التلفزة والاذاعة لكى يبرطعوا فيها بالوكالة والنيابة عنه . و ينهمر سيل البيانات المتتالية باسم حامى الحمى الجديد . البيان رقم (1) يخبر البلد والعالم بأن حامى الحمى هذا قد اصبح الرئيس القائد للبلد مكرها وليس بطلا . لأن فساد الحكم القائم الذى ازكم الأنوف قد أجبره على التقدم لإنقاذ ما يمكن انقاذه من حطام البلد. و لأن العمالة و الخيانة قد استشرتا حتى ضاع البلد المنكوب ، وكاد يتسرب من بين يدى أهله الغافلين . تعقب ذلك مرحلة رص الوعود المتطاولة بالخير العميم القادم مع قدوم الوافدين الجدد ، العذريين من كل سؤ ، الناصعين الأنقياء كما الثوب الابيض من الدنس . و يلغى حامى الحمى جميع الفعاليات والكيانات السياسية من احزاب ونقابات ، واتحادات و منظمات مجتمع مدنى باعتبارها جميعا غثا وباطلا حنبريتا من ركام العهد البائد . ويصادر اموالها . وممتلكاتها ويصادر حقها فى الكلام وىالاحتجاج والتظلم . ويلغى القوانين القائمة المعارضة لهذا العك الجديد . وينشئ قوانين جديدة مقيدة للحريات العامة ، ولا تبيح من الافضاح الا الكلام المادح لحامى الحمى ، فرعون زمانه ، الذى يرى الناس ما يرى ، ولا يريهم الا سبيل الرشاد . ولأن حامى الحمى صار مالكا للاذاعة والتلفزيون والصحف ، و مالك بالضرورة للنسيم السيار ، وللنفس الطالع والنازل ، فانه يبدأ فى التو فى التصويب الاعلامى المركز ، و يشقلب كل ما كان موجودا على ظهر الارض من حقائق . حتى يصير الابيض اسودا ،ويصير الاسود ابيضا . وتدق المزيكة ويصدح ناعق الحى الجديد يخبر الناس أن الارض صارت حبورا . وصار فى الاعالى المجد . و توسدت افئدة الناس المسرة . وبعد التمكين والتمكن يتحول حامى الحمى هذا ، فيصير أحد الرؤساء الاباطرة الدائمين الذين لا ينزعهم من كرسى الحكم الا أجل الله المحسوب . او ثورة شبابية من ماركة وائل غنيم وشركائه المحدودة .
أما الوصول الى سدة الحكم والسلطان عن طريق القوة المعنوية فى عالمنا العربى ، فيتم بتوفر الشروط الموضوعية الضرورية مسبقا . كأن يكون والد الطامع فى الموقع الرئاسى رئيسا دائما ، قضى حياته كلها وهو يتقلب فى النعيم الرئاسى المقيم . حتى خطفه الموت على حين غرة أو كاد . فيرث الشبل الغضنفر العرين المحروس . و يتدلى اليه المجد من حيث يدرى ولا يدرى . ويصبح حاله ، بالدارجى الفصيح ، حال من قام من نومه ، و وجد كومه جاهزا و مقنطرا . فيصبح هو الآخر " الرئيس القائد " الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ويساق اليه المجد طوع بنانه بيسر . اذ ليس مطلوبا منه غير السير على خطى الهزبر الكاسر الراحل الذى عادة ما يترك وراءه سجونا مكدسة بالبشر . وتكون وصيته عند الرحيل أن يضرب الشبل التردد والخوف والضعف بيد من حديد . ، حتى لايترك ثغرة ينفذ منها عدو متربص من داخل الأكمة المحيطة او من خارجها . و اذا بطش بطش جبارا . فالرقة هى اخت الضعف والهوان . فمن قديم الزمان قال الناس من يهن يسهل الهوان عليه ، و لا يعود لجرح به ايلام .
و لأن أولى العزم الرؤساء الاباطرة فى عالمنا العربى يدركون هذه المسلمات ، فانك تجدهم اشاوس مغاوير ضد شعوبهم متى تحركت هذه الشعوب خارج الاطار المرسوم . ومتى رفعت العيون فوق الحواجب تعجبا واستنكارا . عندها يلبس الواحد منهم جلدا غير جلده . ويذيق الدنيا من حوله المر من نكد . ويطعمها الحصرم . ألا ترى ملك ملوك افريقيا ومفكرها الأممى وهو يبرطع فى البرية ، و يتحول فى رمشة عين الى ثور اسبانى هائج يهشم مستودع خزف المدينة الجميل . ويزهق ارواحها ، ويسيل دماءها ، لأن المدينة صاحت بوجهه وقالت انها تريد ان تشم الهواء الطلق . فاخذته العزة بالاثم ، فتحول الى فاتك من الدرجة القصوى الأولى ، وأخذ شعبه بالراجمات ، والصواريخ اخذا اليما ، شديدا ، أوجع حيث أصاب . حتى اذا شكوا من ألم ، مكر بهم ، و تبسم فى وجوههم تبسما خادعا ، وأجزلهم من القول أطيبه وانعمه ، مدعيا أنه ترك حربهم وانزوى . حتى اذا صدقوه عاد اليهم فى ظلل من الدخان الحارق ، مكشرا عن انيابه من حنق ومن غضب ، وامطرهم بالجراد الروسى ، وحصدهم حصدا ، وقطع امعاءهم بيت بيت. دار دار . شبر شبر . زنقة زنقة . فلا يكاد يبقى منهم باقية ، او يذر . يفعل هذا رغم أنه مفكر اممى بزعمه . والمفكرون يغذون الارواح ولا يفنونها . ورغم أنه عميد عمداء الرؤساء الدائمين كلهم جميعأ .
وهذا الطبيب المداوى ألا تراه و هو يستولد حزن حماه القديم . ويستولد نكبة تل الزعتر . ألا تراه وهو يرش شوارع المدن المذعورة بالدماء القانية . ويبرر قتله العشوائى للنساء و الرجال والاطفال بأنهم جميعا مخربون مندسون ، وشبيحة يسعون بالفتنة بين الشعب المحب لنظامه الذى تحاك ضده المؤامرات لأنه ذرع الشهامة القومية على الارض . ولأننا عالم آخر ، مخالف لعوالم الآخرين ، فان الاشياء لا تسمى باسمائها . فنحن لا نقول أن الناس يقتلون بمدافع الدبابات التى لا تصوب الى صدور الاعداء الصهاينة فى هضبة الجولان ، لأنهم قد اخذوا حقهم فى الكلام هذه المرة بدون أذن الرئيس . أو بدون إذن بقية الزبانية ، فخرج الكلام أشترا ونابيا ، ومتعديا للحدود المرسومة . لقد طلبوا من الطبيب الرئيس التداوى من اسقامهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية القديمة . وجعروا باصوات باكية " إعطنى حريتى ، أطلق يديا . أنا اعطيتك ، ما تركت شيئا ". ولأن فاقد الحكمة لا يعطيها ، فقد اصاب الجميع بحمقه ونزقه ، ونشر فى الارض الموت و الخراب حين وجه سلاح الشعب الى صدر الشعب ، ذلك السلاح الصامت الابكم الذى لا يعوى الا فى صدور الشعب الذى كل جرمه أنه كان يصرخ مطالبا بالحرية والكرامة . وأنه رفع صوته فوق صوت الرئيس الذى عقدت له الولاية على افئدة الناس بالأمس ، واليوم ، وغدا والى أبد الآبدين حتى يرث الله الارض ومن عليها .
أما الالعبان ، الثعلبان الآخر ، الذى يعرف كيف يلون الكلام الأجوف ويردده ، وكيف يحوره عن مواضعه فى كل ساعة وحين ، حتى لا يربط لسانه بقول قاطع فيؤخذ على حين غرة . ذاك الالعبان استمر فى القتل الشجاع . يصوب رصاصه فى الرؤس . وفى صميم القلوب التى فى الصدور وبدم بارد . لماذا . لأنهم نازعوه كرسيه الذى التصق به عقودا كثيرة ، ذاق خلالها حلاوة السلطة ورطبها . لقد اغراه فى الماضى القريب صبر شعبه الطويل عليه . حتى ظن أنه شعب قد فقد وخزة الاحساس بالألم. وفات على الالعبان الكبير أن لكل شئ حدودا . ولكل طاقة نفاذا. للصبر حدود . ولطاقة التحمل حدود . وللكذب عمر قصير . حتى اذا تجاوز السائرون فى هذه الطرق الملتوية الوعرة ، وحتى اذا تجاوزوا الحدود والمدى ، فار غضب الشعب الحليم ، وفار التنور . لقد أخذهم الطوفان ، وجرفهم سيل العرم . ففقدوا توازنهم واتزانهم . فصاروا مثل الغرقى يتشبثون بأى قشة ، يقدمون التنازلات هنا وهناك . و معها يجددون تقديم الوعود القديمة . و لكن كل ذلك ظل يقع على آذان صماء ترفض أن تسمع المزيد من الأكاذيب من كثرة ما سمعت من جعجعات لا تنتج طحينا .
أن كان من نصيحة تقدم لشباب الثورات العربية فهى ان تمضى ثورات الاجيال الصاعدة الى نهاياتها المأمولة فلا تلوى على شئ دون ذلك . وأن تسلك سبلها القاصدة بعزائم شابة و لا تلين . وأن تجرف عن طريقها كل الديناصورات التاريخية التى ظلت ماكثة فى مكانها بلا لزوم ، حتى لا تختطف ثورات الشباب هنا و هناك . وليحذر الشباب مؤامرات الديناصورات ومكرها وهى ديناصورات ذات خبرة ومراس فى سرقات نجاحات الشعوب . على الشباب المتقد ذهنا أن لا يغفل برهة واحدة . فالطرق ما زالت شاقة وطويلة ومتعرجة . وحافلة بالانحناءات والالتواءات والتعرجات . والمطبات الخطرة . لقد برزت الوجوه القديمة هذه الايام مجددا .وكشفت عن اوجهها الاقنعة الساترة ، تريد ان تعيد عقارب الساعة الى الوراء من جدبد . الحذر كل الحذر ان تجرب الاجيال الصاعدة الفرجة على تلك الافلام القديمة من جديد . فتجريب المجرب هو مضيعة للوقت وتمهيد لاعادة انتاج الازمة مرة اخرى.
وبعد : لماذا هذا الحرص الشديد على التنبيه ضد الغفلة التى قد تسمح بسرقة ثورات الاجيال الصاعدة التى تجتاح عالمنا العربى . السبب هو ما جاء فى صدر هذا المقال : هو اننا عالم آخر مختلف . يمكن أن يحدث فيه كل شئ . ويمكن أن لا يحدث فيه أى شئ ، فتعود ريمة الى قديمها !
Ali Hamad [alihamad45@hotmail.com]