حتى لا يفقد الشعب الجزء المؤلم من ذاكرته

 


 

 

الوعي والذاكرة هما من ألد أعداء الأنظمة الإستبدادية والقمعية، ولعل رواية الأديب جورج أورويل ) 1984 ( تمثل أفضل وأصدق عمل أدبي يجسد ذلك.

ببراعة فائقة وخيال جامح إبتكر السيد أورويل فكرة "وزارة الحقيقة" وهي بطبيعة الحال وزارة خيالية مهمتها تغييب وعي الشعب ورسم صورة زائفة للواقع حسب رغبة "الأخ الأكبر" الذي هو "الدولة" وذلك عبر تزوير الأحداث اليومية وتدمير ذاكرة المواطن.

السردية التاريخية لنظام الإنقاذ ) الأخ الأكبر لثلاث عقود ( مقروؤة مع كل إنتهاكاته الفظيعة وقمعه الوحشي تطابق في الكثير من التفاصيل دولة وزارة الحقيقة. وفى ظل بشاعة النسيان واللامبالاة التي نعيشها كأجيال عاصرت الإنقاذ، فإن أخشي ما أخشاه أن يتم سرقة جزء مؤلم من ذاكرتنا. ولكي لا يتم ذلك أري أن من واجبنا الوطني والإخلاقي التعاطي بجدية مع تلك الإنتهاكات وفتح فضاءات ذاكرتنا للتوثيق الدقيق وهى للأسف ذاكرة تتعرض كل يوم للتدمير والإخفاء حتي غدا ببعض جلادى الإنقاذ الذين نعرفهم جيدا أن يصبحوا ثواراً ويغتسلوا بقوة عين من آثام الإنقاذ بكل مساوئه.

تجربة الإنقاذ فريدة فى نوعها وطبيعتها وجرائمها وما من سودانى إلا وقد تأذي منه بشكل مباشر أو غير مباشر. معرفة ما حدث تعتبر من الضرورات الوطنية لأنها تسمح لنا فهم الحاضر والإستعداد للمستقبل فضلاً عن أن توثيق تلك الأحداث سيعصف بإحلام الطغاة الجدد من أرادلة وبراطمة فى العودة.

إبني وإبنك والأجيال القادمة تريد بل ولها الحق في معرفة ضحايا جرائم بيوت الأشباح، جنونبا الحبيب كيف ولماذا إنفصل وصار منقو أجنبياً، حقيقة الإبادة الجماعية في دارفور بكل آلامها التي تنيط القلوب، مشروع الجزيرة كيف كان ومن الذي دمره وسرقه، جامعة الخرطوم، سودانيير، السكك الحديدية، الخدمة المدنية، قضاء أبو رنات، من الذى غرز المسمار في رأس الدكتور علي فضل، ومن الذى قتل بولاد ومن الذي إغتصب الأستاذ أحمد خير، أين تم دفن شهداء رمضان 1989 ، القائمة تطول والذاكرة تتمدد أمام هول الجرائم التي يستغفر منها إبليس عصر كل جمعة.

إذن أهمال توثيق ما حدث يعنى بكل تأكيد خيانة للوطن، فالتوثيق يعتبر من أهم أسلحة مقاومة تزوير تاريخ الشعوب، كما أنه – اي التوثيق – يحرر الوطن من أغلال الماضي ويفتح الباب واسعاً لبناء دولة القانون والمؤسسات.

فى عام 2017 زرت مدينة كولونيا الألمانية فنصحني صديق سوداني بزيارة "مركز توثيق الجرائم النازية" القابع بساحة أبلهوف في وسط كولونيا بوصفه من أهم المتاحف والمواقع السياحية التي تثير فضول السياح.

إستخدم هذا المركز خلال الفترة من 1935 – 1945 كمقر رئيسي لجهاز الأمن السياسى المعروف بالجستابو Gestapo وقد شهد المركز عمليات تعذيب قاسية وإعدامات جماعية. خلال زيارتى شاهدت إفلام قصيرة وإستمعت لآهات الضحايا المسجلة فى أشرطة ممغنطة‘ قرأت عذابات السجناء المحفورة علي الجدران، مررت على عدد هائل من الصور والمقالات والأبحاث المؤرشفة وأخذت صور تذكارية أمام تماثيل بعض الضحايا، لقد كان مركزاً يبعث في كل من زاره شعوراً بالرهبة والحزن لكن المفرح أن الألمان تمكنوا من تثبيت ذاكرتهم التاريخية بكل مراراتها وكشفوا عن أجزاء حساسة من الحقبة النازية.

إنطلاقاً من فكرة هذا المركز والمراكز الأخري المشابهة في الكثير من الدول، آمل أن يتم تفعيل آليات حفظ ذاكرتنا علي المستوي القومي وذلك عن طريق جمع كافة المعلومات ورصد الإنتهاكات وإحصائها وتثبيتها في مخيلة الشعب قبل فوات الآوان وفى هذا الصدد أقترح ثمة خطوات محددة:

أولاً : تكوين مفوضية أو مؤسسة أو لجنة قومية ذات شخصية قانونية تتمتع بالإستقلال والحياد وتكلف بمهمة حفظ الذاكرة.

ثانياً: ترميم وتحويل مراكز الإعتقالات وبيوت الأشباح المشهورة الى متاحف ومراكز للذاكرة الوطنية.

ثالثاً: إقامة نصب تذكارى فى عاصمة كل ولاية تخليدا لضحايا الإنقاذ.

رابعا: تخصيص يوم للذاكرة

خامساً: العمل علي إعداد سجل موحد للضحايا

سادساً: الإتصال بالهيئات والمؤسسات المهتمة بحقوق الإنسان لتقديم المساعدة الفنية والمالية.

لا شك في أن إنعاش الذاكرة وتوثيقها وحفظها الإيجابي والمهني يضمن المصالحة الفعلية بين الدولة والمواطن ويؤسس لقيام الدولة التي نتطلع إليها كما أنه يضمن عدم تكرار الإنتهاكات، علماً بأن حفظ الذاكرة يأتي من ضمن مسارات العدالة الإنتقالية ومن التوثيق ينطلق القضاء.

عبدالرحمن حسين دوسة
مستشار قانوني

hatemgader@yahoo.com
///////////////////////////

 

آراء