حديثٌ في القيادة … وفي الابتزاز !. بقلم: صديق عبد الهادي

 


 

 

عشية انعقاد المؤتمرالخامس للحزب الشيوعي
حديثٌ في القيادة ... وفي الابتزاز !.
الحلقة الاولى

Siddiq01@gmail.com
واحدٌ و اربعون عاماً و ثلاثة اشهر بالتقريب اخذت المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي لاجل الانعقاد، و حدثُ الانعقاد ذلك يُدخل علي النفس الكثير من الغبطة و التفاؤل، خاصة و ان المناقشات حوله استمرت لاكثر من عشر سنوات حيث ارتبطت بشكلٍ جاد بفتح المناقشة العامة حول "متغيرات العصر" في اوائل التسعينات من القرن الماضي. و لكن من الملاحظ ان الكثير من المداد اهرق في الفترة الاخيرة حول المؤتمر، و ان الصحف السودانية فتحت ابوابها و صفحاتها لتناول قضايا الحزب الشيوعي ، و في ذلك بالقطع مدعاة للارتياح و الفرح ايضاً، لانه يقف دليل عافية علي ان الاصل في الحياة السياسية في السودان او إن شئت الفكرية فيه، و المتمثل في قبول التنوع و الاحتفاء به  و من ثمّ  التفاعل معه، ما زال يحتفظ بوميضه رغم إستطالة آماد العنف و التسلط ، و لكنه دائماً ما يسطع كما كان، بل  و بقوة كلما فجّ عنه ذلك الركام.
انفتحت الصحف ليست للمقالات و الكتابات فقط و انما للحوارات الطويلة لعددٍ من الشيوعيين او ممنْ ارتبطوا بالحزب الشيوعي و الحركة الوطنية الديمقراطية بشكلٍ عام في السودان. و قد اسهم الصديق الاستاذ تاج السر عثمان بابو بالكثير من جملة تلك الكتابات و الحوارات. فهو رجلٌ مطلع، و لمنْ لا يعرفونه فهو جمُّ الادب. مجادلٌ خفيض الصوت و توّاقٌ للمعرفة. اعرف عنه ذلك منذ ان تعاصرنا في جامعة الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي.
اثار الاستاذ السر بابو في كتاباته و  حوارته العديد من القضايا، من بينها قضايا ستكون اساسية في المؤتمر، و لكن لا ضير من مناقشتها استباقاً كما فعل هو و كذلك تبيان الاختلاف معه حولها. ومن بين تلك القضايا، اولاً/ قضية القيادة، ثانياً/ بعض المفاهيم الماركسية، و ثالثاً/ الثقافة التي تحكم الحزب كمؤسسة و علاقة ذلك بالتغيير و بالابتزاز.  
في القيادة/
هذه واحدة من القضايا التي حظيت باهتمام اقل من تناول الاستاذ السر بابو لها إذا ما قورنت بقضايا اخرى. إن القيادة في ادب الحزب تاريخياً مربوطة و بشكل اساس  بالالتزام الآيديولوجي و في ذلك لابد ان يكون التزاماً صارماً، و ذلك ما يعبر عنه الاستاذ السر بابو في تناوله لهذه القضية الحيوية. ثم ان هناك تشويشاً يصل حد الخلط  يجعل من الصعب جداً فهم ما المقصود بالقيادة؟ هل هي مجموعة الناس الذين يديرون الحزب؟ ام مجموعة الشروط اللازم توفرها لانتاج قيادة فاعلة إن كان علي مستوى الفرد او الجماعة؟، فمثلاً ففي حواره الاخير مع جريدة الصحافة بتاريخ 3  يناير 2009م و في معالجته للانقسام الذي حدث في اغسطس 1970م يقول:  
"وكان هذا اكبر انقسام تقريبا في تاريخ الحزب فقد انقسم 12 عضوا من اعضاء اللجنة المركزية وفعلا هذا اثبت وجود خلل في القيادة مازالت تداعياته مستمرة حتى الآن".
لا احد يمكنه ان يفهم ما الذي يرمي اليه الاستاذ السر. في حقيقة الامر ما كنت سارمي باي لائمة عليه لولا محاولته استخدام ذلك التشويش كجزء اساس في معركته ضد ما يسميه "اليمين التصفوي". و لماذا كنت لا الومه؟ لان هذه القضية ـ اي القيادة ـ و قضايا اخرى ليس للحزب الشيوعي ارث غني في تناولها و دراستها كمجال علمي.
 إن قضية "القيادة" هي علم بكل ما تحمله الكلمة من معنى. اصبحت القيادة علم و مجال للتخصص يُدرس في الجامعات و مؤسسات التعليم و مراكز البحوث مثله و اي مجال تخصصي آخر و تُمنح فيه الدرجات العلمية. و قد اضحت له شروطه العامة غض النظر عن مجال تطبيقه إن كان في مؤسسة خاصة، انتاجية كانت او خدمية، او في منظمات مجتمع مدني إن كانت منظمة حقوق انسان او حزب سياسي،في منظمات نشاط خيري او قوات مسلحة...الخ. و من بعد هذه الشروط العامة تاتي الشروط الخاصة و التي تتعلق بطبيعة المجال المحدد و مؤسساته،إن كانت سياسية كالاحزاب، او خيرية كجمعيات حماية المستهلك.
و لهذا العلم مدارس مختلفة و مفكرين مختلفين، و نظرياتٍ مختلفة تطورت عبر التاريخ مثلها و بقية النظريات في علوم الاجتماع و السياسة وغيرها. و إرتبطت هذه النظريات بحقبها التاريخية، بدءاً بعصر الميزات الشخصية المتفردة، مروراً بالنمطية و إنتهاءاً بنظريات العصر الحديث التي تنظر لقضية القيادة من جوانب متعددة منها ، و ليس حصراً علي، ديمقراطية القيادة، النزوع للتشاور و المشورة،النزوع الي التغيير، الهام الآخرين، و المقدرة علي التجديد المستمر في الرؤي و استنباط الحلول....الخ.و كل هذه علوم تُدرس و لا تُورث،  و من ثمّ يتم عليها التدريب و الصقل بالممارسة. في حياة الحزب الشيوعي لا وجود لذلك و لحدٍ كبير ليس لان هناك من له السطوة ليعمل ضدها وبشكلٍ مطلق و انما لغياب المعرفة بها كعلوم حديثة، ثمّ انه لطبيعة العمل العقيم الذي صرف الحزب من ان يكون حزباً للتجديد. و لاشك لدي ابداً في ان الحركات الاسلامية علي طول العالم تنتفع بتلك العلوم و لا ادلّ علي ذلك من توفرها علي صفوف غير محدودة من القيادات الشابة. و السودان خير دليلٍ علي ذلك.
إن نصيب الفكر التقدمي بشكلٍ عام و الماركسي  علي وجه التحديد في التنظير حول مفهوم القيادة الحديث ضئيل، بل و فقير، و مرد ذلك قد يكون لاسبابٍ عدة و لكن ابرزها المنظور الآيديولوجي المتمثل في الموقف من "دور الفرد" في التاريخ، و هو دورٌ متقزِم و مهما بلغ شأنه، و لكن الغريب في الامر ان النظم الاشتراكية و الاحزاب الشيوعية و الماركسية تقودها قيادات تاريخية و لحقبٍ طويلة من السنوات. بالطبع هذا تناقضٌ لا تحله الايديولوجيا التي صنعته!!!، و إنما يحله الانفتاح و التعاطي مع مجالات  المعرفة الحديثة التي تتخطى الايديولوجيا و مكنيكيتها.
كل ذلك لا يتحدث عنه الاستاذ السر، لانه مهموم بخطر "التصفية اليمينية"، و لكن في اعتقادي ليست هناك من تصفية حقيقة للحزب الشيوعي  و اي حزب آخر، إن شئت، غير انعدام تلك المواصفات للقيادة العصرية و غيابها.
و إذا ما قسنا إشارة الاستاذ السر حول "الخلل في القيادة" بما ذكرناه حول مفهوم القيادة ، فإننا لا نخرج سوى بنتيجة واحدة و هي ان التطابق الايديولوجي و التواؤم في الرؤى هو شرط القيادة الفاعلة، و لكن في حقيقة الامر ذلك لا يخلق حزباً او تنظيماً فاعلاً، و لك في الستالينية و معظم احزاب شرق اوربا السالفة اسوة سيئة!!!.
إن التعامل مع هذه القضية من زاوية الايديولوجيا كشرط اساس قد اقعد الحزب من التصدي الصحيح لها، و بالنتيجة فشل الحزب لوقتٍ طويل في خلق قيادات، و لكنه نجح في خلق إداريين من الطراز الاول. و هناك فرق كبير بين القيادة و الادارة. و ذلك امر سنعالجه عند الحديث عن الثقافة التي تحكم الحزب كمؤسسة.

 

آراء