حزب السودان الجديد، الذي يتطلع إليه الشعب ويُريد
توطئة وتمهيـد:
لا شك أن إنفصال جنوب السودان سوف يقود حتماً إلى بروز واقع سياسي جديد في السودان يستدعي إعادة النظر في الرؤى والبرامج السياسية لكافة التنظيمات السياسية بصفة عامة، والحركة الشعبية بقطاعيها الجنوبي والشمالي بصفة خاصة، كما أن هذا الواقع السياسي الجديد يتطلب أيضاً وبالضرورة تعديلاً في ُالأُطُر والهياكل والأوعية التنظيمية (أو ربما إنشاء هياكل وتنظيمات سياسية جديدة تماماً) تكون قادرة على حمل أفكار ورؤى وبرامج قوى السودان الجديد مُستفيدة من تجربة الماضي البعيد والقريب بإيجابياتها العديدة التي لا تخفى على أحد وسلبياتها التي تجسدت في إختيار شعب الجنوب للإنفصال بعد يأسه من إصلاح الحال وفشله في تحقيق الوحدة على أُسس جديدة (الوحدة الجاذبة). يتطلب الإقرار بهذه الحقائق إعادة النظر في الوعاء التنظيمي الحامل لرؤية السودان الجديد وبالتالي إبتداع إطار تنظيمي أكثر فعالية وواقعية وديمقراطية بحيث يكون قادراً على التبشير بهذه الرؤية الجديدة والترويج لها وصولاً إلى وضعها موضع التطبيق الفعلي عبر إكتساب التفويض الشعبي والإرادة الشعبية التي يتم التعبير عنهما من خلال الإنتخابات الديمقراطية الحُرة النزيهة والشفافة، وهو ما أُصطلح على تسميته بالتحول الديمقراطي في دولة تستند على حُكم القانون والنظام وتتأسس فيها الحقوق والواجبات على المواطنة، دون إمتياز لعرق أو دين أو جهة أو لون.
لقد ظل السودان منذ ما قبل الإستقلال مُتجاذباً بين رؤية القوى التقليدية (مُمثلة في الأحزاب الطائفية) والتي ترى في السودان دولة عربية/إسلامية خالصة وبالتالي تعتقد بقناعة لا يعوزها الإستعلاءٍ، أن على بقية شعوبه وأعراقه ومكوناته الإجتماعية الإرتقاء للإلتحاق بهذه المجموعة المتقدمة وذلك عبر الأسلمة والعربنة اللتان تجليتا بصورة صارخة في المشروع الحضاري وروافعه من جهاد وتعريب وغيره، ولقد تباينت هذه الرؤية الشوفينية الآحادية الإقصائية مع رؤية القوى الوطنية والديمقراطية التي ترى في السودان أُمة سودانية في طور التشكيل الناتج عن تلاقح عربي/إفريقي وتمازج ديني وعرقي وثقافي شديد الخصوصية، وعادات وتقاليد باذخة الثراء والتنوع.
ولكن ونتيجة للهيمنة الإقتصادية للقوى العربوإسلامية وما نالته نُخب الوسط النيلي من تعليم مُتقدم نسبياً مُقارنة ببقية الأقاليم الطرفية، وسيطرتها شبه المُطلقة على المؤسسة العسكرية التي حكمت السودان لأكثر من أربعين عاماً بعد الإستقلال عام 1956 (6+16+22= 44÷ 55) أي بنسبة أكثر من 80%، سادت رؤية الجماعة العربية/الإسلامية رغم المقاومة والرفض القوي الذي أبدته المجموعات السودانية الاُخرى، والتي لم تستكن للإسترقاق والتهميش والإلحاق، وتجسد هذا الرفض في تفجر التمرد الجنوبي قُبيل الإستقلال مُباشرة (أحداث توريت، أغسطس 1955)، وتشكلت من بعد ذلك عدة تنظيمات وهيئات شعبية رافضة للتبعية والهيمنة، إبتداءً بجبهة القوى السوداء وحركة نهضة دارفور وحركة سوني ومؤتمر البجة وإتحاد عام جبال النوبة وغيرها من التنظيمات الجهوية التي ربطت بينها مطالب العدالة والمساواة وإحترام حقوق مكونات المجتمع السوداني غير العربية وغير المُسلمة، وإزاء فشل الأحزاب التقليدية والعقائدية في التعبير عن رغبات وأماني هذه القوى المُهمشة إقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً، لم تجد هذه الأغلبية المُهمشة بداً من حمل السلاح ونيل الحقوق غلاباً، ونعني بذلك الحركات المُسلحة جنوباً في بادئ الأمر، وشرقاً وغرباً في العقد الأخير، ولا تزال الحركات المُسلحة تتناسل فجر كُل يوم جديد، وسوف يستمر مسلسل التناسل والتنازع طالما ظلت مُسبباته قائمة، ولن يكون إنفصال الجنوب خاتمة الأحزان.
لقد تمكن المُفكر السوداني الراحل/ د. جون قرنق، (عبر التحليل الإقتصادي والسياسي الثاقب) من معرفة العوامل التي أدت إلى إستمرار وتسارع وتيرة النزاعات السودانية وبناء على ذلك تمكن من طرح رؤية مُتكاملة وحلول شاملة للأزمة الوطنية السودانية في الجنوب والغرب وكافة أقاليم الهامش، وصك مُصطلح السودان الجديد الديمقراطي القائم على الوحدة مع التنوع، والمُشاركة في الثروة والسُلطة وإحترام كافة مكونات المُجتمع السوداني دون إستعلاء أو إقصاء، بإعتبار هذه المبادئ ترياقاً ناجعاً لعلاج الأزمة الوطنية في كافة أقاليم الهامش السوداني، وليس الجنوب وحده.
إن الغرض من هذه الورقة هو محاولة الإسهام في صياغة برنامج ورؤية للسودان الجديد بعد إنفصال الجنوب، وفي هذا الصدد نرى أنه من الضروري الغوص عميقاً في التاريخ السياسي السوداني وتناوله من منظور إقتصادي (أو ما يمكن أن نُسميه التفسير الإقتصادي للتاريخ) الذي يومئ إلى أن جذور نزاعات السودان تكمُن في الثلاثة عوامل المذكورة تالياً:
1)- تخلف وسائل الإنتاج في ظل عالم شهد ثورة تقنية وعلمية هائلة ومنافسة شرسة وعولمة إقتصادية وسياسية لا ترحم من يفشل في مواكبة هذه المُتغيرات المُذهلة التي إنتظمت الكون خلال االقرن الأخير، وبما أن الفجوة التقنية بالسودان (خاصةً في مجال الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني) ظلت تتسع ولا تتجسر، إزدادت حدة الفقر وما يتبعه من نزوح داخلي وهجرة خارجية وآفات وأمراض إجتماعية اُخرى، خاصة في ولايات الجنوب والغرب الأكثر تهميشاً من بقية الولايات الاُخرى والتي تقل فيها المشروعات القومية الكُبرى، مما أدى إلى تدهور الإنتاج (كماً ونوعاً) تدهوراً كبيراً نتيجة لإستخدام الأساليب الزراعية البدائية كالحشاشة، الطورية، الملود، السُلكاب،، ومقاومة الآفات والأمراض الزراعية بطرق مُكافحة عفا الدهر عليها وتجاوزها بقرون.
إن تغيير هذا الواقع يتطلب ثورة علمية جادة تتمثل في إستخدام نُظُم الري الحديث والبذور المُحسنة والأسمدة العضوية والكيميائية والآليات الزراعية والوقاية من الآفات الزراعية، وتوفير التمويل من خلال بنوك ومؤسسات تعاونية تضع مصلحة المُزارع والراعي (أي المُنتج البسيط) على رأس أولوياتها.
2)- جمود وعدم تطور علاقات الإنتاج في القطاعين الزراعي التقليدي والحديث على السواء: ونعني بذلك العلاقة بين المُنتج الفعلي على مستوى الحقل، والوسطاء والتجار على مستوى السوق (أسواق المحاصيل والمواشي) والسُلطة الرسمية مُمثلة في مؤسسات الدولة ذات الصلة (وزارات الزراعة، البنوك، إدارات الضرائب،،، إلخ). وللأسف الشديد فقد تحجرت وتجمدت علاقات الإنتاج ولم تستطع مواكبة المُتغيرات المحلية والعالمية في قطاعي الزراعة المطرية (يدوية كانت أو آلية)، والزراعة المروية (مشروع الجزيرة مثالاً). ففي قطاع الزراعة المطرية الإعاشية (Subsistence Agriculture) تدهور الإنتاج كماً ونوعاً ومع ذلك إرتفعت الضرائب والمكوس وتحولت الدولة إلى مؤسسة جباية كُل همها تحصيل الربط المُقدر، وأهملت واجبها الأول المُتمثل في تحسين بيئة الإنتاج وتوفير الحد الأدنى من مُدخلات الإنتاج وتقديم الخدمات اللازمة للحفاظ على دُجاجة الريف التي تبيض ذهباً. أما في القطاع المروي الحديث فقد فشلت الدولة في الوصول إلى توافق ينظم الحقوق والواجبات بين العناصر البشرية للإنتاج، وبعد التخلي عن نظام الحساب المُشترك (الموروث عن الإستعمار) وتجريب عدة أنظمة لتأطير علاقات الإنتاج، لم تفلح إدارة المشاريع المروية في الوصول إلى علاقة متوازنة مع المُنتجين بسبب سيطرة العقلية النهبية والجبائية للقائمين على أمر الإدارة وشئون الحُكم في البلاد.
وللمفارقة ففي الوقت الذي سادت فيه هذه العلاقة النهبية بين المُنتج والدولة داخلياً في السودان، كان العالم الخارجي يشهد تطوراً إيجابياً مُذهلاً في تطور وسائل الإناج والعلاقة بين المُنتجين وحكوماتهم، تمثل في تقديم الدعم والمعونات الزراعية (العينية والمادية) للمُزارعين والمنتجين في أمريكا وأوروبا وغيرها من دول العالم المتقدم، ولذلك فعندما طالبت الدول النامية نُطرائها في الدول المُتقدمة برفع الدعم عن مُزارعيها، ردت الأخيرة بمنطق شديد الإقناع بأن على الدول النامية والمتخلفة أن تتوقف عن فرض الجبايات والضرائب على منتجيها أولاً، إن لم تكن قادرة على دعمهم (مفاوضات مُنظمة التجارة العالمية- WTO). نتج عن إختلال معادلة علاقات الإنتاج استحالة المُنافسة في الأسواق العالمية، وأصبح من الأجدى إقتصادياً إستيراد الطماطم من إيطاليا بدلاً عن إنتاجها في ودرملي، وإستيراد القمح من أُستراليا (لمطاحن ويتا وسيقا) بدلاً عن زراعته في مشروع الجزيرة. كما أدى هذا الإختلال إلى هجرة ونزوح المُنتجين من الريف وتحولهم إلى مُستهلكين مُهمشين في أطراف المُدن، وإلى مُحاربين في جيوش الحركات الرافضة، وإلى وقود ورصيد جاهز للثورة القادمة لا ريب فيها.
3)- التدهور البيئي ودوره الكبير في مُفاقمة النزاعات وتدني المستوى المعيشي:
ترافق تخلف وسائل الإنتاج وعدم عدالة علاقات الإنتاج مع تدهور بيئي تسارعت وتيرته خلال الخمسين عاماً الأخيرة، ولعدم وجود أي جهود جادة لمواجهته والتخفيف من آثاره السالبة، حدثت المجاعات والهجرات الجماعية والإنقلاب الهائل في سُبُل كسب عيش الأغلبية من أبناء الشعب السوداني. وإذا ما وضعنا في الإعتبار أن المدن السودانية ليست بؤر إنتاج فعلي أو مراكز خدمات عالمية أو مزارات سياحية أو أسواق مالية تستقطب الإستثمارات الأجنبية، وإنما هي مُجرد تجمعات طُفيلية (سماسرة وعطالة مُقنعة من الأفندية) تعيش على عرق الكادحين الذين يشدخون أحشاء الأرض بسواعدهم المعروقة العجفاء من آثار الملاريا والبلهارسيا وغيرها من أمراض القرون الوسطى، أدركنا سبب تدهور مستوى المعيشة وتفشي الفقر وتلاشي الطبقة الوسطى وإضمحلال الريادة في مجالات الفنون والآداب والثقافة والرياضة وشتى ضروب التميُز الإبداعي. ولذلك ليس من العسير إثبات أن هُنالك علاقة عكسية بين تدهور الإنتاج والإنتاجية من جانب، وتفاقم النزاعات من جانب آخر (أي كُلما قلت كمية الإنتاج وانخفض مُعدل الإنتاجية كُلما زادت وتفاقمت وارتفعت وتيرة النزاعات)، فبجانب الإحصائيات والبيانات التي يمكن الحصول من إدارة الإحصاء الزراعي لإثبات هذه الفرضية دون كثير عناء أو غموض، فإن التاريخ يؤكد أن دخول العرب إلى السودان وإستيطانهم فيه لم يواجه بمقاومة وتنازع كبير، وذلك بسبب توفر الموارد الطبيعية الفائضة عن الحاجة، ولم يحدث إستثناء في هذه القاعدة إلا عندما حاول الوافدون الجُدد إسترقاق مُضيفيهم.
يتبين من هذا السرد التحليلي الموجز أن جذور نزاعات السودان تكمن في العوامل الإقتصادية المُترافقة مع التدهور البيئي في ظل فشل الدولة في إدارة النزاعات وشئون الحُكم (لأسباب شتى منها الذاتي والموضوعي) وعموماً فإن النزاعات في الدول النامية (أو بالأحرى والأصح المُتخلفة) ليست نتاج صراع هويات تتصل بالعرق أو الدين أو اللغة، وإنما هذه تباينات يتم الإستعانة بها لاحقاً كملاذ للحماية في حال فشل الدولة في إدارة التحديات الإقتصادية الثلاثة الآنفة الذكر، ومن ثم تحوير الأزمة بإستخدام قضايا الهوية والعرق والدين واللُغة وإقحامها عمداً في الصراع السياسي والنزاع العسكري وإستغلالها كمسوغات لتبرير إستمرار السيطرة والهيمنة الإقتصادية، وفي هذا الصدد يُعد المشروع الحضاري (بما اشتمل عليه من جهاد وهوس وأساطير) مثالاً ساطعاً لتبرير الهيمنة العربوإسلامية، وإلباسها ثوب قداسة دينية لإرهاب وقهر وقمع المُعارضين، وتصوير أمر المُعارضة وكأنها إعتراض على أوامر ونواهي رب العباد وليس خلافاً سياسياً حول قضايا دنيوية بحتة.
لذا فإن علاج المُشكل الإقتصادي لن يتم إلا عبر تطبيق رؤية السودان الجديد المُتمثلة في المُشاركة في الثروة والسُلطة بمفهومهما العميق، وعدم إقتصار فهمهما على المُحاصصة. وهذا بدوره يقودنا مُباشرة إلى تناول مفهومي المُشاركة في السُلطة وعدالة توزيع الثروة (إن وجدت) ، إذ ينبغي إزالة سوء الفهم الذي شاب هذين المفهومين (عن حُسن نية حيناً وسوئها في الغالب الأعم)، وتأكيد أن المُشاركة في السُلطة وتقاسم الثروة لن تتأتى إلا عبر التحول الديمقراطي الحقيقي (المداميك الثلاثة لإتفاقية السلام الشامل). وبإختصار شديد فقد لحق بمفهوم ومُصطلح المُشاركة في السُلطة خلط وتشويه شديد وتم تصويره وكأن المقصود به تقسيم المناصب الوزارية والدستورية وفق نسب حسابية على أساس الجهة أو العرق أو الدين أو الإنتماء السياسي، وأعتقد أن هذا الفهم المغلوط (والشائع) يُعد تفريغاً كاملاً لهذا المُصطلح من مغزاه العميق وتحويله إلى مُحاصصة تعزز وتُعمق الإنقسام والتشرذم، فجوهر المُشاركة في السُلطة لا يعني أكثر من مُشاركة القواعد الجماهيرية (على مخُتلف مسمياتها وتنوعها) في عملية صُنع القرار، وتعني أيضاً أن تتدرج القرارات من أسفل إلى أعلا (كما ينساب الماء من الجذور إلى الأوراق في النباتات - الخاصية الشعرية في علم الطبيعة). كما نزعم أن المُشاركة في الثروة لا تعني فرز الكيمان وتكبير الأنصبة (إقتسام الإيرادات النفطية، وعائدات الذهب والمشاريع القومية وغيرها)، وإنما تعني إيجاد (أو خلق) هذه الثروة أولاً ثُم إيجاد علاقات إنتاج عادلة تعطي كُل ذي حقٍ حقه (كما أسلفنا)، وأن يتم كُل ذلك في إطار ديمقراطي قائم على المواطنة السودانوية المتساوية في الحق والواجب.
ولأجل وضع برنامج ورؤية شاملة لقوى السودان الجديد لا بُد من القيام بالآتي:
أولاً- مُمارسة النقد والنقد الذاتي:
دراسة وتمحيص (وغربلة) تجرُبة الحركة الشعبية (حاملة لواء السودان الجديد) مُنذ إنشائها عام 1983 وحتى إنفصال الجنوب 2011 (28 عاماً) جرت فيها مياهاً كثيرةً تحت الجسور وخاضت فيها الحركة صراعات وتلقت هزائم وأحرزت إنتصارات عديدة وتقلبت فيها المواقف يُمنة ويسرةً. ولعله من الأوفق أن يقوم من يعنيهم الشأن والذين خاضوا غمار هذه التجربة (من ألفِها إلى يائها) بإجراء نقد ذاتي صريح وشفاف وتقييم موضوعي تُستخلص منه العبر والدروس التي تعين على إقامة تنظيم جماهيري واسع وعريض (كرش فيل)، ويجب أن يتركز التقييم على فترة الستة سنوات التي شاركت خلالها الحركة الشعبية في حُكم السودان وانفردت بحُكم جنوبه (2005-2011). ويجب أن تشتمل المُراجعة والنقد الذاتي على القضايا التالية:
i. مُهادنة التيار الوحدوي بالحركة الشعبية لدُعاة الإنفصال (القوميين الجنوبيين) وإستسلامهم الكامل لمراوغات وغموض قيادة الحركة الشعبية مُمثلة في رئيسها سلفاكير ونائبه ريك مشار، بل أن قطاع الشمال بدا في بعض الأحيان ملكياً أكثر من الملك ذاته، وكان الأحرى بالوحدويين إتخاذ موقف أكثر صرامةً ومبدأيةً حتى ولو أدى الأمر إلى فرز المواقع، بدلاً عن إيجاد المُبررات والإكتفاء بتحميل الأمر للمؤتمر الوطني، الذي لا يجادل أحد في أنه المسئول الأول والراغب فعلاً في الإنفصال.
ii. سوء إدارة العملية الإنتخابية التي أعطت إنطباعاً بأن أمر التحول الديمقراطي يأتي في آخر قائمة إهتمامات الحركة الشعبية، ودليلنا على ذلك أنها لم تتعامل بجدية مع مسألة الإستفتاء والإعداد له بطريقة جادة، فقد قررت الحركة بعد صمت طويل تسمية السيد/ ياسر عرمان، مُرشحها لرئاسة الجمهورية، مما أرسل رسالة خاطئة فحواها أن أمر الوحدة ورئاسة الجمهورية شأن شمالي يخُص الشماليين في الحركة (قطاع الشمال) لذا فإن قيادة الحركة لم تود المُغامرة بخوض الإنتخابات، ولئن كان ترشُح ياسر عرمان خطأً جسيماً فإن إنسحابه بتلك الطريقة العجيبة خطيئة أكثر جسامةً، ولذلك فالمطلوب إعداد تقييم صريح وشفاف لهذه التجربة ومكاشفة جماهير الحركة في الشمال (قوى السودان الجديد) بالأسباب والمُبررات والدوافع الحقيقية لذلك الموقف الذي أضر كثيراً بمصداقية الحركة عموماً وقطاع الاشمال خصوصاً والرفيق/ ياسر عرمان على الأخص.
iii. مُمارسة العمل اليومي بطريقة تقليدية أقرب إلى البيروقراطية والنخبوية والإبتعاد عن العمل الشعبي المُلتحم بالجماهير، ومن ثم تغييب هيئات الحوار والمؤسسية وطُغيان الفردية والشللية في أحسن الأحوال، وبالتالي رسخ في أذهان العامة أن قطاع الشمال يعني ياسر عرمان وعدداً محدوداً من مُشايعيه، مما سهل من مهمة خصومهم في إستهدافهم والنيل منهم بالحق وبالباطل.
iv. الفشل في المحافظة على الزخم الذي خلفه الحضور المُذهل للراحل/ جون قرنق، للخرطوم (يجب تحليل أسباب الفشل وعدم الإكتفاء بإرجاع الأمر إلى الرحيل الفاجع للزعيم)، وفي تقديرنا أن عدم مصداقية قيادة الحركة وبالتالي تضعضع الثقة في قيادة قطاع الشمال من أهم الأسباب. فالجماهير التي هبت لإستقبال قرنق وتدافعت للإنضواء تحت لواء الحركة الشعبية كانت تُدرك بحدسها الفطري "الذي لا يُخيب" أن مسألة الوحدة قضية مبدأية وإستراتيجية في فكر زعيمها قرنق، وأن خلفه يأخذ المسألة من منظور تكتيكي ويتعامل معها إنطلاقاً من خلفيته كضابط إستخبارات وليس كمُفكر إستراتيجي مُقتنع بالوحدة ومُستعد للنضال من أجلها لدرجة مُحاربة الزملاء المؤسسين (كما فعل قرنق عقب إنقلاب الناصر عام 1991).
v. تقييم تجربة التجمع الوطني الديمقراطي تقييماً صادقاً والرد على الإتهامات الموجهة للحركة الشعبية بأنها باعت التجمع الوطني، ولم تُصر بما فيه الكفاية على إشراكه في المفاوضات التي أفضت إلى إتفاقية السلام الشامل، مما جعل الإتفاقية تبدو وكأنها صفقة ثُنائية وليس شاملة كما يشي إسمها.
vi. تقييم إدارة العلاقة مع عضوية الحركة المنحدرة من جبال النوبة والنيل الأزرق، وهل تُعتبر المشورة الشعبية حلاً كافياً للنزاع في هذين المنطقتين؟؟!!، وماهي البدائل المُقترحة للخروج من النفق المُظلم الذي تجتازه هاتان المنطقتان حالياً، وتفادي تكرار سيناريو جنوب السودان، وتحول النيل الأزرق وجبال النوبة إلى جنوب جديد (يُرجى الرجوع إلى مقالنا قبل عامين بعنوان: مسرح الحرب القادمة – الجنوب الجديد لسودان حمدي القديم- سودانايل/أجراس الحُرية).
vii. التأمل في لجوء الحركة الشعبية إلى الإجتماعات المُغلقة بدلاً عن الإنفتاح على الجماهير ومُصارحتها والإستعانة بها إن لزم الأمر، وقد تجلى هذا المسلك الفوقي في موقف الحركة من التعداد السُكاني ومُشكلة أبيي وقوانين التحول الديمقراطي والمشورة الشعبية،،، إلخ، ففي كُل مرة كانت الحركة تُفضل الإستعانة بالقوى الخارجية وإجراء المحُادثات الثُنائية (خارطة الطريق، المصفوفة،،، إلخ) دون أن تدعو جماهيرها إلى الخروج إلى الشارع في مسيرات سلمية، حيث أثبتت تجارب الثورات العربية أن هذا أنجع سبيل لفرض الإرادة الشعبية وإنتزاع الحقوق.
viii. عدم تدقيق الحركة في تاريخ ونوايا غُثاء السيل الذي اندفع إليها طلباً للمنصب والوظيفة بعد أن أصبحت مراعيها أكثر إخضراراً "أولئك الذين يُسارعون عند الطمع ويتثاقلون عند الفزع"، وعموماً لا يزال في الوقت مُتسع للغربلة وتنظيف جسد قوى السودان الجديد من البراغيث والطفيليين، حتى وإن تشدقوا بالكلمات الثورية.
النقاط المذكورة أعلاه لا تعني البتة أن قطاع الشمال بالحركة الشعبية لم ينجز أي أعمال إيجابية، ولكننا نرى مُناقشة هذه السلبيات دون أن نغمط المُناضلين أشياءهم، فمن حمل روحه على كفه لربع قرن من الزمان لا يُمكن أن يُجحد فضله، أو يُشكك في مواقفه.
ثانياً: تعديل أُسس التحالفات السياسية:
a) لقد أثبتت التجربة خطل التحالف مع القوى السياسية الأُخرى على أساس برامج الحد الأدنى واتضح أنها نظرة ضيقة الأفق وقصيرة النظر إذ أنها تقوم على تقديم التكتيكي على الإستراتيجي، ويغلب عليها النزعة الإنتهازية الآنية، فالأجدى التحالف على أساس الرؤية والأهداف النهائية، ويتجسد هذا المسلك الملتبس عملياً في سهولة وإستمرار التنسيق مع الأحزاب التقليدية وأحزاب الطائفية الدينية ( توقيع مذكرة التفاهم من حزب المؤتمر الشعبي) والتجمع الوطني الديمقراطي ثُم أخيراً تحالف قوى الإجماع الوطني (تحالف أحزاب جوبا)، مع ملاحظة مُفارقة إنعدام الحوار مع الأحزاب التي تحمل رؤية السودان الجديد وعلى رأسها الحزب الشيوعي (رغم أخذنا في الإعتبار ما يمر به الحزب الشيوعي من تحجر ورجعية في الفكر والممارسة). ولذلك تفشل هذه التحالفات حتى في إنجاز برامج الحد الأدنى (إسقاط النظام مثلاً).
b) التركيز على التحالف مع منظمات المُجتمع المدني، وخاصةً تنظيمات الشباب والمرأة، وقوى الشباب والتغيير في الأحزاب التقليدية (الأُمة، الإتحادي والشيوعي) وذلك عبر الحوار (وليس من خلال التآمر ومحاولات الهيمنة) وتقديم برنامج تفصيلي يتناول ويقترح الحلول العملية دون توهان في المُصطلحات الفلسفية والتعميم الضار. ففي حالة التعاطي مع قضايا المرأة ينبغي إعداد وطرح قانون جديد للأحوال الشخصية (بالإستعانة بقوانين الأحوال الشخصية في تونس ومصر وتُركيا) يتضمن؛ مساواة المرأة بالرجل في الميراث، تقييد (إن لم يكن منع) تعدد الزوجات، عدم إجبار المرأة على العيش مع زوج لا ترغب فيه (بيت الطاعة/ حق الخُلع)، تحريم ختان الإناث وتشويه أعضائهن التناسلية،،،، إلخ وغيرها من المسائل الكثيرة التي تهم المرأة، كما ينبغي تحديد حصة (كوتا) للشباب والمرأة في التنظيم الجديد لقوى السودان الجديد، والمطالبة بتحديد ذات النسبة في المؤسسات الرسمية المُناط بها صُنع القرار.
c) تعزيز العلاقة مع حركات الهامش المُسلحة وغير المُسلحة (الشرق، دارفور، كُردفان،،، إلخ)، ويشمل ذلك بلا شك التنظيمات السياسية الأُخرى في جنوب النيل الأزرق وجنوب كُردفان. وفي هذا الصدد نقترح تكوين لجنة دائمة للحوار والتواصل والتنسيق مع القوى التقدمية على مختلف مسمياتها (بُغية تشكيل جبهة ديمقراطية شعبية)، ولجنة للحوار مع الحزب الشيوعي، ولجنة للحوار مع حركات دارفور، ولجنة للحوار مع تنظيمات كُردفان (شهامة، كاد، جبهة تحرير كُردفان الكُبرى،، إلخ).
ثالثاً- الإستفادة من تجربة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بجنوب إفريقيا:
هنالك كثير من القواسم المُشتركة والسمات المُتشابهة بين تجربة نظام التمييز العُنصري في جنوب إفريقيا، والإستعلاء العرقي والديني في السودان، ولعله من المفارقة تزامن الهجرات العربية الإستيطانية المؤثرة للسودان مع الهجرة الأوروبية (الأفريكانز) وإستيطانهم في جنوب إفريقيا ومن ثم فرض لُغتهم وثقافتهم (وديانتهم أيضاً عبر التبشير الكنسي). وكما استغل العرب تقدمهم النسبي في سُلم الحضارة، إستخدم البيض ذات التفوق الثقافي/ التعليمي في إحكام هيمنتهم الإقتصادية على الشعوب السوداء الأصيلة (Indigenous groups).
لقد ظل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي يقود نضالاً جسوراً منذ قرن من الزمان (تأسس عام 1912) من أجل العدالة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات (ذات مبادئ ورؤية السودان الجديد)، ولم يتمكن من تحقيق ذلك إلا منذ عام 1990، حيث تم تشكيل أول حكومة أغلبية سوداء عام 1994 بقيادة الزعيم الأسطوري/ نلسون مانديلا، وللأسف المُخزي كانت حكومتنا الوطنية في ذلك العام تحديداً في ذروة حربها الجهادية تحاول فرض رؤيتها التمييزية ضد جزء أصيل من شعبها!!. وعموماً يمكن إستخلاص الدروس والعبر التالية من تجربة نضال شعب جنوب إفريقيا:
- صاغ حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) ميثاقاً سياسياً جامعاً أسماه "ميثاق الحُرية- Freedom Charter" حدد فيه رؤيته ومنهجه والفلسفة التي يستند عليها في نضاله من أجل الحُرية والعدالة والمساواة، وعززه بوثيقة الحقوق (Bill of rights)، ولم يكتف بذلك حيث يعكف مفكروه على إعداد وثيقة الواجبات (Bill of responsibilities) لإستكمال (وتكريب) الإطار النظري.
- أقام تحالفاً سياسياً اُطلق عليه التحالف الثُلاثي (Tri-Partite)، مكوناً من الحزب الشيوعي (SACP) وإتحاد نقابات عُمال جنوب إفريقيا (كوساتو- COSATU) وبقية القوى الوطنية والديمقراطية مُمثلةً في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، ولا يزال هذا التحالف الرأسي والأُفقي يقود عملية التحول السياسي والإقتصادي والإجتماعي (Transformation) في جنوب إفريقيا.
- أنشأ لجنة الحقيقة والمُصالحة (TRC) لإبراء الجراح ورتق النسيج الإجتماعي ومعالجة ظلامات الماضي بعد الإقرار بها والتجاوز عنها (العفو عند المقدرة).
- كذلك سنت حكومة الحزب تشريعاً أطلقت عليه إسم قانون التمييز الإيجابي (Affirmative Action- AA) بُغية إعطاء أولوية في التوظيف للفئات الإجتماعية التي تم تهميشها (Disadvantaged) بدرجة أكبر خلال حُكم نظام التمييز العُنصري، وتشمل هذه الفئات؛ الأغلبية السوداء والنساء، وتم دعم هذا التشريع ببرامج للتأهيل المهني والحرفي حتى يكون أفراد هذه الفئات قابلين للتوظيف.
- أما في مجال تجسير الفجوة الإقتصادية فقد تم إنشاء وتطبيق برنامج للتمكين الإقتصادي للسود (Black Economic Empowerment-BEE) يقضي بمنحهم أفضلية في العطاءات والمناقصات الحكومية والتمويل المصرفي وتشجيع صغار رجال الأعمال والحرفيين والمزارعين على إقامة مشاريعهم، ولعل المرء يُصاب بالحسرة (والغثيان) عندما يُقارن هذه النظرة القومية الإنسانية الرفيعة، بتمكين المُتأسلمين لأقرانهم وذويهم وغيرهم من المحاسيب، في تفسير مُخل لآية التمكين القُرآنية.
وبصفة عامة هُنالك العديد من البرامج المُنحازة إيجابياً إلى المُهمشين جُغرافياً (الريف) أو إثنياً (السود) أو جندرياً (المرأة) أو إقتصادياً (الفُقراء)، والذين تتشابه أحوالهم مع قُرنائهم في السودان.
رابعـاً:
لقد تعمد نظام حُكم حزب المؤتمر الوطني تهميش المُغتربين والمُهاجرين (الذين تُقدر أعدادهم بأكثر من خمسة مليون نسمة، وجُلهم من ضحايا النظام والمُعارضين له)، واستطاع حرمانهم من حقوقهم الدستورية في التصويت والترشُح، وذلك بإتباع حيل ومبررات إدارية لا تنطلي إلا على السُذج والبسطاء والذين في قلوبهم غرضُ ومرضُ (جعل تجديد الجواز والإقامة شرطاً للمارسة حق التصويت في إنتخابات رئاسة الجمهورية فقط) ، ومن خلال السيطرة المنهجية للحزب وجهاز أمنه على لجان المُغتربين في كُل الدول تقريباً (وهذه مسألة تستوجب التأمل والتحليل العميق) تمكن من إسكات صوت القوى الديمقراطية فلم تنبس ببنت شفة ولم يرتفع صوتها بالمطالبة بحقوقها الإنسانية الأساسية إذ قد تم إلهائها ببرامج مراسي الشوق وحفلات الفنانين من كوادر جهاز الأمن وغيرها من النشاطات السطحية والإنصرافية التي يقوم بها المبعوثون الأمنيون تحت شتى المُسميات (طُلاب دراسات عُليا، دبلوماسيون وقناصل، موظفون بالمنظمات الدولية والمؤسسات الإقليمية، رجال أعمال ، عاملون بمنظمات الإغاثة ووكالات العون الإنساني المُتدثرة بعباءة الإسلام ،،،، إلخ)، ومن نافلة القول أننا نعني عدداً قليلاً جداً من هذه المجموعات، ولكنه مؤثر بدرجة عالية لما يتوفر له من وقت ومال وإنعدام أخلاق وإستعداد لمُمارسة كُل الألاعيب القذرة.
خامسـاً: "أعطني منبراً إعلامياً فعالاً، أعطك حزباً"
لقد أثبتت تجارب الثورات العربية (السارية في الجسد العربي الشائخ كسريان النار في الهشيم) أن الإعلام يلعب دوراً محورياً في الترويج لأي فكرة سياسية والدعوة لها وإنجاح الإنتفاضات الجماهيرية، ونعني بالمنابر الإعلامية؛ الصُحف الورقية والإلكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي (الفيس بوك) ومنتديات النقاش (الشات) والمجموعات الحوارية الجادة (قائمة د. عابدين مثالاً)، والقنوات الفضائية،، إلخ. ولذلك فإنه ينبغي التفكير الجاد في إصدار صحيفة ورقية وإلكترونية لبث فكر ورؤية السودان الجديد والمُنافحة عنه، ولضمان إستمرارية وديمومة مثل هذه الصحيفة (التي سوف تُحارب حتماً من قبل السُلطة الحاكمة بحجب الإعلانات عنها وتكبيدها خسائر مادية عبر المُصادرة والإيقاف والعقوبات المالية)، لا بُد من إشراك جمهورها وقرائها، وقواعد التنظيم السياسية في إصدارها، وذلك عبر إنشاء شركة مُساهمة عامة يُسهم فيها أكبر عدد ممكن من جماهير التنظيم، كما يجب إلزام الكُتاب والأدباء والمُفكرين والإقتصاديين،، إلخ بالكتابة الراتبة في صحيفة التنظيم دون أجر أو بأجر رمزي.
سادسـاً:
بالرغم من أن المرأة تُمثِل 50% من أي مجتمع إنساني، إلا أنها لا تُمثًل في مؤسسات صُنع القرار بذات النسبة، وهي بهذا الفهم تُعتبر من أكثر الفئات تهميشاً وبالتالي فهي رصيد جاهز ومُنتمي بحكم الضرورة إلى التنظيم الذي يسعى إلى تحقيق رؤية السودان الجديد القائمة على إنصاف المُهمشين. وفي السودان تحديداً فإن المرأة كانت سباقة إلى المُطالبة بحقوقها وإنصافها، ولكن حركة إنصاف المرأة في الدول التي تتولى الحُكم فيها جماعة التيار العربوإسلامي شهدت تراجعاً كبيراً خلال العقود الأربعة الماضية، لأسباب عدة من بينها إنتصار الثورة الإيرانية الإسلامية وسقوط الأنظمة الإشتراكية وفشل أنظمة ما بعد الإستقلال السياسي في المحافظة على النفس الثوري التحرري، والعجز عن تحقيق التحول الإجتماعي.
وبالنظر إلى التدهور المُريع في وضع المرأة بالمجتمع السوداني خلال عهد الإنقاذ الغيهب وما تعرضت له من ظُلم وإجحاف وإذلال (قانون النظام العام) وتشريد إغتصاب (في معسكرات النزوح وأقبية الأمن ومناطق النزاعات المُسلحة) ومالاقته من مُعاناة نتيجة إنتشار الحروب والنزاعات مما أدى إلى تحميلها أعباء رعاية الاُسرة بعد غياب الآباء إما بسبب الموت أو الإلتحاق بالحركات المُسلحة، فهي تُعد أكثر الفئات الإجتماعية تهميشاً، ولهذا ينبغي إيلائها إهتماماً خاصاً والتعامل بجدية وبراغماتية مع مطالبها وإحتياجاتها العادلة وتخصيص برامج خاصة بها لتمكينها إقتصادياً وتعزيز وضعها الإجتماعي والقانوني، على أن تُحمى هذه الحقوق بسياج من التشريعات والقوانين (برامج التمييز الإيجابي، والتمكين الإقتصادي، وتثوير قوانين الأحوال الشخصية والأُسرية وطرح برامج تفصيلية لخدمات رعاية الأمومة والطفولة والصحة الإنجابية).
سابعـاً:
لقد إستطاعت قوى الإسلام السياسي بمثابرة خبيثة من ربط دعوات الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، بالإلحاد والكُفر مُستغلةً في ذلك تبني قوى اليسار والعلمانية لهذه القيم الإنسانية النبيلة، ومُستفيدة من العاطفة الدينية الدفاقة (والحنبلية الزائدة لدى السودانيين)، مع أن القضية في جوهرها ليست قضية إيمان وكُفر، وإنما مسألة واجبات وحقوق ومطالب إنسانية موضوعية يفرضها تطور المجتمعات وديناميكيتها التي لا يستطيع أي قانون جامد أن يُلبي حاجاتها.
لذلك ينبغي عدم الإنسياق إلى ساحة الصراع التي يجُرنا إليها المُتأسلمون السلفيون، وإنما حصر النزاع في إطاره الصحيح وهو ضرورة تعديل بعض القوانين البالية (التي لم تعد تواكب تطور المجتمع) وتجديدها، أو سن قوانين جديدة تماماً ترتكز على إحترام الحُرية الشخصية (دون المساس بحريات الآخرين) ومواثيق حقوق الإنسان الدولية التي يأتي إحترام الحقوق الأساسية للأقليات والأفراد للفرد (Fundamental rights)، ولتبسيط المسألة هل تُعارض أي إمرأة في العالم (مُسلمة أم غير مُسلمة) مساواتها بالرجل في الميراث تحت ظل الظروف الإقتصادية الراهنة؟!، وهل تعارض أي زوجة تقييد تعدد الأزواج ؟؟ وهل يُعد إقتراح مثل هذه القوانين خروجاً على الملة والدين؟!.
بالرغم من أن المُتأسلمين المؤلفة قلوبهم في السودان قد أساءوا إستغلال التدين الفطري (الصوفي) للشعب السوداني، إلا أنهم عجزوا تماماً عن تقديم طرح ديني متكامل يُلبي إحتياجات المُجتمع، واكتفوا بترداد شعارات عامة وإختصار الشريعة الإسلامية في مسألة الحدود فقط، وحتى هذه لم يستطيعوا ولن يستطيعوا تطبيقها. ولذلك لم يتم تطبيق حد الرجم للزانية رغم إكتظاظ دار المايقوما باللُقطاء، وتوقفوا عن تطبيق حد قطع اليد للسارق رغم تفشي السرقة والفساد. ولحُسن الحظ فقد تطورت مسألة إحترام حقوق الإنسان خلال الثلاثين عاماً الأخيرة لدرجة تجعلني أزعم مُطمئناً أنه لم يعُد هنالك نظاماً إسلامياً (حتى ولو كان نظام طالبان) قادر على تطبيق أحكام تتعارض مع ميثاق حقوق الإنسان، ولذلك إنصرف الإسلاميون المستنيرون إلى الإجتهاد لمواكبة المتغيرات المجتمعية مع الحفاظ في ذات الوقت على عقيدتهم وتدينهم، وهذا هو جوهر التحدي الذي يواجه الإسلام المُعاصر.
لُحمة الأمر وسداته، أنه يجب تفادي الإنجرار وراء الصراع الفلسفي حول التدين والإلحاد، إذ أن هذه معركة خاسرة بلا شك لأن مسألة الإعتقاد لا يحكمها المنطق وإنما الضمير والإيمان بالغيب، ولذا ينبغي حصر المسألة في إطار القوانين والدفاع عنها دون المساس بعقائد الآخرين، إذ لا أعتقد أن قوى السودان الجديد دُعاة كُفر وإلحاد، وإنما حملة مشاعل تنوير وعدالة ومساواة.
خاتمـة:
تأخذ مسألة تسمية أي كيان سياسي جديد سياسي حيزاً كبيراً ويثور حولها جدل كثير، وبكُل صراحة وشفافية يكون الأمر أكثر إلحاحاً في الحالة التي نحن بصددها وذلك لنكوص الحركة الشعبية الحاملة لمشروع السودان الجديد عن قضية الوحدة (رغم تفهمنا التام لمبرراتها)، وعلى كُل حال فأي إسم تنظيم سياسي ينبغي أن يكون دالاً على المُسمى، كما أنه بإجراء دراسة جدوى سريعة يتضح أن الزخم والتأييد الذي لقيته دعوة السودان الجديد (والذي تجسد في الإستقبال الأسطوري لمؤسس وحادي السودان الجديد/ د. جون قرنق دي مالبيور، يوم الثامن من يوليو عام 2005) لم يكن إلا تعبيراً عن قناعة هذه الجماهير برؤية السودان الجديد والمصداقية الوحدوية التي تحلى بها د. قرنق، كما يبدو جلياً أن إنفضاض هذه الجماهير (التي نسعى إلى إستعادتها) لم يكُن إلا نتيجة لإبتعاد الحركة الشعبية عن مبدأ الوحدة الذي تأسست عليه رؤية السودان الجديد، ولعدم ثقة هذه الجماهير في وحدوية الحركة الشعبية، وأنها لم تعُد وعاءً مُلائماً أو أميناً على مبادئ السودان الجديد.
لذا فإنه من الأصوب والأجدى التخلي عن إسم الحركة الشعبية، والتركيز على السودان الجديد، رغم التقدير الكامل والتفهم التام لمدى الأحاسيس الصعبة والمُمضة التي يحُس بها رواد الحركة الشعبية من أمثال الرفيق/ ياسر عرمان، ود. منصور خالد، ود. الواثق كمير، وود يوسف، وغيرهم من ذوي السبق والريادة في الإلتحاق بالحركة الشعبية (القرنقية)، وعزاؤهم أنهم جادلوا ودافعوا ونافحوا وجادوا بالوقت والأرواح عن قيم السودان الجديد ووحدة مكوناته وعليهم السير حتى النهاية لتحقيق أهدافهم النبيلة. كما أن تسمية السودان الجديد سوف تجتذب عدداً كبيراً من الواقفين على الرصيف تشكُكاً مشروعاً في الحركة الشعبية التي قنعت بالإنفصال، وهذا لا يعني البتة قطع العلاقة مع الحركة الشعبية جنوباً، بل يجب الإحتفاظ بعلاقات متينة معها، أملاً في تحقيق الوحدة ذات يوم ما.
وشدوا الضُراع من أجل سودان ديمقراطي متحد (سودان جديد وي)
مهدي إسماعيل مهدي
بريتوريا: 13/أبريل/2001
mahdica2001@yahoo.com