حزن في الرأس وفي القلب
طلحة جبريل
5 April, 2009
5 April, 2009
ضاقت بي الدنيا وضقت بها.
ثمة مجموعة قصصية للكاتب المغربي ادريس الخوري عنوانها " حزن في الرأس وفي القلب". منها استوحيت عنوان هذه الخواطر، ولا أقول الموضوع. ادريس الخوري صديق جمعتنا ايام الرباط الصاخبة. كان كل ما يصدر مجموعة قصصية يهديني نسخة ويكتب عليها إهداء يقول " يا عزيزي فلان نكتب لنصرخ أكثر". الخوري من الكتاب الذين تجد حزنه دافقاً على الرغم من أسلوبه الساخر. سعدت مرة ان كتبت له مقدمة مجموعة قصصية صدرت عام 1996 بعنوان " من شرفة العين" قلت في تلك المقدمة "ادريس الخوري يظل وفياً للواقع الشعبي يلتقط بعناية صوره ومشاهده. لا يخفي الخوري انتماءه الطبقي أنه ينتمي الى شريحة بشرية تكابد وتعاني ، لكنه في الوقت نفسه لايتردد في توجيه انتقادات لهؤلاء الذين يدافع عنهم "لان سلوكهم وتصرفاتهم رديئة" يضع احياناً مقابلة سوريالية بين بعض المفاهيم المجتمعية ، لكنها تنم عن خيال خصب، لذلك يجد خيطاً بين" اختلاس الاموال واختلاس النظرات الى المارة". وفي المقدمة ايضاً "ينسحب الخوري في اغلب الاحيان الى دواخل نفسه، ويحس انه يواجه الحياة وحيداً وربما كا ذلك مبعث الحزن الدفين، يقول : لست مدمناً على الروابط العائلية التي يتقاتل من اجلها الناس".هناك ثلاثة من الكتاب المغاربة برعوا في كتابة القصة القصيرة والرواية، وهم محمد شكري ومحمد زفزاف وادريس الخوري. الثلاثة أبناء جيل واحد.محمد شكري أصبح الأكثر شهرة من بينهم لان روايته " الخبز الحافي" ترجمت الى 13 لغة ووزعت في جميع أنحاء العالم، واعتبرت عملاً جريئاً حد الوقاحة.في حين يعد محمد زفزاف من بين ابرز الروائين المغاربة ومن رواياته التي لاقت رواجاً " الثعلب الذي يظهر ويختفي"و" الافعى والبحر" و "قبور في الماء". وما زال ادريس الخوري هو الوحيد من بين الثلاثة يعيش نمط الحياة المنفلتة ااتي لا تحدها قيود، في حين رحل زفزاف عام 2001 وشكري عام 2003 . أشتهر الخوري بسخريته الممزوجة بالمرارة والحزن في كل ما يقول ويكتب. يقول الخوري مازحاً عندما يتحدث عن هذا الثلاثي " محمد شكري كاتب عالمي ، ومحمد زفزاف كاتب كبير ، اما انا فمجرد كاتب محلي" عاش الكتاب الثلاثة حياة بوهيمية، لكن زفزاف كان أكثرهم جنوحاً نحو هذا النمط من الحياة.ربطتني علاقة صداقة متنية مع محمد شكري وادريس الخوري، لكن الأمر لم يكن كذلك مع زفزاف، حيث جرت بيننا نقاشات وصلت حد التلاسن احياناً على صفحات بعض الصحف المغربية. كنت قبل فترة منهمكاً في كتابة كتاب أخترت له عنوان " 200 كلمة خارج الصورة" ثم عدلت العنوان وجعلت العنوان الأساسي عنواناً فرعياً بسبب"أحزان الرأس والقلب" و ارتأيت أن يكون العنوان الجديد " حنين...200 كلمة خارج الصورة".وفي مقدمة الكتاب شرحت فكرته. حيث كتبت "الصحافة المكتوبة كانت تعني لي دائما "كلمة وصورة". ما تبقى تفاصيل. عظمة "الكلمة" انها مكتوبة، وجمال" الصورة" انها ترصد لحظة ثابتة في المكان والزمان والذاكرة. الزمان لا يستعاد لانه حركة لا تتوقف عكس المكان الذي هو ثابت في موضعه ، لكن "الصورة" اصبحت قادرة الآن بتقنياتها المتطورة على استعادة الزمن . هناك من يرى ان الومضة السريعة الآن "للصورة" وليس "للكلمة" وبعد ان شبع العالم وارتوى من "الصورة" سيعود إلى " الكلمة" لتذهب خلف الصورة تحلل وتشرح وتنقب وتوضح وتروي على مهل. غادرت المغرب صيف عام 2005 ، في رحلة لم تكن مقررة او مقدرة . غادرته وفي دواخلي أسى وأسفاً . غادرته بعد ان لم يبق لي فيه مكان. في السنتين الاخيرتين وانا هناك كان يرد علي بالي وبالحاح، ان الوقت يقترب من لحظه يجب فيها ان اغادر . ثم حدث ذلك بالفعل . كنت يومئذٍ استوفيت 30 سنة في المغرب ، بحساب الاشهر 360 شهرا وبحساب الايام ما يقارب 11 الف يوماً، صحيح كنت اتجول في القارة الافريقية واوربا لكن بلد المقر كان هو المغرب . لكن في ظني ان الناس لايصح ان يستمروا حيث هم اذا انتفت المبررات وضاقت السبل. حملت ذلك الصيف معي حقيبة وحاسوب خزنت فيها بعض " الكلمات والصور " وغادرت. عبرت البحر نحو " لندن" في البداية ، ثم المحيط الى " واشنطن" . بعد شهور وفصول في الديار الامريكية تباينت من الثلوج والصقيع والاعاصير ، الى الصيف اللاهب والهجير ، اكتشفت ذات يوم انني اعيش حياة صامتة حزينة وموجعة ، وحيداً خلف جدران شقة لا مؤنس فيها ولا صديق ولا قريب. هذا هو ايقاع الحياة ومذاقها في هذه الديار . كل شخص مشغول بنفسه ومهموم بتفاصيل حياته. هؤلاء الامريكيون لا يملكون لك سوى كلمة" هاي" واذا كانوا كرماء يقولون لك : كيف حالك اليوم ، ولايكترثون للجواب . ذات يوم عدت الى حاسوب " الكلمات والصور" ، وجدت به المادة الخام لمشاريع كتب. لكن من بينها قفز كتاب عرض نفسه من جوف الحاسوب ثم طرح نفسه ثم فرض نفسه . وبدا لي ان اية كتابة غير الكتابة المتحررة من كل قيد لا تتناسب والحالة التي اعيشها ، أي حالة الحزن الطاغي. جلست اكتب وانقح . بعض الايام أنهمكت في تفاصيل حياة يومية طاحنة. بعض الايام كان يتصل النهار بالليل ، وليل يتمدد حتى الفجر . كتبت عن أمكنة وناس في المغرب. بعض الكتابات تركتها كما كتبتها في المرة الاولى . لم استطع مغالبة أحزاني وانا اكتب احياناً، لم اتردد في قول كلام صريح احيان اخرى. لا ازعم انها كتابات موضوعية ، بل هي قطعاً تحمل شحنة عاطفية ووجدانية لا انفيها. لذلك اخترت عنواناً من كلمة واحدة " حنين". ثم ان لكلمة " حنين" حكاية اخرى في دواخلي. يتعذر علي تماماً الدخول في تفاصيلها، لا حاضرا ولا مستقبلاً. وأقول وهناك جدوى من القول إنه إذ أحس أحد من خلال هذه الكتابات أن حبي ظاهر لبعض الأمكنة ، فهذا الإحساس صحيح ولست أداريه ولا أحاول ، أعترف به منذ اللحظة الأولى لكي أريح نفسي والقارئ . وجدتني اكتب خلف جدران غرفة في منطقة هادئة، لا صوت فيها سوى ريح تعبث بأغصان الشجر ، في بلد ساقتني اليه ظروف لم تكن في الحسبان ، ووسط أناس لايهمهم من أمري شيئاً . لذلك كان طبيعياً ان تكون هناك لحظات تمتزج فيها المرارة بالاسى بالحزن...بالسخرية ايضاً.لا أنفى عندما حددت 200 كلمة لكل نص انني تأثرت بفكرة في صحافة الغرب ترى ان "بورتريه المكان" المقروء يجب ان لايتعدى هذه الحدود ،وان التقرير الاخباري سقفه 600 كلمة ، وان "الحوار " أو " التحقيق " و"المقال " يظل مقروءً إذا كان في حدود الف كلمة وأزيد من ذلك يتحول الى فضفضة . الكلام عندما يزيد عن حده يفقد مصداقيته. لاجدال ان اي كتاب له علاقة بدواخل كاتبه فهو قطعة"مكتوبة" من حياته وفكره وعمله وتجربته وعواطفه وفي أحيان انفعالاته. لا أنكر انني حين فرغت من هذا الكتاب شعرت بنوع من الراحة والقلق. راحة لانني كتبت كتاباً. وقلق لان الناس والأمكنة تواروا خلف ظلال الذاكرة " .كانت هذه هي مقدمة الكتاب، وكنت على وشك المراجعة النهائية وارساله الى المطبعة. لكن طارئاً طرأ ، إذ طلبت مني صحيفة " اخبار اليوم" المغربية وبالحاح ان أكمل كتاب " وصايا محمد شكري" لتنشره في حلقات، وهو كتاب كنت بدأته أيضاً ، لكنني تركته لاتفرغ لكتاب " الملك والعقيد" الذي صدر العام الماضي.
تعرفت على محمد شكري عام 1979 ، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت حتى رحيله في 15 نوفمبر 2003. كنت سجلت معه خلال جلسات متفرقة حوارات متعددة حول مسار حياته الشقية. وقبل وفاته سلمني بعض الوثائق الشخصية النادرة ، وهكذا تركت " 200 كلمة خارج الصورة" و رحت اعمل على كتاب " وصايا محمد شكري" لكن حتى هذا المشروع تركته جانباً. بل توقفت تماماً عن الكتابة. لقد وجدت نفسي اعيش حالة غير مسبوقة من الحزن، بل هي أحزان في الرأس وفي القلب.
عن"الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1