حسن الترابي وتدبر القرءان (2) … بقلم: عمر محمد سعيد الشفيع

 


 

 

 المقالة الثانية: ثقل التراث ـ على صفوة الإسلاميين ـ في تدبر القرءان

 

 

 

omar.alshafi@gmail.com

 

  

في المقالة الأولى قدمنا تعريفاً مختصراً عن كتاب التفسير التوحيدي ومنهجه في تدبر القرءان العظيم. وفي هذه المقالة نبدأ نقاش بعض الموضوعات في هذا الكتاب القيِّم الذي كان ثمرة حلقة تدارس وتداول حضرها وشارك فيها مجموعة من المهتمين بتدبر القرءان العظيم. وسوف يتوجَّه النقاش في هذه المقالة إلى تلك الحلقة وصفوتها من الإسلاميين ـ وبالطبع فالترابي شيخهم ـ وذلك بنقاش أمثلة محددة يمكنك أن تذهب إليها ـ عزيزي القاريء ـ مباشرةً في الفقرة رقم {3} إذا وجدت أن المقالة طويلة ولا حاجة لك بمعرفة شيء حول الحلقة نفسها ولا المقدمة التي تعتبر مِهَاداً لمناقشة الأمثلة.

  

{1}

 

وباسم الله نبتديء.

 

التفسير التوحيدي ـ كما عرفنا ـ كان في الأساس حلقة تدارس جماعية أسبوعية يحضرها ويشارك فيها صفوة من الإسلاميين ولم تفتح أبوابها للعامة والأجمل فيها أن الترابي كان يطلب من هؤلاء الصفوة القراءة والإستعداد قبل حضور التدارس والتداول في يوم الأحد المقرر للحلقة مما يقلل أحياناً من عدد الحضور. سمعت بهذه الحلقة أول مرة وأنا في القاهرة عندما طلب مني أحد الإخوة في السفارة السودانية المساعدة في إحضار كتابين عن إحصاء ألفاظ القرءان لهذه الحلقة ثم لم أسمع عنها شيئاً بعد ذلك إلا عندما قرأت عنها في التمهيد المسطر في بداية كتاب التفسير التوحيدي. وعرفت لاحقاً من أحد الذين شهدوا بعض جلسات هذه الحلقة أنها كانت مفيدة جداً وصفوية جداً  لدرجة أنه إقترح على الترابي أن يخصص حلقتين واحدة للصفوة وواحدة للعامة، ويواصل واصفاً الترابي نفسه بأنه صفوي في كل حياته لغةً وخطاباً ودرساً حتى وإن قاد تياراً يرجى له أن يصبح شعبياً ويختم قائلاً: ومن عجب أن جُلَّ حُضَّار تلك الحلقة قد إنتقلوا إلى تيار الحكومة عند المفاصلة المشهورة في الحركة الإسلامية. ورغم أن حسن الترابي يتحمَّل العبء المعرفي في التفسير التوحيدي بإعتباره المؤلف الذي صاغ الكتاب إلا أن ما ورد فيه من أفكار تجديدية أو تراثية تاريخية غطَّت على التدبر العميق لبعض الآيات والقضايا القرءانية يتحمّله من ناحية التجديد الجماعي ـ مع حسن الترابي ـ أولئك المشاركون في تلك الحلقة خاصةً وأن التمهيد في الكتاب قد ذكر أن تلك الحلقة كانت تطيل النقاش في كل مشكل حتى على مستوى الحرف (وقد كان ذلك في أصل جهده تدارساً وتداولاً يطيل النقاش في أيما حرف أو كلمة ويمعن النظر في أيما مشكل أو معنى أو قضية مما سبق لكتب التفسير وإجتهاده السالف أن وقفت عنده، أو طرأ على المتدارسين وهم يفسرون الآيات وينسقون رتلها ويوحدون معانيها ـ ص 12).

 

والقضايا التي تغري بالنقاش في هذا الكتاب كثيرة ويمكن لباحث أن يصنفها تصنيفاً علمياً دقيقاً ويتتبعها على مستوى الكتاب كله ويربط بينها. ولكن بما أننا نكتب للقاريء العام أولاً ونتوخَّى السهولة والإختصار في الطرح ثانياً، فسوف نذكر أمثلة قليلة لبعض القضايا التي كان من الممكن لحُضَّار تلك الحلقة أن ينتبهوا إليها ويحرروها من ثقل التراث والتاريخ وينظروا إليها من خلال الآيات التي تناقشها في تصريفها وتركيبها الخاص بها بلا زيادة كلمة عليها حتى يقتربوا من أحد أعماق هذه الآيات في صلاحيتها لكل الإنسان في كل الزمان وفي كل المكان.

  

{2}

 

وقبل أن نذكر هذه الأمثلة القليلة التي هي موضوع هذه المقالة أجد أنه من المفيد التطرق بإختصار إلى مسألتين يمكن أن تساعدا في متابعة النقاش.

 

أولى المسألتين هي أن التدبر على مستوى السورة (التدبر التسويري) والتدبر على مستوى الكتاب (التدبر الترتيلي) متداخلان ولا يستغني أحدهما عن الآخر وقد مارس التفسير التوحيدي هذا التداخل في كثير من الأحيان. والنظر في القرءان يكون دائماً من خلال شبكته الكلية في توحيد مقاصده في الهدى والقيم على جميع مستوياته في الألفاظ والتراكيب والآيات والسور والكتاب. والآية في القرءان بقدر ما تنسلك في قضية السورة فإنها تنسلك أيضاً بمشهدها ـ في القضية التي تضيء أحد مشاهدها ـ مع بقية المشاهد لهذه القضية على مستوى الكتاب. والقرءان لا يترك متدبره حائراً بل يقوده إلى بقية المشاهد من خلال منهجه في التشابه. ومنهج التشابه في لسان القرءان يمتد من التصريف المتفرد للكلمة إلى التركيب المقصود للجملة. وبإختصار فعندما يقابلنا لفظ أو مركَّب قرءاني فينبغي علينا تدبره من خلال لسان القرءان حسب قاعدة "القرءان يشرح بعضه بعضاً" ولا ينبغي لنا إرجاع دلالة اللفظ القرءاني إلى أي تداول ـإستخدام ـ لساني آخر سواء كان ذلك التداول يخص لسان عرب الجزيرة قبل الإسلام أو بعده أو يخص تداول الشعر العربي في أي عصرٍ من العصور خاصةً وأن القرءان قد نفى عن نفسه وعن مبلِّغه مماثلته بالشعر وذلك لأن القرءان حق والشعر فيه كثير من الكذب والباطل. وتدبر اللفظ القرءاني عبر منهج التشابه يمر بثلاثة مراحل متتابعة هي أن ننظر إلى جذر اللفظ أولاً ونعرف جذوعه المذكورة في القرءان وسياقاتها مثل أن نرجع لفظ الإيمان إلى جذره (أ، م، ن) ونعرف دلالته المحورية (المعنى الأصل) ونتتبع جميع صياغاته في كل سياقاتها لنعرف دلالاتها الفرعية المرتبطة بالمعنى الأصل. ويتلو ذلك أن ننظر إلى كل سياقات اللفظ أو المركَّب ـ الذي نريد تدبره ـ في صيغته المحددة المذكورة مثل أن نكتفي بالنظر إلى سياقات الآيات التي ذُكر فيها لفظ "الإيمان" بهذه الصيغة المعرفة بالألف واللام أو سياقات الآيات التي ورد فيها المركب "الذين آمنوا وعملوا الصالحات". وأخيرًا ننظر إلى الألفاظ والمركبات والتراكيب التي إقترنت بلفظ "الإيمان" أو بمركب "الذين آمنوا وعملوا الصالحات".

 

وقاعدة المركب والتركيب من القواعد النفيسة في منهج التشابه، وجذر هذا اللفظ "المركَّب" ورد في القرءان في صيغ منها التراكب "حب متراكب ـ في الأنعام" والتركيب "صورة مركبة ـ في الإنفطار". والمُرَكَّب ـ الذي يمكن أن نسميه عبارة أو شبه جملة ـ يتكون من لفظين أو أكثر في إقتران متماثل أو شبه متماثل يرد مرتين أو أكثر في القرءان العظيم وإذا أدى معنىً كاملاً يصبح تركيباً، أي جملة تتشابه مع جملة أخرى في أحد مركباتها أو ألفاظها. ومثال المركب المتماثل "جنات تجري من تحتها الأنهار"، فهذا المركب إذا تتبعناه سوف نجد علماً دقيقاً عن هذه الجنات وعن المجموعات التي تدخل هذه الجنات ومنها مجموعة "الذين آمنوا وعملوا الصالحات في البقرة 25" ومجموعة  "الذين اتقوا في آل عمران 15" ومجموعة "المحسنون الذين لم يصروا على ما فعلوا في آل عمران 136" وغيرها من المجموعات التي تقارب أربع عشرة مجموعة موزعة في القرءان ومقترنة بهذا المركب "جنات تجري من تحتها الأنهار". ومثال آخر للمركب المتماثل هو مركب "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" وإذا تتبعناه في القرءان نجد أنه ذُكر خمسين مرة في القرءان في إقترانات مقصودة توضِّح تفصيلات هذه المجموعة. وأول الذكر كان في البقرة 25 حيث إقترنت مجموعة "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" بالجزاء "جنات تجري من تحتها الأنهار" وآخر الذكر كان في سورة العصر حيث إقترنت هذه المجموعة بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ومثال المركب شبه المتماثل "نزَّل ـ أنزل ـ عليك الكتاب" حيث يأتي الفعل مرةً نزَّل ومرةً أنزل كما في آيتي سورة آل عمران الثالثة < نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ> والسابعة < هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ...>.

 

وثانية المسألتين أن اللفظ في القرءان سواء كان مفرداً أو جمعاً ـ أو في أي صورة كان ـ فهو مقصود في صورته تلك ولا ينبغي لنا استبداله أثناء التدبر بلفظ آخر حتى لا ننحرف عن دلالات الآية ومقاصدها ولا ينبغي لنا أيضاً الزيادة عليه. والذي يساعدنا على ذلك المعرفة الكافية ـ إن لم تكن الدقيقة الشاملة ـ بعلم التصريف في الفقه اللساني. وعلم التصريف (بناء اللفظ) يشترك مع علم التركيب (بناء الجملة) في تحديد الدلالة لأي لفظٍ أو مُرَكَّبٍ نتوخَّى معرفة دلالته في سياقٍ معيَّن، وذلك لأن أيَّاً من التصريف والتركيب دقيق ومقصود في لسان القرءان. على مستوى التصريف فإن التفسير التوحيدي لم يشغل نفسه بتوضيح الفرق بين الصياغات المختلفة للجذر الواحد في سياقاتها المختلفة. ومثال على ذلك فإن هذا التفسير لم يوضح التمايز بين التنزيل والإنزال والنزول والتنزُّل وإن حاول أن يفرق "بغير وضوح تام" بين نزَّل وأنزل في تدبره للآية الثالثة من سورة آل عمران حيث ذكر أن {"نزَّل" صيغة شدة وتكثير وتنجيم لنزول آيات الكتاب وهي أبلغ في ذلك من صيغة "أنزل" التي تجيء في سياقات أخرى ـ ص227}. وفي ما ذكره فإنه إقترب من دلالة التنزيل ولكنه لم يذكر دلالة الإنزال وإكتفى بذكر أنه ورد في سياقاتٍ أخرى في حين أن الآية نفسها ذكرت الإنزال للتوراة والإنجيل بعد ذكر التنزيل للكتاب <نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ>. ولا يخلو التفسير التوحيدي من بعض النظرات العارضة مثل الإنتباه إلى الفرق بين المركَّبَين شبه المتماثلين <قَالَ كَذلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء> المقترن بزكريا وإمرأته العاقر (لا العقيم) والآخر <قَالَ كَذلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء> المقترن بمريم وولادة عيسى ـ ص 251.

 

ومن قصدية اللفظ وروده مفرداً دائماً في القرءان مثل "النور" والدين" دون ذكر جمعه أو وروده جمعاً دائماً في القرءان مثل "حدود الله" دون ذكر المفرد. أما مسألة التفريق بين الجموع المختلفة للمفرد الواحد وعلاقتها بموضوعها ومسألة نظام المجموعات والزمر في القرءان فتلك من المسائل التي لم ينتبه لها جُلُّ المفسرين ولا لوم على التفسير التوحيدي لولا أنه كان حلقة دراسية جماعية صفوية يفترض فيها تعدد زوايا النظر من علماء مساقات متعددة. ونضرب مثلاً بسؤال لماذا ذكر القرءان فتية أهل الكهف بهذه الصورة للجمع "فتية" بينما ذكر في سورة يوسف جمع "فتيان"؟ وما الفرق بين "الأولاد" و"الوِلْدان" إذ أن كل لفظ مقصود ولا لغوٌ ولا حشوٌ في لسان القرءان. ومن قصدية اللفظ في صورته المقصودة نضرب مثلاً بالجموع التالية: الشاهدون جمعاً للشاهد ذي الخبرة مثل "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا" في سورة يوسف فهو شاهد خبرة لم يحضر الواقعة، والشهداء جمعاً للشهيد الحاضر في الدنيا "وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ... مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء"، والأشهاد جمعاً للشهيد في الآخرة "... وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ"، والشُّهود جمعاً للشَّهود ـ كما ننطقه في لهجتنا ـ أو جمعاً للشاهد والشهيد معاً خبرةً وحضوراً "وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ". هذا على مستوى الجموع المذكورة في لسان القرءان أما إذا ذكر لسان القرءان الجمع "بعولة" لا الجمع (بعول الخاص بلسان العرب) والجمع "ألسنة" لا الجمع (ألسن الخاص بلسان العرب) فهذا مقصود وعلينا تدبره ومعرفة دلالة هذه التاء في آخر الجمع وتجنب الخلط بين الجموع المختلفة للمفرد الواحد خاصةً إذا لم تذكر بعض هذه الجموع في القرءان. ولكن ما لم أفهمه وقد ظننته خطأ مطبعياً أن التفسير التوحيدي قال أن العالمين في "الحمد لله رب العالمين" في سورة الفاتحة هي جمع عوالم. وإذا كان المقصود أن مفرد العالَمين هو العوالم أو أن جمع العالَمين مثله مثل جمع العوالم فهذا كله خطأ وذلك لدقة الجمع وقصديته في القرءان فكل جمع يتفرد بدلالته. وعليه فالعالَمين مفردها عالَم (بفتح اللام) ولكن هذا المفرد لم يرد في القرءان وعليه فلفظ العالَمين ينتمي إلى زمرة الجموع التي لم يذكر القرءان مفرداتها وذلك لحكمةٍ يمكن أن نبحث عنها.  

 

والحقيقة أن تفرد اللفظ يبدأ برسمه القرءاني ومثال واحد على ذلك ـ من أمثلة وافرة ـ لفظ ضعفاء الذي ورد في القرءان برسمين مختلفين أحدهما "ضعفاء" ليدل على الضعفاء في الدنيا كما في البقرة والتوبة والآخر "ضعفؤا" ليدل على الضعفؤا في الآخرة كما في إبراهيم وغافر.

  

{3}

 

والآن حان الوقت لذكر بعض الأمثلة التي تبيِّن ثقل التراث والتاريخ علينا في تدبر القرءان. وكاتب هذه السطور ليس ضد التراث لأن التراث ليس من الأمور التي يقف الإنسان ضدها لأنه منَّا وفينا ولنا، ولكن علينا أن نضع تراثنا في بيئته المعرفية وبنيته العلمية في زمانه ومكانه وننقده ونستفيد منه ونستغفر لمن تركه لنا فنحن لسنا أذكى منهم وإنما فقط حبانا الله سبحانه وتعالى بقفزة من التطور في الزمان وتكوين مناهج جديدة أوضحت لنا زوايا نظر جديدة لم تكن واضحة لهم في زمانهم. والأمر الثاني علينا أن نفرق بين القرءان المطلق في الزمان والمكان لأنه من عالم الأمر وبين تراثنا النسبي في زمانه ومكانه.

  

المثال الأول: المحكم والمتشابه ـ الإحكام والتشابه

 

التفسير التوحيدي لم يأت بجديد في هذه المسألة رغم إشكاليتها بل تابع الرأي المشهور في أن الإحكام يقابل التشابه وأن الآية إما محكمة وإما متشابهة مما يعني حسب هذا الرأي أن القرءان قسمان: قسم محكم وقسم متشابه. وفي تطرقه لتدبر الآية السابعة من سورة آل عمران <هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ> فقد شرح القسم المحكم بقوله (...، بعض آياته مضبوطة في بيانها العربي، قطعية في دلالاتها، نازلة معانيها على وقْعٍ واحد، وهي أصول الإيمان والتوحيد والشرع وهي أم الكتاب التوابت الخوالد في أم الكتاب الحكيم في الملأ الأعلى الذي هو الأصل والمرجع لكل الكتب المنزلة توالياً وتصادقاً على الأحوال المتطورة التي تعاقبت عليها كتب التوراة والإنجيل والقرءان ـ ص 230). ويواصل شرح القسم المتشابه قائلاً (وآيات اخرى في كتاب القرءان غير متناقضة لكنها غير محكمة قطعية البيان الفاصل، بل فيها إبتلاء الله للناس في كل الحياة، متشابهة قد تحمل الرؤية إلى معانٍ متعددة أو محتملات يصدّقها في الواقع، تتشابه وتُشْكِل فلا يتميز فيها الحق فرقاناً وقطعاً، فيحتاج فققها إلى تأمل وتَفَكُّر يصطحب بيان المحكمات لتستنبط وجوه الحق المختلفة شكلاً والموحدة مغزىً ـ نفس الصفحة ).

 

وإذا نظرنا في القرءان نجد أنه كله محكم على جميع مستوياته من الأمر والكتاب والذكر والقرءان والسورة والآيات، وهذه بعض الموارد التي تبيِّن ذلك.

 

أولاً ـ مستوى الأمر ورد في الآيات الأولى من سورة الدخان <حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ.  إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ>. ولفظ "يُفْرَق" في هذه الآيات يشير أيضاً إلى الفرقان.

 

ثانياً ـ مستوى الكتاب ورد في الآيات الأولى من سورة لقمان <الم. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ. هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ>. لاحظ أن "الكتاب" هنا معرف بنفسه ومعروف وحكيم وأن آياته "آيات الكتاب الحكيم" هدى ورحمة لمجموعة مخصوصة هي مجموعة المحسنين التي تجد صفاتها في بقية الكتاب.

 

ثالثاً ـ مستوى الذكر ورد في الآية 58 من سورة آل عمران <ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ>. والذكر هنا معرف ومعروف

 

رابعاً ـ مستوى القرءان ورد في الآيات الأولى من سورة يس <يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ>، وفي الآيات الأولى من سورة الزخرف.

 

خامساً ـ مستوى السورة ورد في الآية عشرين من سورة محمد <وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ>. وهذه السورة المحكمة هي سورة براءة التي فُهمت آياتها الأولى فهماً يناقض الوفاء بالعهد المسؤول.

 

سادساً ـ مستوى الآيات ورد في أول سورة هود <الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ>، وفي الآية 52 من سورة الحج. ما هذا الكتاب غير المعرف وما علاقته بـ"ألر" حيث ورد خبراً لها؟

 

والقرءان كذلك كله متشابه وكله مثاني وقد ذكر التشابه على مستوى أحسن الحديث ومستوى الكتاب في الآية 23 من سورة الزمر <اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ ...>. والتشابه ورد في القرءان وصفاً للكتاب وللآيات وللرزق وللزيتون والرُّمَّان. ووردت الصفتان "متشابه" و"مشتبه".

 

وفي ضوء هاتين الحقيقتين (القرءان كله متشابه وكله محكم) كيف نفهم آية آل عمران؟

 

يتضح لنا أن الإحكام ليس مقابلاً للتشابه، بل لكلٍ دلالته من غير تضاد بينهما. ولأن هذه الآية مشكلة فعلاً على المتدبر الفرد ـ وعليَّ خاصةً ـ في علاقتها بإحكام القرءان كله وتشابهه كله فقد كنت أرجو أن أجد في تدارس وتداول تلك الحلقة إجابة أو مشروع إجابة لهذا الإشكال. ولأن الحلقة الدراسية ـ والترابي منها ـ لم تطرح مشروع هذه الإجابة بل إنها لم تلتفت إلى بقية الآيات في هذه القضية، أكتفي بطرح هذه الاسئلة.

 

لماذا إرتبط الإحكام في آل عمران بإنزال الكتاب وليس تنزيله، ولماذا لم يرتبط بالقرءان؟

 

وما معنى الأداة "من" في هذه الآية؟ وهل هي للتبعيض؟

 

ولماذا الآيات المحكمات هن أم الكتاب؟ وهل "هن" تعني أن الآيات المحكمات = أم الكتاب أم أنهن جزء منها؟

 

 ولماذا ورد في الآية لفظ "أُخر" وليس "الأُخر"؟ مما يفتح المجال لتقسيم ثلاثي.

 

وما الفرق بين "متشابه" و"مشتبه"؟

 

وهل المتشابه ينقسم إلى "مشتبه" و"غير مشتبه"؟ أم أن المشتبه ينقسم إلى متشابه وغير متشابه؟

 

وهل هناك قراءة أخرى للفظ "متشابهات"؟

  

المثال الثاني: كتاب موسى والتوراة

 

المشهور عندنا أن "التوراة أُنزلت على موسى" والتفسير التوحيدي يتابع هذا الرأي المشهور بكل وضوح حيث ذكر في ص 252 (...، وذلك هو كتاب التوراة الذي نزل على موسى يعلم عيسى بيان آياته، ...) وفي ص 560 (... وعلمه بذلك نص التوراة روايةً عن موسى عليه السلام ...). وفي هذه المتابعة فإن التفسير التوحيدي لم يتدبر المسألة ولم يلتفت إلى دقة إبانة القرءان فيها.

 

التوراة وردت في القرءان ثماني عشرة مرة في ست عشرة آية وسبع سور منها آل عمران (ست مرات) والمائدة (سبع مرات) وإقترنت بالإنجيل ثماني مرات ولم ترتبط التوراة في جميع أماكن ورودها بموسى عليه السلام. وفترة موسى كلها إرتبطت بقوى تدبير إلهية عبرت عن فعلها تجاه موسى بضمير المتكلمين الجماعة في تسعة أفعال مختلفة منها (آتينا موسى: الكتاب/ الهدى/ الفرقان/ سلطاناً مبيناً/ تسع آياتٍ بيِّنات/ ضياءً/ ذكراً للمتقين ) حيث يدخل المركب شبه المتماثل "ولقد آتينا موسى" قبل كل عنصر من عناصر هذه المجموعة مثل (ولقد آتينا موسى الكتاب) و(ولقد آتينا موسى الهدى). إذن الذي أوتيه موسى ـ مع العناصر الأخرى ـ هو الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة كما في الأنعام 154. وهذا الكتاب أشار إليه القرءان مرتين بـ"كتاب موسى" ووصفه بالإمام والرحمة في سورتي هود والأحقاف في تركيب فريد "ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة". والوحي إلى موسى يختلف عن الإيتاء في أن الوحي أوامر "أن ألقِ عصاك" و"أن اضرب بعصاك الحجر" و"أن اضرب بعصاك البحر" و"أن أسرِ بعبادي" وغيرها من أوامر وحي له مرة وله مع هارون مرة أخرى. وللفائدة فالأفعال التسعة = {واعدنا، آتينا، بعثنا، أرسلنا، أنجينا، وصَّينا، أوحينا، قضينا، منَنَّا}.

 

سياقات الكتاب الذي أوتيه موسى ـ كتاب موسى ـ وسياقات التوراة مختلفة تماماً في القرءان ولا مجال للخلط بينها. ونجد هذه الفروق في إرتباط كتاب موسى بالإيتاء وإرتباط التوراة بالإنزال على النبيين من بعد موسى حتى عيسى الذي إرتبطت به التوراة تعليماً مع الكتاب والحكمة والإنجيل. والتوراة يحكم بها النبيون ـ من بعد موسى ـ والربانيون والأحبار <إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ـ المائدة 44>.

 

وأهل الكتاب عليهم إقامة التوراة والإنجيل.

 

ولكن ما هي العلاقة بين كتاب موسى والتوراة؟ بعض علماء دراسات الدين المقارن (مقارنة الملل) يرون أن كتاب موسى أصبح جزءاً من التوراة وهذا الجزء هو الكتب الخمسة الأولى من التوراة (تسمى خطأً بالأسفار) وهي سفر التكوين وسفر الخروج وسفر العدد وسفر اللاويين وسفر التثنية. وأنت تعلم ـ عزيزي القاريء ـ بوجود أكثر من كتاب يطلقون عليه اسم "التوراة" مثل التوراة العبرانية والتوراة السامرية والتوراة السبعينية اليونانية. والتوراة العبرانية تتكون من تسعة وثلاثين سفراً وتقرر هذه التوراة أن الأسفار الخمسة الأولى هي وحدها التي نزلت (= أوتيها) موسى وبقية الأسفار نزلت على أنبياء وشخوص آخرين من بعد موسى. والتوراة السامرية لا تعترف إلا بالأسفار الخمسة الأولى وحياً إلى موسى أما بقية الأسفار الأربعة والثلاثين فتعتبرها تأليفاً وليس وحياً.

 

هل آن الأوان أن نفصل بين التوراة وموسى وندرس موسى في كتاب الله مع كتابه وألواحه وصحفه  وأوامر الوحي إليه والأجل والعجل ... والبقرة؟

 

وبعد كل ذلك فعليكم أيها القراء متابعة الموضوع والبحث في كتاب الله عن مدى صحة الرأي المشتهر بيننا في أن "التوراة أنزلت على موسى"، وربما تصلون في حلقتكم المباركة إلى أن التوراة أنزلت من بعد موسى ... وأن إسرائيل رجل صالح حرَّم بعض الطعام على نفسه من قبل أن تنزَّل التوراة ولا علاقة له بالنبي يعقوب وتخالفون بذلك التفسير التوحيدي.!!!

  

المثال الثالث: يحيى السيد الحصور

 

في هذا المثال القصير أسأل نفسي دائماً: ما علاقة الصفة "حصور" بالإمتناع عن الشهوات أو الجنس؟ في كتاب الله وردت مادة هذا الجذر في صياغات وسياقات لا علاقة لها بالشهوة الجنسية منها الصيغة "حصير" التي إرتبطت بجهنم والفعل "حَصِر" مرتبطاً بالقلوب ومنها أيضاً الحصار والإحصار في سبيل الله. وحسب أحد أنواع التصريف الثالث الكبير في نظام التصريف في اللسان العربي يمكننا أن نقارن بين الألفاظ القرءانية التي تختلف مع جذر "حصر" في الحرف الثالث ونجد أن هذه الجذور هي = {حصب، حصد، حصر، حصل، حصن}. ودلالة هذه الجذور تتقارب لأن التمايز يكون بينها في حركة الحرف الثالث الأخير الذي يكمل بناء الدلالة بتوجيه الدلالة الناتجة من الحرفين الأولين المتماثلين بين هذه الجذور. ولأن معظم الكتب في العلوم القرءانية ومنها التفسير التوحيدي (ص 248) تماثل بين دلالة "حصور" والإمتناع عن الشهوات، فنريد أن ننتبه ـ أولاً ـ أن الجذر "حصن" كثيراً ما يقترن بالشهوة الجنسية نكاحاً وزواجاً وليس الجذر "حصر" وـ ثانياً ـ علينا ألا نستدل على موضوعنا بهذه الآية من سورة الرعد كما تفعل بعض المراجع <وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ> وذلك لأن الآية تتحدث عن الرسل ويحيى عليه السلام من الأنبياء غير الرسل.

 

وعليه نريد أن نسأل هل هذا النبي الصالح بوصفه سيداً كان له سلطان سيادة وحصر أعداءه ـ مثلاً ـ حتى أصبحت إحدى صفاته أنه حصور؟ وحبذا لو يكتب أحد القراء في هذا الموضوع ويقارن بين كل الصفات التي جاءت في القرءان على وزن "فعول" ويجيب عن السؤال: هل "فعول" صفة ذاتية تلزم صاحبها أم أنها خارجية تتعداه إلى غيره؟

  

المثال الرابع: أهل الكتاب ومجموعاتهم

 

ومعظم تفاسيرنا وليس التفسير التوحيدي وحده لا تميز بين المجموعات المتعددة داخل المجموعة الكبيرة رغم أن منهج القرءان في التشابه يقود بكل سهولة إلى التفريق الدقيق بين المجموعات الفرعية ضمن المجموعة الكبرى، بل إن هذه التفاسير تخلط بين المجموعتين فالكافرون هم المشركون وهم المجرمون والمتقون هم المحسنون وهكذا. وإذا أخذنا مثال مجموعة "أهل الكتاب" فكيف نميز بين مجموعة "الذين آتيناهم الكتاب" ومجموعة "الذين أوتوا الكتاب" مثلاً ضمن المجموعة الكبرى؟ ولأن تلك الحلقة لم تنتبه لهذا الموضوع المهم فسوف نفرد له مقالة خاصة به ضمن مقالات (إقترانات "الكتاب" في القرءان العظيم).

 

المثال الخامس: كلالة والكلالة

 

مثال الكلالة جزء من قضية الوصية والميراث التي يطبقها معظم أهل الدنيا طبقاً أو قريباً من فقه القرءان العالمي لكل الناس إلا المسلمين فهم لا يريدون دراسة هذه القضية دراسةً علميةً جماعيةً من كتاب الله الذي فصَّلها وتركها لنا لنتدبرها لخيرنا وخير أجيالنا المتعاقبة. وأحببت في هذا المثال أن أنبِّه فقط إلى خطورة زيادة الألفاظ من عندنا أثناء تدبرنا لبعض آيات القرءان العظيم، وليس من همِّ هذا المثال التعرض لأنصبة الوصية وحظوظ الميراث.

 

القرءان فصّل مسألة الكلالة في الآية 176 من سورة النساء (بلفظ الكلالة معرفةً) وتعرض للكلالة الجزئية في الآية 12 من السورة نفسها (بلفظ كلالة نكرةً)، وهذه الأخيرة هي التي نتخذها مثالاً. ومثالنا سوف يكون عبارة "وله أخ أو أخت" من الآية 12 <... وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ>. يقول التفسير التوحيدي (فالإخوان من طريق الكلالة لهم أنصبة متساوية ذكوراً وإناثاً ـ الأخ والأخت لأم لكل سدس وإن كانوا أكثر من ذلك إشتركوا سواءً في الثلث ـ ص355). والزيادة التراثية هي "لأم" في حين أن الآية لم تذكر الأخ والأخت لأم وإنما كانت عامة في الإخوة سواء كانوا لأم أو لأب أو لأم وأب. والتفسير لم يوضِّح أين يذهب باقي التركة لأنه لم يوضِّح أن هذه الآية تتعامل مع حالة الكلالة الجزئية (وجود الزوج إمرأةً أو رجلاً) وليست الكلالة الكاملة (عدم وجود الزوج). وفي حالة الكلالة الأولى إذا توفيت إمرأة كلالة (ليس لها أولاد ولا أبوان ولكن لها زوج) ولها إخوة، يأخذ الإخوة الثلث ويتقاسمونه بينهم بالتساوي ويذهب باقي التركة (الثلثان) للزوج. وإن كان لهذه المرأة أخ أخذ السدس، وإن كانت لها أخت أخذت السدس، ويذهب باقي التركة (خمسة أسداس) للزوج لأنه الوريث الأساسي. وإذا توفيت إمرأة في الحالة الثانية للكلالة (لا أبوان ولا أولاد ولا زوج) عن أخ أو أخت، تذهب التركة كلها في هذه الحالة للأخ أو للأخت. ويا ليت تلك الحلقة الدراسية خصصت بعض جلساتها لتجديد الفهم في قوانين الوصية والإرث ونصرت ابن عباس على ابن سيرين.!!!

  

{4}

 

تلك كانت بعض الأمثلة التي كان يمكن للحلقة الدراسية التفاعل معها من زوايا نظر مختلفة أو جديدة، وفي نقاشي لهذه الأمثلة فلا أدعي أن ما سطرته من رأي أو ما وجهته من أسئلة هو الصواب وغيره الخطأ وذلك لأن هذا مجهود فردي صغير في مقالة صحافية والقرءان حقه علينا التدبر الجماعي المتأني حيث أن فعل التدبر ورد في القرءان خطاباً للجماعة مرتبطاً بالقرءان (في النساء ومحمد) وبالقول (في المؤمنون) وبالآيات (في ص) بينما ورد فعل التدبير ( = تدبير الأمر) مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى وحده (في يونس والسجدة).

 

ولكن أحببت أن أنبِّه الأخوات القارئات والإخوة القراء إلى أن القرءان يتصف بالإعراب والإبانة ويقود متدبره ـ عبر منهج القرءان في تدبر القرءان ـ لبعض أعماقه ومثانيه التي أُوتي الرسول الكريم سبعاً منها. والقرءان مبين على كل مستوياته حيث أن الرحمن علَّم الإنسان البيان وفصّل له أن الكتاب تبيان لكل شيء (التبيان على مستوى الكتاب) وأن القرءان مبين (الإبانة على مستوى القرءان) وأن الآيات بيِّنات ومبيِّنات (التبيين على مستوى الآيات).

 

والقرءان أصلاً ميسَّر للذكر وكتابه مفصَّل وآياته مفصَّلات.

 

وما أرجوه أن نترك إتخاذنا القرءان مهجوراً وأن نودِّع تعاملنا الرخو مع كتاب الله. يا رب.

  

{5}

 

ولأن الدكتور حسن الترابي عالم جليل وفقيه قانوني ضليع فكنت أتوقَّع منه ألا ينساق وراء الفقه التقليدي ـ حتى ولو من علماء حلقة التدارس ـ في مسألة الطلاق في مدوَّنة الأسرة وأن ينتبه أن الطلاق "للعدة" وليس "في العدة" وإن فاته الإنتباه إلى هذه اللام المقصودة فإن تركيب "وأحصوا العدة" كفيل أن ينبهنا إلى أن مدة الطلاق تكون حتى "بلوغ أجل العدة". وفي مدوَّنة العهود كان عليه أن ينتبه إلى الفرق بين "البراءة إلى الذين عاهدتم من المشركين" و"البراءة من المشركين" وأن هناك فرقاً كبيراً بين الأداة "إلى" والأداة "من" أولاً وأن البراءة خاصة بالأنفس لا العهود ثانياً حتى لا نقطع عهودنا مع مَن عاهَدْنا.

 وفي المقالة التالية بعض تفصيل لهاتين المسألتين. والله أعلم. وفي عناية الله.         

 

آراء