حق الجيش الشعبي في تقرير المصير
لم تخفي الحكومة شماتتها في الحركة الشعبية (شمال) التي فتك الصراع الداخلي بضراعها السياسي بعد أن تآكلت قدراتها العسكرية بتطاول الحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق والانسحاب الفعال لأصحاب السلطة في جنوب السودان من حلفها، وقبل ذلك عجزها أن تتصور نهاية لصراعها المسلح سوى النصر أو الشهادة. حتى الرئيس البشير، ويا له من واعظ، نصح المتخاصمين في الحركة الشعبية بترك التشاحن والاقبال على وثيقته “الوطنية”، ذلك أمام اجتماع تنشيطي للحزب الحاكم في ولاية الخرطوم.
لكن، ما الخصومة بين رفاق الحركة الشعبية؟ طرح عبد العزيز الحلو في خطاب استقالته (مؤرخ ٧ مارس ٢٠١٧) المطول جملة قضايا، بعضها خاص بنزاعات بيروقراطية داخل هياكل الحركة القيادية وبعضها بالأهداف التي تريد تحقيقها عبر صراعها العسكري والسياسي ضد حكومة الخرطوم، والأصح بعبارة عبد العزيز “المركز العروبي الاسلامي” والمستفيدين منه وفي صيغة أخرى وردت في خطابه “دولة الجلابة”، وكثير منها دفوعات براءة من عثرات نضال النوبة تحت قيادته.
عرض عبد العزيز على مجلس تحرير جبال النوبة الذي توجه إليه بخطابه “حق تقرير المصير” كهدف نضالي لشعب جبال النوبة يحل محل هدف بناء سوداني علماني ديمقراطي موحد وقد استحال تحقيق الأخير. احتج عبد العزيز لهذه الخلاصة بتقرير التناقض بين المستفيدين من “المركز العروبي الاسلامي” والمهمشين المتضررين منه ثم باستحالة تغيير هذا المركز جذريا بالمظاهرات والعصيان المدني لوحدهما وعليه تهافت التحالفات التي عقدتها الحركة، أو الأصح عقدها ياسر عرمان، مع أطراف هذا المركز المعارضين لحكومة البشير. لم تنجح ثورة أكتوبر ١٩٦٤ أو انتفاضة أبريل ١٩٨٥ سوى في تغيير الوجوه الحاكمة بحسب تقدير عبد العزيز فحلت دكتاتورية مدنية محل أخرى عسكرية لا غير، ومن ثم لا خير للمهمشين يرجى من نضال مشترك مع قوى المركز القديم غض النظر عن تفاوتاتهم فالجاك يا هو الجاك أو كما قال.
جرت استقالة عبد العزيز على الحركة مصاعب أخرى فمجلس تحرير النوبة انتصر لعبد العزيز وأصدر قرارا بحل الوفد المفاوض للحركة الشعبية واعفاء ياسر عرمان من منصبه كأمين عام للحركة. منذها والحركة الشعبية في شغل بنفسها. زار مالك وياسر كاودا وأصدر كل منهما بيانا وآخر يؤكدان فيه أن “كله تمام” ويردان جملة القضايا التي طرحها عبد العزيز على صاحبها بالقول أن العنوان غير صحيح فمجلس تحرير النوبة غير مخول بالنظر في أمور جلل كهذه، ويتهمان في صياغة أخرى جهات ما بالتآمر على الحركة مع تقرير ألا تغيير في هياكل الحركة أو خطها السياسي أو وفدها وموقفها التفاوضيين، ثم يعلنان فتح جبهة قتالية جديدة في دارفور، كده بس.
لم تنجح محاولات مالك وياسر على طريقة “باركوها” في طي الصفحة وقد اندلق كتاب. نقلت تقارير صحفية أن قيادات عليا في جيش التحرير عبروا عن تأييدهم لقرارات مجلس جبال النوبة ثم صدرت بيانات النفي. كرر عبد العزيز اعتراضاته على منهج رفيقيه مالك وياسر في حوار طويل شرح فيه ملابسات استقالته التكتيكية ورد على مآخذ مالك البيروقراطية عليها، إلى من توجه وما شابه. فوق ذلك، فتح مجلس النوبة قناة اتصال بالآلية الافريقية، وسيط المفاوضات مع الحكومة، لينقل إليها قراره سحب الثقة من ياسر والوفد المفاوض فردت عليه بحسب خبر “الجماهير” (١٣ أبريل ٢٠١٧) تطلب تسمية قنوات رسمية. مهما كانت التفاصيل. قيادة الحركة اليوم قيادتان، مالك وياسر وجقود مكوار، رئيس هيئة أركان جيش التحرير، من جهة وعبد العزيز ومجلس تحرير جبال النوبة ومن رأى رأي عبد العزيز، رئيس هيئة الأركان السابق، من قيادات الجيش من جهة أخرى.
الثابت بطبيعة الحال في حركة عسكرية أن الفأس سيقع حيث تصوب البنادق فوهاتها فاتجاهات الحركة المستقبلية تحددها خيارات ضباطها بالدرجة الأولى، أما مجالس التحرير ففي مرتبة تالية. شاهد ذلك الأكيد انقسام الناصر في الحركة الشعبية الأم بين فصيل جون قرنق وفصيل رياك مشار في ١٩٩١ والذي ما زالت عقابيله حية في الحرب الأهلية المشتعلة في جنوب السودان بين فصائل الجيش الشعبي الموالية للرئيس سلفا كير والفصائل المعارضة لحكمه وبينها من يأتمر بأمر رياك. بالإشارة إلى هذه التجربة الماثلة لا نجاة لمالك وعبد العزيز وياسر من المسؤولية عن تهديد صف المقاتلين تحت راية الحركة ومن في ذمتهم من شعب النوبة بحرب داخلية فوق حربهم ضد الخرطوم لن يملك أي منهما لها قيادا إن اشتعلت واكتسبت دفعا ذاتيا كمثل ما فشل ثلاثتهم في الاتفاق على منهج واستراتيجية لنضال النوبة التحرري.
لم يخترع عبد العزيز جديدا بطلبه تقرير المصير لشعب النوبة الذي جعله صنوا لمطلب “الجيشين”، إذ يتوخى عبد العزيز بعبارته أن يظل جيش التحرير “واقفا” لمدة عشرين عام ضمن أي اتفاق مع حكومة الخرطوم، ذلك لضمان تنفيذ الاتفاق والتحول الديمقراطي. ختم عبد العزيز استقالته بغزل في البندقية قائلا أن الاستعمار البريطاني سمح للنوبة بحمل السلاح علنا دون سائر شعوب السودان. لم يعتبر عبد العزيز أدنى اعتبار في حقيقة أن الاستعمار البريطاني صاحب الهيبة كسابقه التركي تعامل مع جبال النوبة كمستودع للمقاتلين بناء على تصور عرقي يقول باستعداد النوبة الفطري للقتال فهم بحسب حاكم كردفان يكتب في ١٩٠٣ “متخلفون متكاسلون ويعوزهم الطموح لتحسين أنفسهم بل لا يخطر لهم على بال”. الواقع أن السلطات الاستعمارية أجبرت النوبة بالقوة على الاندراج في سلك الجندية بعد ما ظهر لها ممانعة مكوكهم مثل مك كادقلي المك رحال، واتخذت التجنيد القسري وسيلة لمعاقبة وتأديب أكثر النوبة ممانعة للسلطة الاستعمارية كالميرى والجمنق فأحبطوا أملها باقبالهم ضمن الكتيبة السودانية الحادية عشر في تلودي على المشاركة في ثورة ١٩٢٤. عادت السلطات الاستعمارية بقوة إلى تجنيد النوبة خلال الحرب العالمية الثانية لتعزيز قدرات قوة دفاع السودان، ذلك بعد أن أمسكت عن تجنيد النوبة خارج الجبال صدا لاستعرابهم ضمن سياسة المناطق المقفولة (صالح ٢٠٠٥، سياسة التجنيد العسكري الاستعمارية البريطانية في اقليم جنوب كردفان، السودان، ١٩٠٠ - ١٩٤٥، الدراسات الشرق الأوسطية، م. ٣١، ع. ٢، ١٦٩-١٩٢). اقتراحي عبد العزيز، تقرير المصير والجيش “الواقف”، ينتهيان عند مفارقة الجيش الذي يملك الأرض المحررة ومن عليها ويفتحان الباب واسعا لمصير مثل مصير شعب جنوب السودان تحت إمرة الجيش الشعبي، جيش التحرير المنتصر الذي جعل جغرافية الدولة الطبيعية والبشرية التي حلت له بالاستفتاء على تقرير المصير ساحة للاحتراب بين ضباطه فهزم نضال امتد، بحسب رأي باقان أموم، منذ دخل محمد علي السودان وعبرت سفنه الحربية سدود النيل الأبيض.
إن لشعب جبال النوبة حقا لا خلاف عليه في تقرير مصيره، وقد أفحم لينين كل محتج في هذه القضية منذ أكثر من مائة عام خلت (لينين ١٩١٤، حق الشعوب في تقرير المصير؛ منشور ضمن لينين ١٩٧٢، الأعمال الكاملة، م.٢٠، ص ٣٩٣-٤٥٤، دار التقدم، موسكو). استعرض لينين في كتابه رأى ماركس القائل أن الحرية لن تتحقق للطبقة العاملة في انجلترا ما لم تقف إلى جانب حق الطبقة العاملة الآيرلندية في تقرير مصيرها وتدعم حق آيرلنده في الانعتاق من الاضطهاد الانجليزي. سخر لينين ما استطاع من موقف الذين تأخذهم الرهبة من تعديل حدود تأسست بعنف الطبقات المسيطرة للشعوب الغالبة وفي خدمة ما تجني من مصالح. عاد لينين إلى ذات القضية مرة أخرى في رسالته إلى مؤتمر حزبه البلشفي عام ١٩٢٢، الرسالة المعروفة بوصية لينين الأخيرة. دافع لينين في رسالته باستماته عن حق الشعوب الواقعة تحت سطوة القومية الروسية في تقرير مصيرها واتهم ستالين بحكم تدخله الدموي في جورجيا للحيلولة دون التطبيق الفعال لهذا الحق باتباع ذات السياسة الشوفينية الروسية لدولة القيصر البائدة (لينين ١٩٢٢؛ ضمن لينين ١٩٧٢، الأعمال الكاملة، م. ٣٦، ص ٥٩٣-٦١١،…).
يطرح هذا الموقف تناقضا طالما أرق بال المثقفين الشماليين من “بيت الجاك” الذين يريدون بشوكة الحركات المسلحة أن يتحقق مطلب التحول “الديمقراطي” لكن يفزعهم حق تقرير المصير، فهؤلاء يستحون الساعة من انتقاد عبد العزيز علنا وهو من هو في مقام القتال كما لا يمكنهم الاتفاق معه وقد بكت حلفهم مع الحركة الشعبية بمن فيه، إمام وتاركين الصلاة. كذلك صمتوا عندما تحول أمل السودان الجديد في جنوب السودان كرات من نار وانسحبوا بلا إعلان من كل انشغال بالجنوب الذي كان حتى ساعة الاستفتاء الفاصلة مستودع القوة المادية والمعنوية للديمقراطية التي تأتي ولا تأتي. تستحق انتهازية كهذه استخفاف عبد العزيز البليغ الذي صور المركز العروبي الاسلامي تنويعات ثانوية على لحن واحد. لمجابهة هذا التناقض لا يكفينا التشديد على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، فهو كما القوميات نشأ عن تاريخ. قدر لينين من التجربة الأوروبية أن الانتصار الحاسم للانتاج السلعي في مرحلة الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية يتطلب أن تسيطر البرجوازية على السوق المحلي، وأن تسود لغة غالبة في جغرافية موحدة سياسيا. عند لينين لا مجال لتفسيرات تستثني الحق في انعتاق القوميات المضطهدة من القوميات المسيطرة بدولة منفصلة حين مناقشة حق تقرير المصير إذ رأي في الدفاع عن هذا الحق مدخلا ديمقراطيا لربط النضالات القومية بالصراع ضد النظام الرأسمالي. وإن نادى لينين بالقضية القومية بكياسته السياسية فقد عدمت ماركسية لينين تفسيرا بينا للنزعة القومية ما جعل منها قضية نشاز خاصة وقد اعتمد لينين حلها ضمن أممية الثورة الاشتراكية، أيان ميقاتها (لينين ١٩١٦، الثورة الاشتراكية وحق الشعوب في تقرير المصير؛ ضمن لينين، الأعمال الكاملة، م. ٢٢، ص ١٣٤-١٥٦).
تفادى ماركس تحدي القومية باستعمال عبارة “البرجوازية القومية” دون كثير تفسير لتقسيمات هذه الطبقة العالمية متى ما تم تعريفها بحسب علاقات الانتاج فكتب في المانفستو الشيوعي أن مهمة البروليتاريا في كل بلد هي، بطبيعة الحال، تسوية أمورها مع البرجوازية التي تليها. في تقصيه التاريخي عرف آندرسون القوميات بأنها مجتمعات متخيلة نشأت عند تضعضع الاعتقاد بأن لغة كتابية بعينها توفر المدخل المفضل للحقيقة المتعالية (الدينية) لأنها لا تنفصم عن هذه الحقيقة وأن المجتمع ينتظم طبيعيا تحت سيطرة سلطة متعالية (مقدسة) وسيادة روح علمانية انفصل فيها التاريخ عن الغيب. من رأي آندرسون أن الاعتبار المقدم في نشأة القوميات هو الأثر الناجم عن وقع الرأسمالية وتكنولوجيا الطباعة على التعدد اللغوي البشري حيث مكنت الطباعة الرأسمالية من اختراع الثقافة القومية عبر وسيلة اللغة المكتوبة. تتبع في كتابه نشأة اللغات الأوروبية الحديثة وكيف نافست اللاتينية حتى حلت محلها حيث شكلت مجالات موحدة للتبادل والاتصال دون اللاتينية وفوق اللهجات المحكية إذ استطاع المتحدثون بألوان من الانجليزية أو الفرنسية ممن لم يكن بمقدورهم التخاطب لاختلاف لهجاتهم التفاهم عبر الكلمة المطبوعة. في هذا السياق نمى إلى وعي هؤلاء القراء أنهم يشتركون مع ملايين آخرين في ذات المجال اللغوي ويجمعهم خيال مشترك هو فضاء القومية المتخيل (آندرسون ٢٠٠٦، مجتمعات متخيلة، ص٥-٤٤). ربما شغلت هذه القضايا ذهن محمد ابراهيم نقد وهو يتساءل أمام مؤتمر اتحاد الكتاب في ميلاده الثاني عام ٢٠٠٦ ماذا قدمت القوى السياسية المسلحة والنخب المرتبطة بها لخدمة لغات القوميات التي يناضلون من أجلها. الجواب أن الحركة الحاكمة للجبال قدمت الانجليزية على لغات النوبة، وعندما تساءل كمال الجزولي لما والعربية هي واقعا اللغة المشتركة بين النوبة أتته سهام الاتهام تترى على منوال “يا عروبي يا جبان”.
ما علاقة كل ذلك بتحرر جبال النوبة؟ عرض عبد العزيز في واقع الأمر لحق جيش التحرير الذي كان يتولى رئاسة أركانه لا حق شعب النوبة في تقرير المصير، فمقدمات عبد العزيز وخلاصاته لا تتسق إلا بتمرين ذهني بسيط يحل فيه جيش التحرير محل شعب النوبة المراد تحريره كل ما ورد ذكر الثاني. في ذلك يقتصر تصور عبد العزيز المطروح لحق تقرير المصير على ساعة الاستفتاء والسيادة السياسية التي قد تنجم عنه صافية للضباط. لم يذكر عبد العزيز بكلمة واحدة التجربة الماثلة أمامه، تجربة استقلال جنوب السودان عن المركز العروبي الاسلامي، حيث دعى الجيش الشعبي مواطنيه إلي تذوق طعم الحرية مرة واحدة وإلى الأبد، في ساعة الاستفتاء تلك، وما إن طلبوا المزيد حتى انقض عليهم بكل بأسه. هذا الغياب بطبيعة الحال مريب، بالذات ومرجع عبد العزيز الأساس في كل ما ذهب إليه هو مقابلة جون قرنق الصورية بين خياري الوحدة في إطار سودان علماني ديمقراطي متعدد القوميات والثقافات والانفصال عنه لتحقيق هذه المعاني في دولة مستقلة. صمت عبد العزيز عن العوامل التي حالت دون تحقق “السودان الجديد” في الجغرافية السياسية التي فاز بها الجيش الشعبي وتلك التي أدت إلى الانفجار الكارثي لقضايا القوميات في جنوب السودان، في واقع الأمر منذ ١٩٩١، كما صمت عن الموانع التي تحول دون أن يستأسد جيش التحرير في جبال النوبة على الذين في ذمته متى ما تحقق له فوز مماثل. للنوبة كل الحق في تقرير المصير، لكن كما بينت التجربة يقع هذه المصير ضمن شروط تاريخية وليس انتخابا بين احتمالات مجردة، فأي مصير يعرض عبد العزيز على شعب النوبة وفيهم تلفون كوكو وتابيتا بطرس ودانيال كودي، بل وفيهم الطيب حسن بدوي.
يبقى احتمال أن عبد العزيز جاء إلى سكة تقرير المصير تائها عن “السودان الجديد” لا باحثا عنه، فالسودان الجديد إن كان له من قوام يبدأ حيث تقف الحركة الشعبية هنا والآن وليس في غد الاستفتاء، يبدأ بالحرية التي حجبتها قيادة الحركة عن تلفون كوكو، ويبدأ بالأمصال التي تنتظرها أمهات النوبة منذ ستة أعوام، بالنوبة والمصائر التي يصنعون لمجتمعاتهم، وليس فقط بجيش التحرير وكيلا عنهم.
m.elgizouli@gmail.com