حق تقرير المصير وتفتيت وحدة السودان
د. الشفيع خضر سعيد
17 July, 2017
17 July, 2017
في المقال السابق، تتبعنا المسارين، القانوني والسياسي، لحق تقرير المصير، وناقشنا كيف تتلاعب دول الهيمنة بالشعار وتستخدمه في تنفيذ مخططاتها لإعادة رسم خريطة العالم السياسية، خاصة منطقة الشرق الأوسط، ويشمل ذلك تفتيت وحدة السودان. وفي الحقيقة، فإن ما أزعجنا حقا، وأثار عندنا الريبة والشكوك تجاه الموقف الأمريكي، إلتزامها الصمت طوال فترة الحرب الأهلية في جنوب السودان حتى العام 2002. وعندما نطقت، كان حديثها، في مفاوضات إتفاقية السلام، داعما لتقرير المصير في إتجاه الإنفصال. وعند تنفيذ الإتفاقية، كان الإستفتاء، وليس أي بند آخر في الإتفاقية، هو الأولوية الأولى بالنسبة لأمريكا، ومارست ضغوطا كبيرة لتنفيذه. والآن، يتكرر ذات الموقف المريب من أمريكا تجاه الحرب الضروس في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. أولا، التجاهل طويل الأمد للحريق الناشب في المنطقتين، وكأن أمريكا تنتظر بلوغ معاناة المنطقتين حدا يدفعهما لرفع شعار تقرير المصير. وثانيا، في ذات الوقت، واصلت أمريكا، مباشرة أو بالوكالة، العمل بمهارة وهدوء لقصقصة أجنحة نظام الخرطوم، بحيث تتناغم خطواته مع إرادتها. وثالثا، بعد جولات التفاوض الفاشلة بين قطاع الشمال ونظام الخرطوم، جهرت بعض الدوائر الأمريكية، وأطراف أخرى في المجتمع الدولي، بالحديث عن تعنت قيادة الحركة الشعبية، وتحديدا كبير مفاوضيها الأستاذ ياسر عرمان، ولم تخف رغبتها في إزاحته، متوافقة في ذلك مع بعض الدوائر في نظام الخرطوم. ويرى مراقبون كثر أن ذاك التوافق لم يكن مجرد توارد خواطر..!. وبفحص مواقف الأستاذ ياسر عرمان، الموصومة بالتعنت، في المفاوضات، سنجدها ليست أكثر من تمسكها بموقف الحركة الشعبية التفاوضي القائم على حل قضية المنطقتين في إطار الحل الشامل للأزمة السودانية، في حين يسعى مطلقو وصف التعنت إلى حصر المسألة في الحل الجزئي. ورابعا، ما جاء في بيانات قيادة الحركة الشعبية حول قيام بعض أفراد هذه القيادة بزيارات سرية إلى أحد البلدان المدعومة من أمريكا، ومباشرة بعد هذه الزيارات، تبنى هولاء الأفراد شعار تقرير المصير، وعبروا عن إستحالة مناطحة ومقاومة مشروع الشرق الأوسط الجديد، القائم على إعادة تقسيم بلدان المنطقة على أسس إثنية ومذهبية، بإعتباره مشروعا إستراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية، ويشمل ذلك تقسيم السودان إلى ثلاث أو خمس دويلات، وأن هذا المشروع بدأ تنفيذه بالفعل بإنفصال الجنوب، وأنه في ظل النظام الحاكم اليوم في الخرطوم، يسهل تنفيذ إنفصالات جديدة أخرى في البلاد..!
وغض النظر عن الملابسات المرتبطة ببروز شعار تقرير المصير مرة أخرى، وكما ظهر في الإستقالة المنشورة والمنسوبة للقائد عبد العزيز الحلو، فإن تبني الشعار لا يجعل صاحبه في موقع الخائن أو المستجيب للإملاءات الدولية أو الذي أدار ظهره لحلفائه ولقضيتهم المشتركة، بل الصحيح أن نناقش الأمر بأبعاده السياسية والفكرية، ونحاجج بوجهة نظرنا التي لا تتفق مع طرح الشعار في الظرف الحالي المحدد، وتراه إجابة غير صحيحة لحل قضية المنطقتين. وفي ذات الإتجاه، لن تتجاهل محاججتنا ما يحدث الآن في جنوب السودان، والذي تقرر مصيره برميه في التهلكة، ولا نعتقد أن منطقة جبال النوبة محصنة ضد ذات المآلات. وبالطبع كل محاججاتنا هذه، وغيرها، تصب في محاولة الوصول إلى فهم مشترك لصالح الوطن وأهل السودان كافة. أما إيماننا الراسخ بعدالة قضية منطقة جبال النوبة، فلن نحيد عنه أبدا، مثلما لن نسمح للزهايمر السياسي أن يتمكن منا حتى نتجاهل المواقف الوطنية للقائد عبد العزيز الحلو وقيادات الحركة الشعبية في مناطق الجبال، والذين ظلوا يضربون المثل الواضح في معنى التضحية والفداء، من أجل قضيتهم العادلة، ومن أجل قضية السودان عامة. وحديثنا هذا ينطبق بذات القدر على قادة الحركة الشعبية الآخرين، وفي مقدمتهم القائدان مالك عقار وياسر عرمان. والحركة الشعبية ليست محصنة ضد الخلافات والصراعات السياسية والتنظيمية والفكرية، أو حتى الإنقسامات، كما أن قادتها ليسوا معصومين عن إرتكاب الأخطاء، البسيطة أو الجسيمة. لكن، أن يتحول الخلاف إلى تخوين القائدين، عقار وعرمان، ويصوران وكأنهما «باعا القضية»، فهذا غير مقبول، لأنه غير منطقي ولا أساس له في الواقع. فتاريخ الرجلين، كتاب مفتوح مليء بالتضحيات والإجتهادات من أجل حل قضية المنطقتين، وحل الأزمة السودانية ككل. في الظروف العصيبة التي يمر بها السودان حاليا، نعتقد أن المطلوب هو تقرير مصير الوطن والشعب السوداني كله، وليس مصير هذه المجموعة أو تلك من المجموعات المضطهدة والمهضومة حقوقها. وهذا يعني الكفاح المشترك بين كل أبناء الشعب السوداني، غض النظر عن إثنياتهم أو دياناتهم أو ثقافاتهم أو جهوياتهم، في الأطراف المهمشة وفي المركز، من أجل تقرير مصير الوطن الذي بات في مهب الريح. فالأزمة المزمنة وعميقة الجذور في بلادنا، والتي تفاقمت بالممارسات والمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة التي تعاقبت على الحكم منذ فجر الاستقلال، بلغت اليوم، وبسبب سياسات وممارسات حكم الإنقاذ، أقصى مدى لها، قاذفة بالبلاد إلى الهاوية.
والكفاح المشترك يعني أن نعمل جميعنا على إعادة السودان مرة أخرى إلى منصة التكوين، حتى نتصدى للقضايا والأسئلة المصيرية المتعلقة بالمشاركة العادلة في السلطة والإقتسام العادل للموارد والثروة، بين مختلف مكونات الشعب السوداني، ومختلف مناطق البلاد، بما يكفل وقف الحرب الأهلية وإزالة أسبابها وتحقيق السلام العادل وإعادة صياغة وبناء الدولة السودانية الموحدة وفق مشروع وطني يحقق الإنتقال من مجرد الإعتراف بالتنوع والتعدد العرقي والديني والثقافي، إلى ممارسة فعلية لصالح المواطن والوطن، أساسها الديمقراطية وسيادة حكم القانون والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. وفقط، عبر الكفاح المشترك وحده، يمكننا إنقاذ السودان وإنتشاله من وهدته والحفاظ عليه موحدا قويا قادرا على هزيمة كل المخططات الرامية إلى تجزئته وتفتيته، غض النظر عن إرادة وطغيان قوى الهيمنة العالمية.
نقلا عن القدس العربي