حكايات الحلة ـ الحكاية الاولى .. بقلم هلال زاهر الساداتى
هلال زاهر الساداتي
25 July, 2012
25 July, 2012
اورد هذه المقدمة حتى لا يزايد احد علينا فى هذه الايام المجيدة لانطلاق ثورة الشعب فى ارجاءالسودان ضد سلطة البغى والاستبداد و الفساد،نظام الانقاذ البئيس، فقد كتبت منذ سطو طغمة الاخوان المسلمين على السلطة الشرعية عديد المقالات ان لم تكن عشراتها فى الصحف الالكترونية ضدهؤلاء الطغاة البغاة ،فلا جديد لديهم سوى المزيد من الوحشية والسفالة والجهالة ،وشتان ما بين من ما يولغون فيه ويتصفون به كالفرق ما بين العلم والجهل ، والصدق والكذب ، والايمان والكفر ، والجبن والشجاعة ، والكرم والبخل ، والوحشية والانسانية ، فهم قد اجتنبوا كل فضيلة واحتضنوا كل رذيلة .
وهناك كتاب بل مواطنون شرفاء يوثقون بالمستندات لجرائمهم ليوم حساب و هو آت وعن قريب ان شاء الله . وتأتى كتاباتى التالية عن ( حكايات الحلة ) اضافة لما جاء فى كتابى( امدرمانيات ) وهذه الحكايات نشرت سابقا فى عدة صحف وابغى جمعها ونشرها لاحقا فى كتاب .
نحن شعب يتصف بعديد من الصفات الجميلة التى ميزتنا بين الشعوب فى البلاد العربية ، عدا خصلة واحدة ، ويا للغرابة نحن نعلمها ،ونصرعليها وكأنها وسام امتياز يزين صدورنا ، وهذه الخصلة النافرة هى احساسنا وتقديرنا للوقت وحرصنا على الالتزام بالزمن والمواعيد ، وربما يصدق علينا المثل بان مواعيدنا مواعيد عرقوب ، وعرقوب هذا كانت العرب فى الجاهلية تضرب به المثل فى نكث الوعد وفى ما يعنى التاخير والتسويف والمماطلة ، وربما انحدرت الينا عبرالقرون جينات الجد الاكبر عرقوب فى دماء بعض ذوى الاصول العربية من السودانيين ، وشاعت (العرقوبية ) بين سائر الاعراق الاخرى ! فصارت خصلة وراثية متاصلة ، ولا عيب فى تلمس مواطن الخلل فى حياتنا والاعتراف بها ومحاولة معالجتها، ولكن كل العيب فى اغماض اعينناوانكار مآخذنا السلوكية والاصرارعليها.
ولناخذ مسالة المواعيد ،فنحن لا نعين وقتا بالتحديد لملاقاة صديق اورفيق عمل او لاى غرض اخر ، فعندما يسالك الشخص عن متى يقابلك ، تجيب : بعد العصر او بعد المغرب ، وهذه الاجابة مطاطة تحتمل ان تكون بعد ساعتين او ثلاث ساعات أو ساعة واحدة بعد العصر او المغرب ، وبذلك نتفادى تعيين ساعة محددة للقاء كالساعة الخامسة مثلا . انظرالى بطاقات الدعوة للاعراس والتى نختمها بعبارة شكرا او العاقبة عندكم فى المسرات وكل من العبارتين لها معناها عند اهل امدرمان . نكتب فى بطاقة الدعوة : ندعوكم لتناول طعام العشاء فى تمام الساعة السابعة مساء ، ويقول صاحب الدعوة انه حدد هذا الموعد لياتى المدعوون فى الثامنة او التاسعة كالعادة ،ويصدق حدسه ولا يخيب الدعوون ظنه ، فيقول لك : ( ياخى دى مواعيد سودانية ..
كان عمنا احمد ضابطا عسكريا صارما مخيفا شكلا وموضوعا ، فهو ضخم الجثة ، فارع الطول ، حاد عنيف الطبع ، يخشاه الكل ، وهو يتقيد بالضبط والربط ـبلغة العسكريين ـ حتى مع اهل بيته وفى حياته الخاصة . وولد له ولد ، وجرت العادة فى السبوع اى الاسبوع لولادة المولود ان تعمل له ( السماية ) وهى احتفال تذبح فيه ذبائح ، ويدعو الوالد جماعة الختمية لاقامة المولد ، وذلك لان معظم اهل الحلة يتبعون الطريقة الختمية ، ويشترك فى المناسبة السعيدة رجال ونساء الحلة . واخبر العم احمد جماعة الختمية بان يأتوا فى تمام الساعة الثامنة مساء وأكد عليهم عدة مرات بقوله : ( تمنية يعنى تمنبة ) ولما تهيأ الجماعة ولموا شملهم وحضروا للمنزل وهم يرددون اناشيدهم الشجية كانت الساعة تشير الى التاسعة ، فوجئوا بان باب المنزل مقفل والانوار مطفأة ، وتحيرالقوم ثم طرقوا باب المنزل ، وخرج اليهم العم احمد وخاطب نقيب الجماعة : ( دلوكت الساعة كم ) ، ورد النقيب ( والله جنابك تسعة او بعد تسعة ) وقال العم احمد (طيب وانا قلت ليكم شنو مش أكدت تجو الساعة تمنية ، خلاص مافيش سماية ) واقفل باب المنزل فى وجوههم.
ومن المفارقات اننا نصف من يلتزم بدقة المواعيد بانه انجليزى ، او مواعيده انجليزية ، وذلك تندرا او تهكما ،وليتنا تأسينا بالانجليز فى دقة المواعيد والانضباط ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها ، وهذا سلوك حضارى راقى .ويحضرنى هنا قصة ذلك المزارع الكسول فى مشروع الجزيرة الذى كان ، فقد تكاثرت الحشائش فى زراعته ، وعندما يلفت المفتش نظره الى ذلك يجيبه فى كل مرة مشيرا بلحيته الطويلة الى بعيد ( والله بكرة احشها ليك لى هنوك ) فضرب به المثل القائل ( حشاش بدقنه ) وهذاالفعل يدخل فى باب الخلف بالوعد والتسويف يأتيه حفدة احفاد عرقوب !
ومن المقولات الشائعة لدينا مقولة ( ياخى الدنيا طارت ) ومثل هذه الاقوال مدمرة وتشجع على الكسل والتواكل ، وكذلك قول ان شآء الله فى غير موضعها ، فبداهة ان كل شىء بمشيئة الله ولكن الفعل بايدينا ، فمقولة ( ان شآء الله ) لا تعنى ان الامر مؤكد التحقيق ، وانما يفتح مجالا واسعا للتسويف والابطاء ، وربما كانت فئة الحرفيين هم الاساتذة فى التعرقب ( من عرقوب ) اى فى اخلاف الوعد ، فكم من مرة تذهب وتعود للترزى من اجل خياطة قطعة قماش جلابية او عراقى او بنطلون ، وكم من مرة تذهب للميكانيكى لاصلاح عربتك ـ اذا كنت تمتلك واحدة ـ وتعود بدون ( خفى حنين) !
اما الذى فاق الاولين والاخرين فى السفه الادارى ان صح التعبير ما جاء من امر المدير السودانى ، وقد رجعت لمقال لى يعود الى عام 2002 جاء فيه ان جريدة الاهرام المصرية عدد9يونيو 2002نشرت خبرا نقلته عن جريدة الراى العام السودانية فحواه ان مدير احدى المؤسسات العامة فى السودان علق على باب مكتبه لافتة تطلب عدم الازعاج لانه يشاهد احدى مباريات كاس العالم التى كانت تجرى فى تلك الايام ، وجاء فى اللافتة : ( عفوا . ممنوع الدخول . المدير يشاهد مباراة انجلترا والسويد ) .واتخيل ذلك المدير مادا رجليه ويحتسى العصير المثلج مداعبا لحيته الانيقة باصابعه وهو يستمتع بمشاهدة المباراة ، وهو يقول فى نفسه فليذهب وقت الدولة والعمل ومصالح المواطنين فى ستين داهية .واحسب ان ذلك المدير العبقرى بعد ان بان اثمه جهارا قد نقلوه االى موقع اخر او وظيفة اخرى افضل واحسن كما عودتنا حكومة الانقاذ فى مثل هذه الامور من قبل !
ان الوقت والاداءفى الدول المتحضرة المتقدمة يحسب بالدقائق والثوانى ،فالعامل والمستخدم يتلقى اجره عن كل ساعة عمل، والمحامى يحسب الاستماع الى الزبون بالساعة ، فكل ساعة لها ثمن لديهم . .واما نحن فنهدر ساعات العمل فى الفطور والونسة وقراءة الجريدة والتحدث فى التلفون وفى الصلاة فى عهد الانقاذ دون وخزة من ضمير وبلا احساس بذنب ، وتطرد حياتنا على هذه الوتيرة من العشوائية ( والسبهللية) ويبدو ان مقولة الوقت من ذهب انقلبت عندنا الى الوقت من تراب .
وفى شهر رمضان الفضيل الذى نتقيد فيه بتوقيت محدد للافطار والامساك، نامل بان نتعلم منه المحافظة على المواعيدوالجدية فى احترام الوقت .
هلال زاهر الساداتى
Hilal Elsadati [helalzaher@hotmail.com]