حكاية تلفاز :الحلقة الثانية

 


 

الياس الغائب
21 November, 2022

 

لم يكن العمل بالجامعات الإقليمية الجديدة أمراً سهلاً. فقد كانت تنقصها كل متطلبات الجامعات و ذلك؛ لأنها لم تقم على فلسفة أكاديمية بقدر ما هي قامت على فلسفة سياسية هدفها حشد أكبر عدد من الشباب حتى يتم تنظيمهم إدارياً و تجنيدهم سياسياً لصالح الجبهة الإسلامية القومية. وإعتقد االنافذون و القائمون على أمر حزب الجبهة الإسلامية القومية أنهم يستطيعون أن يهيمنوا على قطاع كبير من الشباب إن هم إستطاعوا أن يقيموا جامعات إقليمية ويستولوا على إتحاداتها كما الحال في جامعة الخرطوم. في دارفور، الوالى هو الذى يحدد موعد فتح الجامعة و بدأ الدراسة (كما إتضح من اللقاء السابق)، و وضع البرامج الثقافية و الاجتماعية و تحديد مسار الجامعة، ويتدخل في الذى يعنيه و الذى لا يعنيه. يقوم بالزيارات المفاجئة فيربك بذلك الإدارة و الأساتذة و الطلاب.
هذه الجامعة الوليدة التي لم تكتمل مبانيها والتي كان الكثيرون يعتبرونها جامعة مثالية كانت تشكو الكثير المثير، كانت تشكو من مشاكل كثيرة و معقدة. تشكو من نقص حاد في القاعات و المعامل و المعدات و الأدوات و الوسائل التعليمية و الأساتذة و ضغط بعض المقررات في زمن وجيز و تأجيل بعضها إلى وقت لاحق و عدم انضباط في ترحيل الطلاب بالإضافة إلى سيف الإنقاذ المسلط على الرقاب و أحكام قضاته الجاهزه. و لقد قمنا بالتدريس في مناخ تنعدم فيه الحرية الفكرية و الممارسة الديمقراطية و السماحة الأكاديمية و الجامعة تحت إدارة نائب مدير(جبهجى) ملتزم نسبة لغياب مديرها المتواصل و ذلك؛ إما لحضور دورة جديدة للدفاع الشعبى أو لسعيه المحموم بحثاً عن أساتذة و كتب و معدات.
و مرت الأيام وكان التلفاز حاضراً و شاهداً. دعا الوالى لإجتماع طارئ لمجلس إدارة الجامعة ، وشن هجوماً عنيفاً على الجامعة و القائمين على أمرها. إنتقد الوالى بعنف مدير الجامعة شخصياً البروفسير إبراهيم الأمين حجر و وصفه بأنه رجل أكاديمى متحجر لا يصلح لللمرحلة، قائلاً: نحن في هذه الولاية لسنا في حاجة إلى أكاديميين مثلك، نحن في حاجة إلى أكاديميين سياسيين. على الأستاذ الجامعى أن يخرج للناس في المنابر العامة و في المساجد واعظاً و مرشداً ليفقهم أمور دينهم و دنياهم، لا أن ييختبئ في الحرم الجامعى قابعآ في صومعته بين أضابير الكتب و قاعات الدرس و المعامل. سبحان الله أصبح الإنضباط الأكاديمى و الغيرة المهنية مسبة! و كان واضحاً من هذا الحديث أنه يعنى بلغة أهلنا الطيبين "الكلام ليك يا المطير عينيك". و أسقط في أيدى الجميع؛ لأنه لم تكن هنالك فرصة للرد على الوالى، حتى رئيس مجلس الإدارة الدكتور على حسن تاج الدين قد أسقط في يده أيضًا. بعدها إجتمع بنا مدير الجامعة و أطلعنا على قراره بالإستقالة و طلب منا أن نواصل المشوار. و كان أكثرنا حماساً لإقناعه هو نائبه الدكتور إبراهيم آدم إسحق و كنا نعلم علم اليقين أنه كان يطير من الفرح و السعادة بالرغم من الكلام المعسول المنمق المهذب الجميل الذى يكاد يقطر حليباً و شهداً؛ لأن كل هذه المصائب كانت من وراء ظهره.
إن إعتصم الطلاب بمبانى الجامعة ضد أية سياسة أكاديمية فنحن المسؤولون في نظر جهاز الأمن و إن هم خرجوا في مظاهرة ضد النظام فنحن كذلك. و كثيرًا ما تخرج الولاية في مسيرات سياسية ضخمة كلما تحقق لأنصار الجبهة اإنتصار و لو ضئيلاً في الجنوب، تطالبنا الإدارة و الجهات الأمنية بالمشاركة في الخروج و إبداء التعبير عن الفرحة و رفع شعارات الجهاد و الإستشهاد. و حين لا نخرج نتهم بأننا ضد النظام و طابور خامس يسعى لزعزعة الأمن و الاستقرار. و هكذا، إن إعتذرنا يوماً للطلاب في قاعة المعمل عن شح إمكانات المعمل ، فُسّر كلامنا على أنه تحريض. كما أصبح الوقوف مع الطلاب خارج قاعات الدرس جريمة لا تغتفر. أما إبداء الرأي و الرأي الآخر المخالف حتى و لو بغرض المصلحة العامة و في مسألة أكاديمية بحتة يعتبر إساءة للوطن و العقيدة و خيار الأمة الحضارى
هذه العوامل مجتمعة بالإضافة إلى الإضرابات المتكررة و إستقالة المدير وعوامل أخرى جعلت من المناخ الأكاديمى مناخاً طارداً غير معافى مما جعلنى أقدم إستقالتى. كتبت إستقالتى يوم 16 يونيو 1993 و تركتها عند أحد الزملاء الأصدقاء ليقوم بتسليمها للإدارة بعدمغادرتى الفاشر. و هذا ما تم بالفعل. و ذلك لأن الإستقالة فى حد ذاتها تعتبر جريمة ضارة بالوطن و تصب فى خانة تخريب موارد البلادالإقتصادية و البشرية . وغادرت أنا و الصغيرة سلمى ذات العامين إلّا أربعة أشهر و زوجتى الحامل ذات السبعة أشهر و التي رفضت سودانير حملها إلّا بتعهد طبى. غادرنا، ثلاثتنا، الفاشر بحقائب ملابسنا فقط ، تاركين البيت بما فيه، و لم يغادر التلفاز معنا.
في الخرطوم، لم يقبل وزير التعليم العالى و البحث العلمى إستقالة بروفيسور حجر و إنما عينه مديراً مكلفاً لجامعة النيلين (جامعة القاهرة الفرع) ليضرب به المصريين و يخوض به تجربة المصادرة و السودنة المجهولة العواقب. و في الخرطوم أيضًا، واصلت زوجتى السفر هي و الصغيرة سلمى إلى كسلا و بقيت أنا في إمتداد ناصر مع العزيز عوض الله عريس و زوجته الحسناء آمال على و كريمتيهما الصغيرتين ريم و ريّان. و التحقت بجامعة النيلين متعاوناً فى يوم 24 يونيو 1993. و لقد أتاح لى هذا التعاون أن أقف عن قرب على تجربة نقل تلك المؤوسسة من السيادة المصرية إلى السيادة السودانية. قد أختلف كثيراً مع الجهة التي أصدرت القرار و التوقيت و الكيفية التي تمت بها السودنة، إلّا أننى، و الحقيقة تقال، طربت أيما طرب للفكرة و إن كنت أرى أن هنالك أسلوب آخر أفضل للتنفيذ. طربت للسودنة؛ لأن جامعة القاهرة فرع الخرطوم في تقديرى كانت مستعمرة مصرية و ليست مؤوسسة أكاديمية، بها سبعة و عشرون ألف طالب و طالبة نظاميين و منتسبين و لا يوجد بها سودانى و احد أستاذاً كان أو موظفاً، إلّا عشرون عاملاً فقط من الإقليم الجنوبى. كما أن الطلاب المصريون الذين لا يجدون فرصاً في الجامعات المصرية العريقة يقبلون بها لفترة قصيرة مؤقته، يقضون عاماً أكاديمياً واحداً ثم يتم تحويلهم إلى الجامعات العريقة. وهناك حكايات تمس الاقتصاد و الأمن القومى السودانى، منها على سبيل المثال كأن تستدعى السفارة المصرية بالخرطوم من تحتاج إليهم من رجال الأمن و الإستخبارات تحت غطاء الأساتذة الزائرين.
أخذت منّا السودنة في كلية العلوم ثلاثة أشهر تقريباً. كنا في البداية ثلاثة فقط، بروفيسور ياسين النجومى عميد الكلية، مسجل الكلية و شخصى. كان برنامجى خلال هذه الأشهر الثلاثة ثابتاً لم يتغير أبداً. أخرج في الصباح الباكر، أركب الحافلة إلى وسط الخرطوم، أمشى باقى المسافة آلى كلية العلوم راجلاً. و في آخر اليوم أى في الثانية ظهرًا أركب مع بروفيسور نجومى إلى نادى أساتذة جامعة الخرطوم ، ألتقى الأصدقاء عبدالمنعم هلالي، صديق بابكر، إبراهيم خالد، أبوالقاسم إبراهيم و آخرين، نتغدى، نتآنس حتى الساعة الخامسة مساء، تكون شمس الصيف قد هدأت و بدأت تبرد قليلاً فيحلو الجو و يحلو المشى فأمشى راجلاً إلى إمتداد ناصر. و هكذا كل يوم.
واجهتنا تحديات كثيرة في البداية ولكن أظرف تحدٍ أخذ من وقتنا الكثير و جهداً مقدراً كان كيف نفتح أبواب و مكاتب و قاعات و معامل كلية العلوم التي تقع في مبنى من خمسة طوابق ليس به مصعد. المبنى حديث البناء ولكن لم يكتمل تركيب المصعد فيه برغم تجهيز البئر. وجدنا كل مفاتيح الكلية في كرتونة واحدة دون وجود ديباجات عليها توضح هوية كل مفتاح لا أدرى كيف كان يتعامل معها المصريون !. تزامن تأميم الجامعة وحصارها من قبل أمن النظام مع إمتحانات نهاية العام. و كان بروفيسور نجومى حريصاً كل الحرص على سرية عملنا و نحن نحاول فتح الأبواب المغلقة بحيث لا يتسرب شيئ ذو أهمية؛ لذلك رفض أن نستعين بأى عمالة من خارج الكلية أي من خارجنا نحن الثلاثة. فكنا نفتح الباب في حذر و نمشى في حذر و نجول ببصرنا في حذر و نرتب ما نجد من أوراق و نسمى المفتاح المعنى و ننتقل إلى باب آخر و هكذا كنا نجرب كل المفاتيح، قد نوفق من البداية من أول وهلة و نجد المفتاح المطلوب و قد نجده في منتصف الطريق و قد لا نجده إلّا في النهاية بعد أن نكون قد جربنا كل المفاتيح. هل أدركت قارئ العزيز حجم معاناتنا ؟
ماذا وجدنا ؟ وجدنا جدول الإمتحانات .. وجدنا مواداً أُمتحنت و مواداً لم تمتحن. مواداً أمتحنت و صححت و رصدت، و مواداً إمتحنت و لكن لم نجد لها رصداً ؟ إتضح أن بعض المواد حملها الأساتذه معهم إلى بيوتهم و أصبح الوضع من حملوه معهم من مواد بقى معهم و لم نطالبهم به و من وجدناه في مبنى الكلية تعاملنا معه. فكنا نجتمع كل يوم مع العميد نديرعملنا اليومى في مكتب واحد أرضى؛ لأن مكتب العميد كان في الطابق الخامس. و بدأت مجموعتنا تكبر و تكبر مع إستيعاب الأساتذة الجدد، و حين رفع المدير القائمة بالأساتذة الذين تم إختيارهم إلى وزير التعليم العالى و البحث العلمى للتصديق عليها و إعتمادها ، أعتمدها الوزير كلّها عدا اسمى، كتب أمامه .." يرجع إلى جامعته". سألت العميد يوم ذاك عن كيف تم تعيينه عميدًا لهذه الكلية ؟ قال: سمعت اسمى و القرار مثل كل الناس في التلفزيون، الوزير من جيلى و زميل دراسة ولكن توجهاتنا الفكرية مختلفة و في أول لقاء لى معه سألته :
" ناسك كملو و ألّاشنو يا إبراهيم ؟ قال لى
"ما كملو يا نجومى لاكين دايرك تأسس لى الكلية"
"قلت ليه تأسيس كلية زى دى داير قروش ، بتدفعوا ؟
"قال لى بندفع يا نجومى"،
" توعدو ؟"
" بنوعد يا نجومى".

eliaselghayeb@hotmail.com
الياس الغائب … كوبنهاجن

 

 

آراء