حكومة رزق اليوم باليوم …. بقلم: بابكر عباس الأمين
رزق اليوم باليوم هو مبدأ ومصطلح يستخدمه الشخص السفيه (بالمعني القرآني) الذي لم يتلقَ تعليماً وليس لديه مهنة أو صنعة. يذهب هذا الشخص ليحتطب أو يعمل حمَّالاً في السوق ليحصل علي بضعة جنيهات تسد رمقه أو رمق أطفاله ليوم واحد, ثم يعود لمنزله حامداً لله شاكراً إياه علي نعمه وآلائه. ثم يذهب اليوم التالي ليحصل علي قوت هذا اليوم فقط وهكذا دواليك حتي ينقضي أجله. ومشكلة صاحبنا هذا هو اضطراب حاله عندما يحدث له أمر طاريء كالمرض أو المصيبة أو الكبر. أما الذي حصل علي قدر من التعليم ولديه مهنة أو وظيفة, وله نصيب من الوعي فهو يحتسب للمستقبل, ويدخر للطواريء, ويخطط لوضعه كيف يكون بعد سنوات وبعد أن يتقاعد ويصيبه الهرم. المثال الأخير في سياقنا هذا هو الأنظمة التي تخطط لبلادها في المستقبل أين تكون بعد عقد أو عقود كما تحتسب لأي طاريء وكيفية لعلاجه.
والمثال الأول هو نظام المشروع الحضاري الذي يدير البلاد علي أساس يومي. وصاحبنا المقتنع برزق اليوم باليوم معذور لأنه سفيهاً لم ينل قصداً من التعليم. بيد أن المحافظين الجدد بينهم حملة دكتوراه أكثر من كل الأنظمة التي مرت علي هذه البلاد, مما يعني ضيق أفقهم وعجزهم الفكري. وقد بلغ قصر النظر بنظام الخرطوم درجة أنه لا يتحوط حتي للمسائل المتوقعة ناهيك عن الطواريء.هذه الحقيقة تتجلي بوضوح في تجاهل أهم بند في ترتيبات الانفصال الوشيك هو ترسيم الحدود, التي تُركت لآخر لحظة كأنها ترسيم ميدان كرة قدم. أو كأن اتفاقية نيفاشا قد تم توقيعها قبل أشهر معدودة. هذه حدود يقارب طولها الألفي كليومترا تمتد عبر مناطق خالية من البنية التحتية, مما يعني أنها أمر عسير. كما أن بها بؤر ملتهبة هي مناطق حولها خلاف, تمثل 20 في المئة من طول الحدود, كما ذكر نافع بالأمس. ظهر مقترح مؤخراً يقول أن يُترك ترسيم الحدود إلي ما بعد الاستفتاء والانفصال. وهذا خطل الرأي بعينه, لأن نقاش الحدود بعد الانفصال أمر يستعصي أكثر من قبله. ذلك لأن الأمر سيكون حينئذ بين دولتين مستقلتين تسعي كل منهما لبسط سيادتها علي أكبر مساحة ممكنة.
لقد أدي اتباع نظام المشروع الحضاري لمبدأ رزق اليوم باليوم, وهو جزء من نظرية الرزق علي الله لصاحبها وزير الخارجية, إلي أن تصبح بلادنا جاذبة للنفوذ الخارجي والوساطات جذب مثلث برمودا للسفن والطائرات. الكل يسعي لنفوذ أو يريد أن يساهم في حل مشكلات السودان من الشرق والغرب ودول الجوار. ولا أعلم بلداً في هذا الكوكب به هذا العدد من الوسطاء والدول الساعية للنفوذ: لجنة الوساطة المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي, لجنة الحكماء, مجموعة الايقاد, الشقيقة مصر, القيادة التاريخية الليبية, غرايشن, مبعوث دولة الاستكبار, جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس, ومجلس الأمن الذي يزور وفده السودان ويرفض لقاء رئيسنا المفدي.
ينتهج نظام المحافظين الجدد مبدأ رزق اليوم باليوم أيضاً مع الاتفاقيات التي عقدها مع الأحزاب والحركات الإقليمية. يتخذ النظام من تلك الاتفاقيات مسكنات مؤقتة لتفريغ شحنة السخط الإقليمي علي غياب التنمية والخدمات, ثم إيداعها في مكان آمن في مكتبة القصر أو دار الوثائق دون تنفيذ. هذا ماحدث مع الاقليم الشرقي الذي لم يجد مثقال ذرة من التنمية المنصوص عليها في إتفاقية جبهة الشرق الموقعة عام 2006. وهذا ما حدث أيضاً مع حركة تحرير السودان فصيل أركو مناوي, حيث تنصلت الحكومة من بنود اتفاقية أبوجا, مما أضاف فصيل جديد للتمرد في دارفور. يستخدم التتار تلك الاتفاقيات أيضاً لشق صفوف الحركات والأحزاب بغرض إضعافها, باعتبار أن هذا نوع من الذكاء والدهاء.
لم يجد حكام الخرطوم وقتاً في الفترة الانتقالية لترتيب أمور الانفصال وتداعياته لأنهم كانوا مشغولين بالأهم وهو تزوير الانتخابات, والسيطرة علي موارد وثروة الأمة, وبيع التراب السوداني للأجانب (مشروع الجزيرة, أراضي شرق النيل ...إلخ). والنتيجة هي الوضع الملتهب الحالي, من قصف طيران الشمال لمواقع جنوبية, وتبادل التصريحات العدائية, مما ينذر بالحرب. نخشي من اندلاع الحرب لسبب واحد هو أن آثارها لن تقع علي النظام أو الطبقات المتحالفة معه, إنما ستقع علي المواطن الذي تفاني وأبدع حكام الخرطوم في إثقال كاهله بما ينوء بالعصبة أولي القوة. وإن كان التقرير الذي صدر مؤخراً قد أشار إلي أن تكلفة الحرب القادمة ستبلغ مئة مليار دولار, فإن الخسارة الإجتماعية ستبلغ أضعاف هذا الرقم. وإن كان شعب السودان قد فُرض عليه العودة للعواسة وأكل الدخن في حالة الانفصال بدون حرب, فلا أدري ماهي الوصفة الجديدة التي سيفرضها عليه التتار حين تشعل الحرب أوزارها.
(abass_a2002@yahoo.com)