حمدوك في القاهرة وحديث المصارحة
التقي رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بمبنى مؤسسة الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية بعدد من الباحثين و المفكرين و آهل الرأي و الأكاديميين. تحدث حمدوك بعيدا عن حديث العواطف التي اعتادت عليها النخبة السياسية في وادي النيل، و كان جريئا و واضحا في تناول موضوعاته، ما أسماه المسكوت عنه، حيث فتح ملفات الخلافات بين الدولتين و الحديث فيها بكل صراحة و وضوح و تشمل " ملف حلايب و شلاتين و أبورماد – الصورة النمطية المتبادلة أن كانت وسط المثقفين أو العامة في البلدين – تصور التاريخ" و هي القضايا التي تشكل كوابح تمنع تطور العلاقة بين دولتي وادي النيل. و أضاف قائلا حمدوك أن تاريخ الشعبين السوداني و المصري يمكنه خلق منارة للعالمين الأفريقي و العربي، خاصة أن التغيير الذي حدث في السودان عميق و نوعي ساهم فيه كل الشعب السوداني، أن الثورة في السودان تواجه تعقيدات كثيرة جدا، و عدة انتقالات فهي تسعى للانتقال من الحرب إلي السلام و من الشمولية للديمقراطية و من التشظي للوحدة.
أختار الدكتور حمدوك المكان المناسب الذي يجب أن يطرح فيه قضاياه بكل وضوح و صراحة، أن النخبة التي تشتغل بالفكر و المعرفة هي المناط بها أن تخلق مسارا جديدا في العلاقة بين دولتي وادي النيل. و الانتقال بها من التعريف القديم المحفوظ في الكتب الصفراء و الذي لم يتحرك قيد أنملة من مكانه، بأنها علاقة " تاريخ مشترك و لغة و دين و موروث " و غيرها من المصطلحات التي لا تعرف غيرها النخب السياسية التقليدية. حيث أن العلاقة في حاجة إلي مصطلحات جديدة، قائمة علي "التبادل التجاري و المنافع المشتركة، و رفاهية الشعبين و تحسين الخدمات و تحسين و رفع مستوى المعيشة و مشاريع التكامل" المصطلحات التي تجعل العلاقة بين الدولتين و الشعبين متشابكة تشابكا حقيقيا لا تنفصل من بعضها البعض. أن تغير المصطلحات يحتاج أيضا لتغيير يحدث في طريقة التفكير السائدة. أن العلاقة المطلوبة في حاجة إلي الخروج بالعلاقة من دائرة صراخ الإعلام ذو الثقافة المتواضعة في البلدين، إلي المؤسسات القائمة علي المعرفة و الفكر، و هؤلاء هم المطلوبون في عملية التأسيس الجديدة لوضع التصورات التي تنهض بالبلدين.
أن حمدوك عندما قال يجب أن تفتح ملفات المسكوت عنه، قد وضع الحوار في مساره الذي يدفع بالعلاقة نحو أفاق جديدة، باعتبار أن قضية الخلاف حول " حلايب و شلاتين و أبورماد" ليست خلافات بين السياسيين إنها خلافات تعمقت الخلاف علي المستوى الشعبي، و أن أي حديث عن تطوير للعلاقة إذا لم يحسم هذا الملف سيكون ضرب من الخيال. بالأمس كانت الجماهير بعيدا عن القضايا السياسية و قضايا الحدود لكن التطور الذي حدث في تيكنولوجيا الاتصالات قد جعل المواطن جزء من أي عملية للتفكير تخص شأن العلاقات الداخلية و الخارجية، و بالتالي لابد من الحديث عنها و حسمها إذا كان عن طريق الحوار بين البلدين أو التحكيم الدولي و لكن تجاهلها سوف يجعل كل الأمال لا تغادر منابر الخطابات السياسية. و العلاقة تحتاج إلي الحشد الشعبي أن يكون مساندا لها، خاصة أن العلاقة تتطور من خلال التفاعل الإيجابي و تفجير الطاقات الإبداعية لأبناء وادي النيل.
أن رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك عندما أختار مؤسسة الإهرام لكي يقول في منبرها حديث الصراحة و الوضوح، يعني جدية الحديث و تأسيس العلاقة علي مستوى جديد يقوده آهل الفكر و الرآي. كما فعلت قبله وزير ة الخارجية مريم المهدي، لقد تطابقت الرؤيتين، أن مؤسسة الإهرام و كل المؤسسات الشبيهة لها في مصر هي التي يجب أن تتولى راية التكامل في وادي النيل و تنطلق بها نحو فضاءات جديدة، تفتح بها منافذ جديدة تسمح بمرور الهواء النقي الذي يطلق خيال المبدعين لتقديم مبادرات جديدة تستفيد من ثروات البلدين لتحقيق الإكتفاء الذاتي. و هذا ما أشار إليه الكاتب الصحفي عبدالمحسن سلامة رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، في كلمة ترحيب له برئيس الوزراء حمدوك، لزيارته لمؤسسة الأهرام، بالجهود الدءوبة التي تتم بدولة السودان الشقيقة لبناء نظام عصري يستجيب لحالة التنوع السوداني الثرية، والقادرة - بإذن الله - على أن تقيم دولة قوية وقادرة، تسهم في الاستقرار الإقليمي، وتسهم كذلك في بناء جسور التفاهم والتسامح في قارتنا الإفريقية. و أضاف قائلا "أن اليوم، نفتح حوارًا جادًا وعميقا بين أبناء النيل، نؤكد فيه أن تاريخ علاقات بلدينا وشعبينا التاريخية والإيجابية يَزيد من قدرة الشعبين على إقامة علاقات مستقبلية راسخة ومتينة، وقائمة على المصالح المشتركة، ومتطلبات مستقبل أجيالنا الجديدة في العيش الكريم، ويدعم ذلك عواطفنا العميقة، وعلاقات النسب والمصاهرة والاندماج بين شعبي مصر والسودان" أن المرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقة و خاصة الصراع حول الماء تحتاج إلي أن تكون العلاقة إستراتيجية لحماية مصالح الدولتين، كما أن العلاقة يجب أن تخرج من دائرة أهل الهتاف إلي أهل العقل و الحكمة، لكي يقدموا انموذجا جديدا في الخطاب علي المستويين النخبة و الجماهير، حتى تكون داعمة لهذا العمل.
أن التحديات التي تمر بها المنطقة تتطلب أن ينظر للعلاقة بمنظار جديد، و الخروج من طريقة التفكير العقيمة التي سادت أكثر من نصف قرن، إلي طريقة جديدة في التفكير القائم علي تبادل المصالح و المنافع حتى يحس الشعبان بإزدهار العلاقة" من خلال التأثير الإيجابي علي حياة المواطنيين و معايشهم. هذا ما أشار إليه الأستاذ علاء ثابت رئيس تحرير جريدة الإهرام، عندما قال في اللقاء " أن مصر والسودان مصير واحد ومشترك، لا يعرف علاقة أبدية وقوية مثل العلاقة بين الشعبين المصري والسوداني، و أكد ثابت، أن هناك العديد من القضايا المشتركة التي تجمع الشعبين، معربا عن سعادته بتواجد رئيس وزراء السودان اليوم بمؤسسة الأهرام، كذلك تقديم له الشكر على حفاوة الاستقبال من قبل أثناء الزيارات الأخيرة للسودان، متمنيًا ألا يكون هذا اللقاء الأخير وتكرار الزيارة لمؤسسة الأهرام." و نحن نقول للأستاذ ثابت لا نريد العلاقة فقط مرتبطة بالزيارات نريدها أن تنتقل إلي علاقة تفاعلية تقدم فيها مؤسسة الإهرام و وصيفاتها السودانية مبادرات لمشاريع في الاقتصاد و التنمية و تنمية الموارد و البشر، و في الثقافة و التعليم و الفنون بكل أشكالها، أن تفتح فيها المؤسسات المصرية العريقة في الدراسات و البحوث و الإعلام فرص لتدريب و تأهيل السودانيين في المؤسسات الشبيهة. و أيضا أن تفتح فيها المؤسسات السودانية أبوابها للأخوة المصريين، مستوى من العلاقة لا يعرف فيها المواطنون أين الحدود بين البلدين.
أن رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك و وزيرة الخارجية مريم المهدي، قدما إضافة جديدة للعلاقة، و الانتقال بها إلي مربعات جديدة يحمل رايتها آهل الفكر و الرآي، و أن يكون التفكير فيها خارج الصندق العتيق، إلي رحاب أوسع، و يجب علي كل المؤمنين في البلدين بأن تكون هناك علاقة إستراتيجية بين السودان و مصر أن يدفعوا بهذه العلاقة في مسار التنمية و التكامل المشترك، و الخروج من دائرة الأنماط السائدة إلي فضاءات المعرفة و الإبداع، و هذه لا تكون علي الأرض إلا من خلال مشاريع مشترك يعمل فيها الجميع، و لا نريد أن يكون حديث علاقة دولتي وادي النيل فقط حديث مناسبات، بل نريده حديثا في المشاريع الزراعية المشتركة في الصناعات في أجهزة الإعلام في الفنون، و نسأل الله التوفيق.
zainsalih@hotmail.com