حمدوك لا يملك الحق ولا الحقائق
لا يا حمدوك. انت لا تملك الحق ولا الحقائق التي تخولك تحميل السودان تبعات هجوم المدمرة (كول). والأجدى قبل أن تلجْ مستنقع الإرهاب الآسن، أن تتسلح بما يلزم، قبل أن تُلْزِمْ الخزينة الفارغة دفع 314 مليون دولار للأسر الأمريكية المتضررة. على العكس، أمريكا وسائر دول الغرب يجب أن تدفع لشباب ثورة ديسمبر لأنهم ازالوا خطر الإرهاب الإسلامي الذي غرسته ورعته امريكا في عمق افريقيا.
يبقى السؤال ما هي المعطيات التي تستند عليها يا حمدوك لتحويل قضايا الإرهاب الضبابية الغائمة الى تسويات؟ وكيف تقبل حكما رفضه قبلك حضنة الإرهاب (كيزان) الخرطوم ودعمتهم في ذلك المحاكم الامريكية؟ وهل انتبهتْ الى أن التسوية (قولة خير) ستفتح على السودان أبواب الملاحقات من مختلف الاتجاهات أوروبية وامريكية ولعشرات السنوات القادمات؟ ثم ما دخلك انت بتفجيرات القاعدة التنظيم الذي أنشأته ورعته أمريكا في أفغانستان. استخدمت واشنطن المال السعودي لتجنيد (بن لادن) و(المجاهدين العرب). انتصرت بهم على آخر الفلول السوفياتية. ومن حينها بدأ نفخ (الشيطان الإرهابي) الجديد عبر تجنيد مخابراتي وتضخيم اعلامي مصاحب. حتى اسم "القاعدة" أطلقته المخابرات الأميركية على جماعة بن لادن. وعبر هذا المساق دخل كيزان الخرطوم المنظومة الإرهابية.
ثم لمعلومية رئيس مجلس الوزراء الذي قاد حملة مساومات لخفض تعويضات المتضررين الامريكان في تفجير (كول)، والذي يود الاستعانة بالخبرات الامريكية لمكافحة الإرهاب: الإرهاب الإسلامي سلاح فعال ابتدعته أمريكا وما زالت تستخدمه على امتداد دول العالم.
فأمريكا الرأسمالية تحتاج دوما الى "شيطانْ". الى ماردْ بعبعْ، يخيف الرأي العام الأميركي ويبقيه مرعوبا مشدوها. في حالة حربْ دائمة، متمسكا أبدا بالماكينة العسكرية التي تحميه. أمريكا شيطنت الهنود الحمر وابادتهم، هزمت الاستعمار البريطاني بالحرب الأهلية، أنقذت الأوربيين من نازية هتلر بحرب عالمية، فككت الشيوعية (الملحدة) عبر الحرب الباردة، وفي نوفمبر 1991 أسقطت حائط برلين، وبسقوطه صارت الولايات المتحدة القطب العالمي الأوحد بلا منازع.
فهل تم تفكيك قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية؟ لا، بدأت أمريكا البحث من جديدْ عن شيطانٍ جديدْ. وجدته هذه المرة في (القاعدة).
سودان الترابي وفر البيئة الحاضنة لتفريخ القيادات الإرهابية أو استضافتها، ثم تسليمها عند استنفاذ الغرض (كارلوس مثالا). استضافت الخرطوم بن لادن سنوات، وفي 1997 عرضت تسليمه لإدارة كلينتون. رفض كلينتون العرض، فالمرحلة مرحلة بناء الشيطان لا تدميره. قصف كلينتون مصنع الشفاء بحجة الأسلحة الكيماوية، ليعمق في أوساط الرأي العام العالمي فرضية السودان كبؤرةْ إرهابْ. ثم حدثت بعدها الفارقة الكبرى: بن لادن، من احراش (تورا بورا)، متوكئا على عصاه، فجَّرَ ناطحات السحاب في نيويورك بواسطة مجموعة ما زالت بعض عناصرها تعيش في امان حتى اليوم في السعودية. والمضحك أن (العقل المدبر) لهجمات الحادي عشر من سبتمبر خالد شيخ محمد، الذي تم اعتقاله في الباكستان، ما زال ينتظر في غوانتانامو بعد عشرين عاما من الحادثة تقديمه لمحاكمة.
فيا سيادة رئيس وزراء الفترة الانتقالية: إذا كانت أمريكا التي تعتقل العقل المدبر لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، عاجزة حتى الآن عن تقديمه لمحاكمة، لعجزها عن تقديم الأدلة، لماذا تتبرع انت بتحميل السودان وزر تفجير المدمرة (كول) أو غيرها؟ ما الدليل ومَنْ مِنْ العملاء السودانيين شارك في التدمير؟
بحسب وكالة المخابرات المركزية (سي آي ايه)، وبحسب عبد الكريم الإرياني رئيس الوزراء اليمني الذي حدث التفجير في شواطئ بلاده، فإن الراس المدبر للهجمة على المدمرة هو خالد المحضار. وهو نفس المحضار (عضو تنظيم القاعدة) الذي دخل كاليفورنيا رفقة نواف الحازمي، وبعلم المخابرات الأمريكية ليشارك بعدها بشهور في هجمات 11 سبتمبر. فأين الدبارة؟
مستنقع الإرهاب الإسلامي مستنقع آسنْ. صناعة أمريكية كاملة الدسم. راح ضحيتها صدام حسين، بن علي، القذافي ومبارك. و(كيزان) السودان عاشوا في كنف المستنقع الآسن منذ التسعينات بمباركة واشنطن. الآن أمريكا تسيطر على جميع خيوط الارهاب. خلقت بن لادن (الأسطورة)، وقتلته دون وجود ما يُثْبِتْ. صنعت داعش وقائدها البغدادي ثم قتلته، دون وجود ما يُثْبِتْ. وتتهيأ الآن لوضع (بوكو حرام) آخر العنقود في العمق الأفريقي.
فيا سيادة رئيس مجلس وزراء السودان لا تنزلق الى حياض هذا المستنقع. لأن أكبر ما يهدد ثورة الكنداكات والشباب في السودان مساومات الغفلة هذي، والتي صارت تصدر تباعا من نواحيك ونواحي مستشاريك (دعوة الشفيع خضر لمساومة الإسلاميين مثالا). فتعويض ضحايا المدمرة (كول) ومساومة الإسلاميين وجهان لعملة واحدة تصب في مجرى إبقاء السودان في دوامة الإسلام السياسي. ولا يعقل أن تظل ثورة ديسمبر حبيسة لائحة إرهاب أمريكية أو أن تخضع لمساومات مع اسلاميين.
أميركا 1993 التي وضعت السودان ضمن قائمة الإرهاب تختلف عن أمريكا 2019. أمريكا تفيق الآن على واقعْ عالمي جديدْ. قوامه ماردْ صيني يهدد عرشها الاقتصادي والسياسي والعسكري. الصين هي شيطان أمريكا الجديد تحاربه على مختلف الجبهات. امريكا تنظر الى السودان الآن، لا بمنظور الإرهاب، بل بمنظور الاحتراس والتخوف. أخشى ما تخشاه أن يؤدي رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الى دفعه بموارده الهائلة نحو المعسكر الصيني الروسي. لذا سيتواصل التسويف والمماطلة، مرةْ بحجة أن الشطب من لائحة الإرهاب عملية إجرائية مكانها الكونغرس وتستغرق وقتاً، وأخرى بمنح الخرطوم استثناء التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية، للحصول على تسهيلات ائتمانية، دون الشطبْ من اللائحة الارهابية.
فيا سيادة رئيس مجلس الوزراء: السودان لا يحتاج أمريكا لينهض. السودان يحتاج ترتيب الأولويات وشجاعة الشجعان. لذا ينبغي ابلاغ أمريكا أن مسؤولية تفجير المدمرة (كول) لا تدخل ضمن اختصاصات حكومة الثورة الانتقالية. وأن أمريكا التي دمرت مصنع الشفاء بحجة الأسلحة الكيماوية. لم تُثْبِتْ الادعاءاتْ ولم تدفع تعويضاتْ. أما قفل الطريق أمام مساومة الإسلاميين فلا تكون إلا بفصل الدين عن الدولة لضمان تحقيق السلام في جبال النوبة ودارفور.
abujaybain@gmail.com