قلنا وكتبناها عدة مرات أن حمدوك وهو في أديس وقبل ترشيحه، بل ربما وعمر البشير يا دوووب قد طُرد من الحكم، والناس يا دووووب تتناول أخبار الوثيقة الدستورية الخافية وقتها عن الجميع، التقى به بعض السودانيين هناك وتداولوا معه أخبار الثورة، ومن ضمنها تطرقوا إلى أن المجلس التشريعي سيكون هو ضمانة الثوار الوحيدة في ألاّ تتنكب حكومة الثورة القادمة عن الخط الثوري المأمول فيها. هنا وبيقين من يعلم خفايا الأمور، فاجأهم حمدوك بقوله: "المجلس التشريعي لن يتشكل"! وعندما أبدى الحاضرون دهشتهم من قوله هذا، عاجلهم بقوله: "سوف يتم النص على المجلس التشريعي في الوثيقة، ولكن عند التطبيق سوف يتم تأجيل تشكيل المجلس التشريعي لشهرين أو ثلاثة. خلال هذه المدة سوف تتوالى عدة ديناميكيات ستحول دون تشكيل المجلس التشريعي نهائيا"! قال هذا ولم يزد حرفا، كما لم يكشف عن مصادره. الذين قال لهم هذا موجودون الآن في السودان وهم جاهزون لتقديم شهاداتهم إذا ما أنكر حمدوك هذه الواقعة. هناك رجل من أفاضل الرعيل الثاني للدبلوماسيين السودانيين التقينا به أنا وصديق لي من القيادات المؤسسة لتجمع المهنيين لاستفساره عن المرأة التي رُشّحت وقتها كوزيرة للخارجية، كونها قد عملت معه من قبل. تحدث الرجل عنها، إلا أنه أفادنا بمعلومة عن حمدوك (وهو وقتها رئيس وزراء) تصطكُّ لها المسامع، وهي معلومة جدُّ خطيرة أخبره بها بعض دبلوماسيين غربيين بأديس أبابا على رأسهم السفير البريطاني لدى إثيوبيا، مفادُها أنهم كانوا قد فرغوا بنهاية مارس من عام 2019م (وعمر البشير لا يزال في الحكم) من جميع الترتيبات مع حمدوك ليشغل منصب رئيس وزراء الفترة الانتقالية. فإذا ربطنا هذا مع ما أفاد به أحد أعضاء لجنة تفكيك التمكين من أنه قد اجتمع بمعية صلاح قوش (رئيس جهاز أمن الإنقاذ) وآخرين بحمدوك في شهر أبريل من عام 2019م، يمكننا أن نكوّن فكرة واضحة عن الجهات التي اختارت حمدوك لمنصبه الحالي، وهي جهات إمبريالية بامتياز. أما بخصوص القبول الشعبي الذي حُظي به حمدوك (المعبّر عنه بشعار "شكرا حمدوك")، فهذا تفسيره يمكن أن نجده (بجانب كونه يعبر عن جائحة التفكير الرغبوي التي اجتاحت قطاعات شعبية عريضة صعُب عليها مواجهة حقيقة أن الثورة قد سُرقت) في الخبر الذي نشرته صحيفة النيوزويك خلال عام 2020م بأن شركة فيسبوك قد ألغت عدد مليون ونصف حساب وهمي أنشأتها الاستخبارات الإماراتية، ومثلُها عددا لحسابات وهمية أنشأتها المخابرات المصرية، جميعها تم توظيفها لتجميل صورة مليشيات الجنجويد وعسكر اللجنة الأمنية. لكن ما أحجمت الصحيفة عن ذكره لتواطئها الإمبريالي هو أن نفس هذه الحسابات الوهمية هي التي عزفت لحنية حمدوك، ليس فقط لتصويره كرجل المرحلة، بل باعتباره منقذ الأمة. ولا نحتاج لتذكير أي شخص بما فعلته الاستخبارات الروسية في انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2016م التي فاز فيها ترمب. وكذلك لا نحتاج لأن نشير إلى أن الإمارات ومصر لم تفعلا ذلك بالأصالة عن نفسيهما، بل بالوكالة عن قوى الإمبريالية الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، دون أن نتجشم ذكرها كلها. ففي عصر ما بعد الحداثة والعولمة، أصبحت قوى الإمبريالية تعتمد على ثلاث قوى تعمل بالوكالة عنها: (1) الأمم المتحدة الخاضعة لمجلس الأمن لشرعنة التدخل في شئون الدول المستهدفة؛ (2) الوكلاء الإقليميين الخاضعين تماما لهيمنة الإمبريالية، مثل الإمارات ومصر والسعودية وتشاد إلخ؛ (3) الوكلاء الوطنيين داخل الدولة المستهدفة، وهؤلا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، الأول هم (في الحالة السودانية) قوى الإنقاذ (1) بلجنتهم الأمنية وجنجويدهم والإسلاميين دون قمة الهرم من عمر بشير إلى على عثمان ونافع ومن شاكلهم؛ القسمثاني هم قوى الهبوط الناعم (بأحزابهم وتنظيماتهم التي تدعي حمل السلاح ممن ضمهم اتفاق 20 أكتوبر 2020م بجوبا؛ والقسم الثالث هم منسوبو منظمات المجتمع المدنيNGOs الدولية (مرافيد الحزب الشيوعي بصورة عامة).. بخصوص منظمات المجتمع الدولي فهذه المنظمات يكمن دورها في استقطاب أكبر عدد من الشباب والرجال والنساء في الدولة المستهدفة عبر جاه الوظيفة الدولارية حتى ينتهي بهم الأمر كقطع الشطرنج تحركهم قوى الإمبريالية أنى ومتى شاءت. في هذا الصدد، جرى استهداف منظم من قبل قوى الإمبريالية الغربية لاستقطاب عضوية الحزب الشيوعي السوداني بوصفه حزبا معاديا لها، جانبا عن مواقفه الوطنية، ثم لترفيعه الوعي المنظم، وطنيا ودوليا، بمخاطر الإمبريالية. وقد نجحت قوى الإمبريالية في هذا بدرجة لم تكن تتوقعها. فبحلول عام 2009م (موعد انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي) كان عدد المبتعدين من أعضاء الحزب من منسوبي هذه المنظمات بدرجة من الزيادة حتى اضطُرّ الحزب إلى التعامل معهم كمبتعدين (ذلك، لسعادتهم، ريثما يتم فصلهم لاحقا)، جانبا عن الذين اتسعت بينهم والحزب الشُّقّة لدرجة الاستقالة منه غير نادمين، بل ربما فرحين للتحرر من قيود الحزب الوطنية. وهكذا كانت غالبيتهم قد فارقت صفوف الحزب بحلول عام 2013م. وقد شرعت قوى الإمبريالية في تشبيك قوى الهبوط الناعم مع الطابور الكومبرادوري من "مرافيد" الحزب الشيوعي السوداني بُعيد انتفاضة سبتمبر 2013م التي أثارت مخاوف قوى الإمبريالية من احتمال إسقاط نظام الإنقاذ عبر ثورة شعبية وهو الذي قضوا سنوات طويلة في ترويضه إلى أن نجحوا أخيرا لدرجة أنهم شرعوا في تشبيك القوى الوطنية التابعة لهم بالداخل (قوى الهبوط الناعم وطابور الكومبرادوريين من مرافيد الحزب الشيوعي)، تمهيدا لجمعهم مع الإنقاذ تحت مظلة واحدة عبر مشروع الهبوط الناعم الذي كان من المفترض أن يتحقق من خلال انتخابات دولة الإنقاذ في 2020م، أي الخطة (A). عندما هبّت ثورة ديسمبر 2018م، شرعت قوى الإمبريالية في تنفيذ الخطة (? وهي تحضير وتجهيز حكومة الفترة الانتقالية التي تتكون، أولا، من الإنقاذ (2) بقيادة اللجنة الأمنية للمخلوع عمر البشير زائدا مليشيا الجنجويد؛ ثم، ثانيا، من قوى الهبوط الناعم بقيادة قوى نداء السودان حيث نجحوا في أن يضمُوا إليهم باقي شتيت الاتحاديين والبعثيين وبقية أفراد الناصريين، تاركين الحزب الشيوعي السوداني لوحده في قوى الإجماع؛ ثم، ثالثا، الجيش العرمرم من الطابور الكومبرادوريي المتشكل من "مرافيد" الحزب الشيوعي الذين أغروهم في البداية بجاه الوظيفة في المنظمات الدولية، ولاحقا أغروهم بالسلطة ومناصبها، ذلك بعد أن أوصلوهم إلى قناعة تامة بأن من يحلم بالسلطة، عليه أن يفارق خط الحزب الشيوعي. وهكذا تشكلت دولة الإنقاذ (3) والشركاء فيها، وطنيين وإقليميين وإمبرياليين، لا يعلمون طبيعتها فحسب، بل هم يعملون في تنسيق وتفاهم تام بينهم. فثورات الربيع العربي علّمت الغرب الإمبريالي أنها عادةً ما تنجح في إسقاط الأنظمة دون أن تتمكن من تدبير نظام الحكم البديل. وهذا ما سعت إلى ملء فراغه قوى الإمبريالية ونجحت فيه أيما نجاح. وفي الحقيقة، لا يمكن للناظر المتأمل بعين بصيرته وبصره معا أن يخطئ الاستنتاج أن حكومة الفترة الانتقالية تتشكل بكل وضوح من هذه العناصر الثلاثة. ليس هذا فحسب، بل إن منسوبي هذه القوى مجتمعين يعلمون عن أنفسهم أنهم فعلا على هذه الشاكلة. إلا أن أخطر ما في هذه المرحلة من الإنقاذ (3) هو أنهم لا يحكمون بنفس عقلية الإنقاذ (1) والإنقاذ (2)، بل في أنهم يحكمون بنفس روح الاستهتار بالوطن والمواطن التي عُرفت عن الإنقاذ. فهم لا يزالون يحكمون السودان كما لو كان ضيعةً ورثوها من آبائهم وأمهاتهم. فالأزمات المعيشية وانعدام الوقود والطاقة وانقطاع الكهرباء المتكرر والمستمر، ثم انعدام المواصلات وأزمة التضخم لدرجة أن المرتب لدى طبقة العمال والفقراء قد لا يكفي لشراء وجبة واحدة .. إلخ، هذه الأزمات جميعُها التي خنقت عنق الشعب حتى كادت أن تكسرها، هذا بينما هم في وادٍ والشعب ومعاناته في وادٍ آخر. انظروا كيف تقوم الأجهزة الإنقاذية المتحكمة في توزيع المحروقات بخلق أزمة مفتعلة لذهق روح الثورة في الثوار، وهم كما لو أن الأمر لا يعنيهم، لا من قريب ولا من بعيد. وكنا لعذرناهم لو انهم انشغلوا عن هذه المهام الواجبة بتفكيك نظام الإنقاذ (1)، إلا أنهم لم شفتهم هذا الشرف فحسب، بل نالوا عن جدارة لقب "الإنقاذ (3)"، كونهم يعملون الآن بكل ما أوتوا من قوة لتكريس نظام الإنقاذ (1) سياسةً ومنسوبين. وفي الحقِّ كيف يمكنهم أن يفعلوا شيئا إذا كانت اجتماعات مجلس الوزراء كوووولها منذ تقلد حمدوك لمنصبه، حتى التشكيل الثاني للحكومة، قد جرت بلا أي مضابطminutes وربما لا تزال، ما يعني عمليا انعدام المتابعة للقرارات التي تم اتخاذها في المرة السابقة؟ لم لا وهناك مكتب لرئيس الوزراء موازٍ لسكرتارية وزارة مجلس الوزراء تقوم بتعيينه ودفع راتبه بالدولار قوى الإمبريالية دون أن يفعل هذا المكتب شيئا ملموسا بخلاف تضارب الاختصاصات بينه وبين سكرتارية وزارة مجلس الوزراء ذات الكفاءة المهنية الطويلة. وقد ظلت هذه السكرتارية، منذ تشكل الحكومة، تجلس في اجتماعات مجلس وزراء الفترة الانتقالية في كراسي خلف الوزراء دون أن تفعل أي شيء، بل وفي بعض المرات يطلبون منها مغادرة الاجتماعات [كذا] ليخلو الجو لأعضاء العائلة المالكة كيما تقرر في مصير البلاد بلا أي حسيب أو رقيب. وعندما ارتفعت شكاوى سكرتارية وزارة مجلس الوزراء، قاموا بتعيين وزير لها من ذوي انعدام الكفاءة، قُصارى فهمه للسياسة أنها مجرد مؤامرات ودسائس بجانب الإمعان في الكذب دون خجل أو خشيةٍ من غضب الشعب والجماهير؛ فكلمة "الجماهير" عنده هي مجرد مفردة من مفردات الاستهبال السياسي ليس إلا. *** ثم بعد كل هذا لا يزال هناك اناس واقعون تحت تأثير جائحة التفكير الرغبوي وهم يهتفون "شكرا حمدوك"! هذا حتى إذا استيقظوا (وحتما سوف يستيقظون لكن غالبا بعد فوات الأوان) لرجموه باللعنات إن لم يكن بالحجارة. وعليه، عودا إلى موضوع المجلس التشريعي، فخلاصة القول هو إن السياسة المعتمدة لدى حكامنا من لدُن دولة الإنقاذ (3) هو أنه لا ينبغي أن يتشكل بالمرة. ولكن، في حال تصاعد الضغط الثوري لتشكيلة، فإنه سيولد ميِّتا لكونه سيتشكل من عناصر لا تختلف عن رجال ونساء الإنقاذ (3). إلا أن أخطر ما يمكن أن نحذر منه ونرفع الوعي بخصوص مقاومته هو التحالف القادم بين هذه المكونات الثلاثة لدولة الإنقاذ (3) بحيث تتوافق كلمتهم على إجراء انتخابات صورية على أمل أن يشرعنوا استمرارهم في الحكم. هنا سيأتي دور المجلس التشريعي الزائف لإضفاء المشروعية على هذه المؤامرة التي تستهدف الشعب وثورته، بل تستهدف وجود السودان نفسه.