ذكريات عابرة مع الفنانين محمد ميرغني، عبد العظيم حركة، وعادل التيجاني: ما بين كلية المعلمات بأمدرمان وبين مستشفى التيجاني الماحي

 


 

 

محمد جلال أحمد هاشم
كمبالا - 14 ديسمبر 2023م
في زمننا، قبل ما يقرب من نصف قرن، كان يتوجب، وطبعا لا يزال، على طلبة كلية التربية، جامعة الخرطوم، أن يتدربوا على التدريس في المدارس لأشهر معلومة في السنتين الثالثة والرابعة. فكان، مثلا، طلاب شعبة الأحياء يتدربون على تدريس هذه المادة في المدارس الثانوية، وهكذا دواليك بالنسبة لباقي الطلاب. ولكن كان على طلاب شعبة علم النفس التطبيقي أن يتدربوا في العلاج النفسي بالمستشفيات، وعلى رأسها مستشفى التيجاني الماحي بحي الرباطاب جنوبي سوق أمدرمان.
وبما انني كنت وقتها طالبا بشعبة علم النفس، كان من الطبيعي أن أتوجه لمستشفى التيجاني الماحي للتدريب تحت إشراف أستاذنا الدكتور عبد الباسط ميرغني الذي اعتبر معرفتي بي وصداقته لي طيلة هذه السنوات، ليس فقط مما اعتز به وأفخر، بل مما يُورّث للأبناء والأحفاد، فمعرفة العلماء تاج تلبسه على رأسك، ولكن لا يراه إلا من يُجلّ العلماء. والحديث عن عبد الباسط ميرغني هذا درب مليء بالورود والأزاهير، كما لو كان المرء يمشي في حديقة غناء يحدوه فيها شدو العصافير وخرير المياه الجارية. وهذا بحر من الذكريات والمحبة لرجل ما إن تراه حتى تدرك ما قصدت إليه قواميس اللغة عندما شرحت كلمات مثل "التواضع"؛ "العلم"؛ "القَبول"، فما بالك إذا منّ عليك المولى الكريم، فجلست عنده مجلس علم وتتلمذ. المهم! سيرة أستاذي وصديقي عبد الباسط ميرغني هذا عبارة عن ورطة إذا وقعنا فيها، "يحلنا الحبلّ بلّة"! فله مني السلام والتجلة والمحبة والإعجاب، ما خفي منه وما ظهر، والله لا جاب يوم شكرك يا باسط يا ميرغني.
إذن دعونا نعود إلى عنوان هذه المذاكرة في حضرة هؤلاء الفنانين الأصدقاء!
قلت بأنه كان يتوجب علي أن أتلقى التدريب في السنتين الثالثة والرابعة على العلاج النفسي في مستشفى التيجاني الماحي، وهو ما حدث بالفعل. وكان تحت إشراف أستاذي وصديقي الدكتور عبد الباسط ميرغني والعالم النحرير، الطبيب النفساني بروفيسور شيخ إدريس عبد الرحيم. هناك التقيت بصديقي الفنان عادل التيجاني الذي كان يعمل في قسم الإحصاء بالمستشفى. وكنت قد عرفته عبر زميل غرفتي بكلية التربية، صديق العمر والزمن الجميل، سيف الدين محمد الحاج (سيف الجامعة) الذي عبره تعرفت على عدد كبير من الفنانين والفتيات الحسان وكمية كبيرة من الناس الحلوين والشينين، فله التحية في هذه السانحة. إذن وجدت عادل التيجاني في مستشفى التيجاني الماحي (وعاشت الأسامي). وقد التقيته بعد ذلك بسنوات، افتكر في عام 2012، في الدوحة بقطر، فإذا به هو هو، لم يتغير، ولا يزال ذلك الفنان الجميل شكلا ومخبرا، صوتاً وأداءً، فله أيضاً التحية. هناك في مستشفى التيجاني الماحي عرفني عادل التيجاني بالفنان عبد العظيم حركة الذي كان بدوره يعمل موظفا في المستشفى. وفي الحقيقة تعرفت على عبد العظيم من اول يوم وطئت فيه قدماي مستشفى التيجاني الماحي، فقد نشأت على حبه بحكم أنني كسلاوي المنشأ والهوى، وهو من كسلا، مثله في ذلك كمثل الفنان الحبيب إلى قلبي التاج مكي، وكذلك الشاعر المرهف الرقيق إسحق الحلنقي. هؤلاء جميعا نشأنا على حبهم منذ الطفولة والشباب الباكر لأنهم كانوا يرفعون اسم كسلا عاليا، مغردا من خلال المذياع. وكنت من سكان حي الحلنقة (داخل حوش الناظر شكيلاي)، ونما إلى أسماعنا أن الشاعر إسحق الحلنقي قد جاء يزور شقيقته التي كانت بجوارنا في نفس شارع شكيلاي. فتبارينا ونحن صبية نجري لنُكحل أعيننا برؤية ابن كسلا الذي ذاع صيته وتغنى بأشعاره الفنانون، بما فيهم محمد وردي. ولكن خاب مسعانا، ولا أذكر هل غادر قبل وصولنا بيت شقيقته، أم كانت تلك إشاعة.
المهم! نرجع التيجاني الماحي وعادل التيجاني وعبد العظيم حركة. بمجرد دخولي الى حوش مستشفى التيجاني الماحي رأيته على يساري تحت ظل شجرة أمام عنابر المرضي وهو جالس بين نفر من العاملين والممرضين وقدامى المرضى veteran patients [كذا!] الذين كانوا يتصرفون كما لو أنهم دكاترة، فعرفته على الفور وودت أن أتعرف عليه، وهو ما فعله لي عادل التيجاني. وكنت كلما جئت إلى المستشفى وجدته في موقعه ذلك فأحييهم، فيرد علي قائلا ممازحا: أهلا يا صاحب عادل الما عادل!
ثم بعد هذا، إسمحوا لي بأن أعود إلى حبيبنا محمد ميرغني! لم يكن لطلاب علم النفس بكلية التربية من مكان للتدرب فيه على تدريس المادة ببساطة لأن مادة علم النفس لم تكن ضمن مقررات الثانوي العالي، بعد إلغائها (بكل أسف) قبل ذلك بسنوات هي ومواد الفلسفة وعلم الاجتماع، تلك التي أدخلها الدكتور محي الدين صابر مع تدشين السلم التعليمي عام 1970م. وفي رأيي السبب وراء تحامي التربويين السودانيين لتلك المواد كان مرده إلى ما رأوه نزعة واضحة لدى الدكتور محي الدين لتقليد المناهج المصرية بطريقة وقع الحافر على الحافر.
تلك كانت مشكلة بالنسبة لي! فقد كنت، ولا أزال، محبا للتدريس! فأنا لست فقط من جزيرة صاي (جزيرة المعلمين كما اشتُهرت)، بل من أسرة لها يدٌ سابقة، سابغة، وقدمٌ راسخة في التعليم. فماذا أفعل؟ ذهبت إلى رئيس الشعبة ، الدكتور عمر بلاّل (عليه شآبيب الرحمة)، وقلت له: أريد أن أتدرب على تدريس مادة علم النفس! فرد متسائلاً: وتترك التدريب بالتيجاني الماحي؟ فقلت له: لا! سوف افعل الإثنين! وقتها لم أكن اعرف أي شيء عن كلية المعلمات بأمدرمان التي تقع جنوب قبة الإمام المهدي، ملاصقةً لمتحف بيت الخليفة. فقد كنت أنوي أن أقدم دروسا في علم النفس لطلبة الثانويات كحصص جانبية لا موقع لها من الإعراب. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما قال لي الدكتور عمر بلال: إذن عليك أن تذهب الى كلية المعلمات بأمدرمان! وبالفعل، حرر لي خطابا رسميا بذلك.
بمجرد دخولي الى وسط باحة كلية المعلمات، وقبل أن اتجه إلى اليمين نحو مكاتب الإدارة، وعلى يساري وتحت ظل الأشجار رأيت الفنان محمد ميرغني وهو يجلس بين بعض المعلمين. فعرفته على الفور كما عرفت عبد العظيم حركة في مستشفى التيجاني الماحي قبل عدة أيام. وكانت تقف بالقرب سيارته الداتسون بلونها الأخضر الزيتي، وكنت أعرفها جيدا بوصفي وقتها أحد مطاردي حفلاته (حتى لو كانت حفلة طهور ومن غير عزومة). نظرت إليهم وانا متردد بين أن أتوجه إليهم لاستفسارهم عن مكتب المديرة، فإذا به يؤشر علي بيده مناديا من غير صوت، فتوجهت إليه فباشرني قائلا: زاير وللا غاير؟ فقلت له وأنا مبتسم وسعيد بالتحدث معه: غاير! فابتسم ومد يده نحوي لا ليصافح يدي، بل ليتناول الخطاب الذي كنت أحمله. فعل هذا دون أن يرى الخطاب الذي كان في حقيبتي. فقد فهمها "طايرة" كما يقولون. ناولته الخطاب، فاحتفى به، ثم وجهني لمكتب رئيسة شعبة علم النفس. وهكذا تم قبولي معلما متدربا في كلية المعلمات بأمدرمان، وهكذا ظللت أتراوح جيئةً وذهابا ما بين كلية المعلمات ومستشفى التيجاني الماحي؛ فإذا كانت حصتي صباحية، توجهت بعد الساعة العاشرة إلى مستشفى التيجاني الماحي مشيا بالأقدام على الطريق الذي لم يشقه أبدا الترام (ميدان الخليفة)؛ وإذا كانت حصصي آخر النهار، توجهت إلى المستشفى صباحاً وجئت منها إلى الكلية بنفس الطريق الذي لم يشقه الترام (والسلام يا المهدي الإمام). وهنا انبثقت (وانبشقت) ينابيع الفكاهة والدعابة بين الإثنين: محمد ميرغني في كلية المعلمات وعبد العظيم حركة في مستشفى التيجاني الماحي، وأنا بينهما والدرب ساساق (مراسلة تحت التدريب)! فقد كان كل واحد منهما يحملني رسالة للآخر مغلفة برموز الكلام والكثير، الكثير من "المغارز"، مما يجعل الحامل تضع حملها قبل يومها من فرط الضحك. وهذه واقعة حقيقية! فقد كانت هناك موظفى بمستشفى التيجاني الماحي وكانت حاملا في شهرها الثامن، فدخلت إلى باحة المستشفى وعبد العظيم حركة يملي عليّ رسائله اليومية المشفرة لمحمد ميرغني، ردا على رسائل الأخير بالأمس ومزيداً من "المفرزة" في صباحه ذلك، وأنا أتمايل رحمةً بخاصرتيّ من الضحك، وجميع الجالسين حالهم كحالي برغم تعودهم على عبد العظيم حركة. هنا قطع عبد العظيم حركة حبل رسائله المشفرة ونادي على تلك الموظفة باسمها، داعيا لها كيما تأتي، فما كان منها إلا أن قالت له (وكانت لا تقل عنه فكاهةً): هووووي يا حركة، أنا يا دوب في شهري التامن! دايرني ألِد قبل يومي؟ وانت هووووي يا ود الجامعة إنت (تقصدني)، ابعد من المجارمة ديل، وبالذاااات من حركة دا! تقعد مع أعمامك ديل وتضحك كدا والله لامن تجيك بواسير من الضحك زي الرُّجال القاعدين ديل كوووولهم!
بمجرد وصولي إلى كلية المعلمات، كان محمد ميرغني يناديني وهو في مجلسه ذاك، فيؤشر لي بيديه ويسألني: صاحبك عبد العظيم كهربا الليلة كهربتو كيف؟ فأقوم بتبليغ الرسالة، فيحملني ردها مردوفةً بما يفوقها "مغرزةً، تلميحا وتعريضا، ثم تشفيرا، مشفوعا بالأمثال ومقتطفات الاغاني بعد تحويلها وتحويلها ... وهكذا دواليك.
ثم في يوم، وبمجرد دخولي الى كلية المعلمات، أخطروني (شلة محمد ميرغني) بأن الناظرة طلبت مثولي أمامها بمجرد حضوري. وإن أنسى لا أنسى روح الفكاهة والمرح في محمد ميرغني وهو يقول لي: الليييييلة! الناظرة قالت دايراك. الليييييلة! ثم ينفجر ضاحكا ويقول لي هذه أفضل امرأة عرفها في الخدمة المدنية. كان اسمها "نور" وينادونها "ست نور"، ولم أكن قد رأيتها بعد، وإن كنت قد لمست حضورها الطاغي في كل جنبات الكلية. وكانت في حوالي منتصف العقد الخامس أو بدايات السادس؛ امرأة طويلة القامة، قمحية اللون، ممتلئة الجسم لكن من غير سمنة، مع رشاقة ساعدها فيها عدم قصرها، وتلبس نظارات طبية. دخلت عليها وهي مُكبّة على مكتبها تقرأ في بعض التقارير، فانتظرتها دهراً، ثم رفعت رأسها وقالت لي: اتفضل اقعد يا أستاذ! فاعتذرت بأن الحصة قد بدأت وظللت واقفا. رفعت رأسها فقرأت الصرامة والجدية في نظراتها وهي تحاول أن تخفي بهما طيبة قلبها. ثم فاجأتني بقولها: أنا ما دايراك لي أي حاجة إدارية. اسمك محمد جلال أحمد هاشم. مش كدا؟ الاسم دا ما غريب علي! فأدركت حدسا، لا فهما، وفي جزء من الثانية ما تعنيه، فقلت لها: شقيقتي الكبرى درست هنا في منتصف الستينات! فإذا بها تتذكر وتحاول أن تستحضر الاسم، فعاجلتها بقولي: نوال! فرد بصوت عالٍ: آااي! نوال جلال أحمد هاشم. بعد ذلك بسنوات طويلة سوف التقي بقريبي وأستاذ الأجيال محمد عبد الحليم جريس الذي درسني في المرحلة الأولية بمدرسة كسلا الأميرية، فإذا به ليس فقط يتذكر طلبته فرداً فردا على كر السنين والأعوام، بل يعرف مآلاتهم وما انتهوا إليه إلى لحظتها تلك. ذلك كان هو التعليم لعمري! وأولئك هم المعلمون الأفذاذ! فأنعمةوأكرم!
بعد سنوات طويلة، في أوائل تسعينات القرن المنصرم، وأنا بمكتبي بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، أطل علي from no where محمد ميرغني، فارتد راجعا إلى الوراء ليقرأ اللافتة على بابي، ثم يقول لي وهو يفتعل الاستغراب والاستغراش: دي الجامعة وللا أنا غلطان؟ يعني لا التيجاني الماحي ولا كلية المعلمات؟ ثم دخل ببسمته الغراء وضحكته التي تشع في الأجواء، وتصافحنا بالأحضان. كان قد أتى إلى صديقنا الدكتور علي الضو (وقتها مدير أرشيف الموسيقى التقليدية بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية) ولكن لم يجده، فوجد مكتبي فاتحا فأراد أن يستفسر عن علي الضو. لم يستغرقه الأمر أكثر من ثواني لاستحضار ذكريات مرت عليها سنوات، دون أن يفقد حس الفكاهة والمرح وتلك البسمة التي تُعدي الجميع. لقد كان صاحب بسمة لا يمكن أن تقابله دون أن تبادله بسمةً ببسمة.
في عام 2014م (على ما أظن) كنت في أديس أبابا فدعاني قريبي المقيم هناك الفنان النوبي سيد بيبي إلى حفل عشاء مختصر (أعتقد بمنزل صديقنا الدكتور عبد الرحمن مصطفى) على شرف الفنان محمد ميرغني، وكان ذلك بعد إصابته بالجلطة. وقد غنى وأطرب برغم الإصابة، يشاركه بالغناء سيد بيبي. لم يبد عليه أنه قد عرفني، فصبرت إلى حين لحظة مواتية وذكرته بنفسي وبأيامنا في كلية المعلمات، لكن برغم هذا لم يبدُ عليه أنه قد تمكن من استحضار أي شيء، وغالبا كان ذلك بسبب أجواء الأمسية وما صاحبها من غناء وصخب. تلك كانت آخر مرة أراه فيها، عليه رحمة الله. عند عودتي، حكيت القصة لنسيبي الدكتور إبراهيم صالح المغربي (قرشي)، فعاجلني بسؤاله: وما بكيت؟ فاستغربت! وتلك حكاية حدثت له (وكانت لا تفوته لحظة الطُّرفة دون انتهازها وانتهارها). وهو نفسه كان في شبابه فنانا هاويا مع ابن عمته عبد الدافع عثمان، حيث كان مبارك المغربي يكتب الكلمات وعربي الصلحي يقوم بالتلحين (ثم منعه أهله من الغناء عندما قُبل بكلية الطب)، وكانت تربطه علاقة صداقة قوية مع الفنان العميد أحمد المصطفى حيث كانوا جميعا من رواد مجلس الشاعر عوض ابو العلا. ثم، حكى لي، عندما أصيب أحمد المصطفى بالجلطة، أنه ذهب لمعاودته، إلا أن الفنان العميد لم يتمكن من التعرف إليه برغم عمق العلاقة، فما كان من الدكتور إلا أن انتحى بركنٍ قصيٍّ في منزل الفنان العميد ثم أجهش بالبكاء. تلك ثلّةٌ من الأولين وثلّةٌ من اللاحقين، بعضها من بعض، أجيال فريدة، ألمعية لن تتكرر.
بالعودة إلى محمد ميرغني، ألا كم وكم تواعدنا مع صديقي الفنان (سعادة اللواء) عبد الكريم إسماعيل الجعفري لزيارته، ولكن كما قال المثل "القدم ليهو رافع"! والقبُر ليهو شافع!
ألا رحمة الله عليكم جميعا يا أهل الفن ببلادي! فقد كنتم تسبحون عكس التيار ومع ذلك ما تفوق عليكم أحد، بل تفوقتم على الجميع!
*MJH*
كمبالا - 14 ديسمبر 2023م

 

آراء