يبدو أن حميدتي (انتزه) أمس الفرصة ليؤكد لفلول (الكيزان) المنهزمة ألا اقصاء لأحد. حاله حال البرهان قبله الذي أعلن أمام حفنة من مواطني امبدة نهاية دولة الجلابة (الاستقصائية).
الآن ينتهز شباب الثورة الفرصة ليؤكد للبرهان أن الاستقصاء والتحري قادم وبجرعات مكثفة في أعقاب الاتفاق، وإن ذلك يا حميدتي سيضمن الإقصاء الشامل لكل قبائل (الكيزان) في ارض السودان.
مليونية شباب الثورة الغض، قلبت طاولة المفاوضات في وجه الجميع، بما فيهم دولة (الكيزان) العميقة، حميدتي، البرهان، شلة (الهبوط الناعم) وسائر القوى المتصارعة حول مغانم السودان. المليونية أحيت الأمل في نفوس اليائسين وفرضت واقعا جديدا للتفاوض تحت لافتة "إما مدنية أو ثورة أبدية". أصغى الجميع لصوت الشارع الحاسم، وكسبت ثورة ديسمبر الجولة الأولى من المعركة الطويلة في سبيل الدولة المدنية المبتغاة.
غير أن الغريب هو موقف اركو مناوي من الاتفاق الموقع بين (قوى الحرية والتغيير) ومجلس حميدتي الانتقالي. وصف مناوي الاتفاق بأنه: "فسيخ في إناء جديد. حكومة قديمة متجددة تبرم عقدا مع الأجهزة الأمنية لضرب الحركات وقمع الإقليم تحت الشرعية المدنية. مؤامرة كبرى يجب أن ينتبه لها الشعب السوداني."
هذا المناوي المناوئ كان يوزع البسمات قبل أيام مصافحا نفس ممثل الأجهزة الأمنية (حميدتي) في انجمينا. وتمخض عن اللقاء الباسم، في حضرة ادريس دبي، إطلاق سراح 230 من مقاتلي حركة تحرير السودان. مناوي عضو في نداء السودان المنضوي تحت مظلة (قوى الحرية والتغيير). لماذا إذن الخروج عن النص؟ ربما لأنه، مثل حميدتي، (تاجر مرتزقة)، يوفر عناصر حركة تحرير السودان لمن يدفع. وفي رأيه الوقت الحالي ليس مناسبا للانخراط في حراك السودان. خاصةً وهناك عوامل جذبْ أخرى. حربْ ساخنة أهم في ليبيا، يقودها حفتر للسيطرة على طرابلس تدعمها فلوس الإمارات. قوات مناوي المأجورة تقاتل منذ سنوات في الصفوف الأولى مع حفتر، وربما تحتاج لتعزيز سريع لتدارك الموقف الذي اهتز مؤخرا.
اذن هل كانت زيارة مناوي لتشاد تحت واجهة التقارب مع المجلس العسكري الانتقالي، بينما الغرض الحقيقي نجدة حفتر بالمزيد من المقاتلين؟
نأمل ألا يكون في الأمر أجندة خفية لإجهاض وسرقة مكاسب ثورة ديسمبر، خاصةً بعد بيان القوى الثورية أمس، (يرأسها مناوي)، الذي طالب بنسبة 35% من تشكيلة الأجهزة السيادية والتنفيذية والتشريعية. القوى الثورية عجزت طوال ثلاثين عاما عن احداث خدشٍ في جدار (الإنقاذ). لماذا الآن، بعد انتصار ثورة الكنداكات والشباب، تسعى لنسف الاتفاق من أساسه؟
البدء من جديد، بفريق تفاوض جديد، سيعيد الجميع للمربع الأول. وسيمهد الطريق لعودة دولة (المؤتمر الشعبي). وبالمقابل إقصاء الشيوعيين والبعثيين، وحتى تجمع المهنيين.
خوازيق) مناوي وأمثاله ينبغي الحذر منها واتخاذ الخطوات التي ستقفل الطريق أمام تحققها.
كيف يكون ذلك؟
بالتأكد أولا أن كل قيادات (المؤتمر الوطني)، (المؤتمر الشعبي)، (الدواعش) والأفعى عبد الحي يوسف موجودة قيد الحبس. تصويرهم، احكام الرقابة عليهم، استعجال إجراءآت محاكماتهم محليا أو التسليم للجنائية الدولية.
ثانيا بنزع سلاح واعتقال قيادات الأمن الوطني، الأمن الطلابي، الدفاع الشعبي، كتائب الظل.
ثالثا برصد، كشف ومحاسبة من ارتكبوا المجازر وتلطخوا بدماء الشهداء.
رابعا بالشروع فورا في أولويات السلام العاجل مع الحركات ذات الوزن. أهمها جماعة عبد العزيز الحلو (الحركة الشعبية شمال)، وعبد الواحد محمد نور (حركة تحرير السودان). ابتدار التفاوض دون شروط مسبقة، وضمان ادماجهم في توليفة الفترة الانتقالية.
خامسا باسترداد ثروات الهامش المسروقة، وعلى رأسها أطنان الذهب المهربة. هذه الثروات ومليارات الدولارات المجنبة من عائدات النفط في حسابات (الكيزان) ببنوك دبي، الإمارات، مصر، ماليزيا، الصين، سنغافورة وحتى سويسرا، ضرورية. واستعادتها وتكفل إعادة بناء وإعمار الهامش.
لثلاثين عاما مضت، تمت سرقة ممنهجة لجميع ثروات السودان بواسطة (الكيزان) أو من يعلفون في موائدهم. والسرقة مثل العافية، درجات. وخلال الحقبة التي تطاولت تم شراء كل الذمم، وبأثمانْ. لم تسلم سوى قلة من أهل (الكفر والإلحاد) من حاملي الدمغة الشيوعية. حتى المفاصلة الشهيرة بين الترابي وتلاميذه، والتي يعتبرها البعض صك براءة وشهادة تأهيل لركوب قطار الثورة، مفاصلةْ مَغْنَمْ. أوجدت فريقين لذر الرماد في العيون، فيما استمر النهب على مختلف الأصعدة مدعوما بفتاوى التحلل. ذلك هو (التمكين) والإقصاء. فالثروات التي تكدست لدى البعض جاءت على حساب افقار، مصادرة، تشريد واغتراب الكثيرين. يُحَتِمْ ذلك تفكيك (التمكين) وفتح ملفات الفساد والإفساد من جديد، خاصةً قضايا المتحللين الذين هربوا من سيف العدالة لعدم توفر الأدلة.
ذلك وحده كفيل بحقن الدماء، إعادة النازحين ورتق النسيج الاجتماعي الذي فتقته ثلاثون عاما من العنصرية القبلية المقيتة و(التمكين) المذل.
كلمات أخيرة: عثمان ميرغني رئيس تحرير (التيار) قال لصحيفة "سيتزن" الكينية: " الإسلام هو دين الأغلبية في السودان والإسلام السياسي سيكون حاضرا دوما في أي تركيبة سياسية في المستقبل. واتباع الإسلاميين موجودون في بنيات الدولة الاقتصادية والسياسية، وسيظلون، مهما كانت نظرة الناس لهم".
آن أوان الإقصاء. ونأمل ألا يكون الحرص على مستقبل الإسلاميين هو السبب وراء احجام عثمان ميرغني قبل أسابيع عن كشف ما تلقاه من معلومات (مثيرة)، تكشف أسماء المخططين، أو من كانوا على علم بتوقيت وتنفيذ مجزرة القيادة. فمجزرة القيادة العامة وصمة في جبين كل من ينتمي لقبيلة الإسلاميين المنفذين أو من يتستر عليهم.