حول المؤتمر العالمي الثالث عشر للدراسات النوبية
حول المؤتمر العالمي الثالث عشر للدراسات النوبية
( سويسرا ، 1-6 سبتمبر 2014م )
بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير
بدعوة من جامعة نيوشاتل ( Neuchatel ) قُيضّ لي أن أشارك في فعاليات المؤتمر العالمي الثالث عشر للدراسات النوبية بسويسرا ( مدينة نيوشاتل ) في الفترة ما بين (1-6 سبتمبر 2014م. سعدت بهذه الدعوة لسببين :- أولهما : إنها إلى سويسرا الرائعة الجمال والأفضل سمعة في العالم لعام2014م(تقرير شركة الإستشارات العالمية الخاصة "ريبورتيشن إنستيتيوشن") والتي إشتهرت بين بقية أقطار المعمورة بأنها بلد السياحة الأول. وعرفت قبل ذلك بصناعة الساعات ( 67% من إنتاج العالم للساعات ) والأجبان الشهيرة في القارة الأروبية ، وثانيهما : إنني لم أغادر السودان منذ أربع سنوات خلت بسبب الأعباء الإدارية المتزايدة بجامعة بحري.ورغم أنني ألقيت عصا التسفار مستقراً نهائياً بأرض الوطن ولكن ليس كأعشى قيس راضياً من الغنيمة بالإياب.
بلغ عدد المشاركين في هذا التجمع العلمي العالمي ( 272 ) عالماً وباحثاً من مختلف قارات العالم ( أفريقيا ، آسيا ،أروبا ، أستراليا وأمريكا الشمالية ) ، إضافة إلى ما يربو عن (30) آثارياً ومؤرخاً سودانياً ، علاوة على (4) آثاريين من جمهورية مصر العربية.بدأ البرنامج العلمي المعد للمشاركين في هذا المؤتمر يوم الأثنين أول سبتمبر 2014م بالتسجيل وإستلام بطاقات الحضور بقاعة المؤتمرات الرئيسية بجامعة نيوشاتل .
وإشتمل برنامج اليوم الأول على الإحتفال الرسمي الذي تصدرته الكلمات الرسمية ( الترحيبية ). وشرّف الجلسة الإفتتاحية وزير السياحة والآثار والحياة البرية السوداني المهندس محمد عبد الكريم عبدالله وسفيرة السودان بسويسرا رحمة صالح العُبيد ونائب رئيس البعثة السفير محمد المرتضى مبارك ، إضافة إلى بعض أفراد الطاقم الإداري للسفارة السودانية بجنيف . وشكر وزير السياحة والآثار والحياة البرية حضور هذا الملتقى العلمي وأثني على مجهودات بعثة الآثار السويسرية العاملة بالسودان التي بذلت جهوداً كبيرة في تسليط الأضواء على حضارة السودان القديم (مملكة كرمة ،2500- 1500 ق.م) ، وخص بالشكر رئيس البعثة السويسرية السابق البروفيسور شارلس بونيه والحالي البروفيسور ماثيو هونقر. وأشار في ثنايا حديثه لإمكانات السودان الهائلة في مجال السياحة والآثار والتى تتطلب تضافر الجهود الداخلية والخارجية للإرتقاء بهذا المجال خدمة للثقافة والإقتصاد الوطني .
وشكرت سفيرة السودان في كلمتها الحكومة السويسرية وجامعة نيوشاتل المنظمة للمؤتمر ولمعرض الآثار السودانية الذي أقيم على شرف هذا المحفل العلمي المتميز. وتحدث رئيس الجمعية العالمية للدراسات النوبية (مقرها الرئيسي لندن) البروفيسور فانسا روندوت الذي رحب بدوره بالمؤتمرين متمنياً لهم مداولات علمية ذات مردود إيجابي للآثار السودانية. .ُقدِمت الأبحاث التي قرأت في المؤتمر تحت عدة رؤوس مواضيع رئيسة شملت عصور ماقبل التاريخ ، فجر الحقبة التاريخية ، العهد المروي ، العصور الوسيطة ، الدراسات اللغوية والعمل الميداني (المسوحات والحفريات).
وبدأت الجلسة الأولى (الثلاثاء الثاني من سبتمبر 2014م) التي تصدرتها الورقة العلمية للدكتورة دوناتلا يوساي (رئيس البعثة الإيطالية بالسودان) عن عصور ما قبل التاريخ في أواسط السودان ، ومن ثم واصل عدد من الباحثين محاضراتهم عن مواضيع شتى خاصة بفجر الفترة التاريخية وحضارة كرمة.وتوالت جلسات المؤتمر ( صباحية ومسائية ) خلال إسبوع كامل . ولعل ما يستلفت الإنتباه لهذا اللقاء العلمي الحضور المكثف للعلماء والباحثين السودانيين (آثاريين ومؤرخين ) . ومعظمهم من فئة الشباب حيث قدم نفر غير قليل من هؤلاء أوراقاً بحثية إتسمت بشكل عام بالجدة والتميز والمواكبة بإستخدام الوسائل العلمية الحديثة في العمل الحقلي (المسوحات والحفريات) والمعملي ، علاوة على إستغلال آخر ماتوصل إليه العلم من وسائل العرض المتعددة ( الملتمديا ).
وشملت الأوراق العلمية للسودانيين (جامعات: الخرطوم ،بحري، النيلين ، شندي ، دنقلا،كلية النصر التقنية،كلية كمبوني للعلوم والتقنية،الهيئة القومية للآثار والمتاحف السودانية،وحدةالسدود بالخرطوم وثلة من السودانيين بالدياسبورا) الذين حضروا جلسات المؤتمرأو أُقرِأت أوراقهم نيابة عنهم ( العدد =35). البروفيسورات : عبد القادر محمود عبد الله ( الإنقسام ، التنافس ، التآمر والمصالحات في العائلة الملكية السودانية القديمة ) ، عمر حاج الزاكي(الغزو الأكسومي لأرض المرويين : مهمة محلية خاصة) ، علي عثمان محمد صالح (إكتشاف عاصمة عيزانا في قلب مروي)، خضر آدم عيسى ( الإكتشافات الأثرية الحديثة على إمتداد النيل الأبيض – الموسم التاسع) ، عبد الرحيم محمد خبير (حرق فخاريات عصور ما قبل التاريخ في السودان) ، إبراهيم موسى محمد (تقنية الحديد في مدينة "ماو" المحصنة – أواسط دارفور ، الألف الأول الميلادي) ، عباس سيدأحمد زروق وجمال جعفر الحسن (موقع نبتى مبكر من حفريات جامعة دنقلا بحبل البركل) والدكاترة : عبد الرحمن على محمد – المدير العام لهيئة الآثار والمتاحف السودانية (إنقاذ الآثار ذات العلاقة بالسدود في السودان)، صلاح الدين محمد أحمد وعبدالله النجار(المشروع القطري-السوداني للآثار " كوشاب ")، إنتصار صغيرون الزين (الإسلام في السودان بين التاريخ والآثار)، صديق بابكر أحمد (المخلفات الأثرية الإسلامية في قرية "صحابة" جنوب منطقة دنقلا) ، نجود حسن بشير (أضواء على الحفائر بمنطقة مروي)، فوزي بخيت (عاداتالدفن في إقليم النيل الأزرق وشرق السودان). عبد المنعم أحمد عبد الله (الأهرامات بين الموت والحياة في السودان : الملكية والشعبية)، إخلاص عبد اللطيف (كرمة في هيراكيوبولس)، يحى الطاهر فضل (مواقع العصور الحجرية (القديمة والوسيطة) في منخفض القعب غرب دنقلا )، محمد جلال هاشم (المنحوتات الصخرية (القونق) في منطقة المناصير (الشلال الرابع))والباحثون : معاوية صالح (مستقبل السدودالجديدة في السودان)، على أحمد (المسح الأثري لمنطقة سودري 2011م:تقرير أولي)، محمد الفاتح حياتي (ودشنينا من منظور حقيقة الدليل الأثري)، فيصل عبد الله (الحفريات الإنقاذية لشرق جبل البركل)، شادية عبدربة ومحمد خضر (أدوات الزينة الأنثوية وإستمراريتها في الحضارات النوبية المعاصرة)، محمد التوم (قلعة الزومة بمنطقة الشلال الرابع)، نعمات عبد الرحمن محمد (الحفاظ على اللغة النوبية بين جيلين)، سناء البطل (الثقافة المادية للإسلام في السودان)، هيفاء الطيب (التواصل المسيحي بين الماضي والحاضر)،محمد سعد وميشيلا بندر (جبانة بربر المروية – دراسة بيوآركيولوجية)، حماد محمد حامدين وعلي عثمان محمد صالح (دور الرخويات في النوبة والسودان القديم)، رحاب خضر (الزينة الشخصية في كوش"8ق.م-4م)، محمود سليمان (الجبانات المروية في منطقة بربر)، يوسف العُبيد (الأحداث التاريخية والأثرية في مدينتي شندي والمتمة:مسح آثاري داخل حدود المدينتين)، أحمد نصر كبوشية (صناعة الأدوات الحجرية الآشولية في السودان من موقع جبل القريان،شرق أدنى نهر عطبرة) وأماني مسعود (العصر الحجري الحديث في أواسط السودان: مشكل المصطلحات وبعض القضايا الحضارية).
وإتسمت مناقشات المؤتمر بالجدية في التناول والعلمية الصارمة في الطرح. وأبرزت الحوارات أهمية الإستئناس بآراء العلماء والباحثين لاسيما من الدول الغربية (أروبا وأمريكا الشمالية) خاصة وأن مشاريعهم العلمية في السودان والتي تطبق أحدث تقنيات البحث ومستجدات العصرنة ستنعكس بالضرورة إيجاباً على الواقع العلمي والثقافي السوداني. وتحضرني هنا مقولة لأحد مفكرينا الرواد وهو رفاعة رافع الطهطاوي صاحب كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" حيث يذكر نصاً حرفاً "أن الفرنجة قوم ذو عزيمة يجيدون الصنائع والعلوم البرانية".
ومن أبرز الشخصيات الغربية التي لفتت نظري في هذا التجمع العلمي الكبير والتي لاتزال تقوم بأدوار مهمة في مسار الآثار السودانية وليم آدامز (الولايات المتحدة)، شارلس بونيه (سويسرا)، دترش ويلدونج (المانيا)، لازور توروك (هنغاريا)، راندي هالاند (النرويج)، وهيرمان بيل (بريطانيا)، حيث شارك هؤلاء بفعالية في جلسات المؤتمر وحواراته رغم تقدمهم في السن خاصة وأن بعضهم قد تجاوز العقد التاسع من العمر وقد وخط الشيب رؤوسهم وحرث الزمان أثلام وجوههم .بيد أن بعضاً من حيوية وروح دعابة لاتزال هناك لم تفارق هذا الرهط من باحثي الخمسينات والستينات والسبعينات الماضية.
ومما يلزم التنويه به، أنه قد أقيم عرض للكتب الجديدة خلال أيام المؤتمر ضمت أعمالاً آثارية عن السودان أصدرتها بعض دور النشر العالمية (بريطانيا ، المانيا وبلجيكا). كما وأن منظمي المؤتمر بجامعة نيوشاتل قد أقاموا حفل إستقبال على شرف إفتتاح معرض آثار مملكة كرمة على شاطئ بحيرة المدينة (نيوشاتل). و إستضيف المؤتمرون في رحلة بحرية على متن باخرة في مياه هذه البحير الفريدة الجمال .
وعقد في الجلسة الختامية للمؤتمر الإجتماع السنوي التقليدي للجمعية العالمية للدراسات النوبية (السبت السادس من سبتمبر 2014م). ووقف الأعضاء دقيقة واحدة حداداً على أرواح زملائهم الذين إنتقلوا إالى الدار الآخرة في الفترة مابين إنعقاد المؤتمر الثاني عشر بلندن (1-6 أغسطس 2010م) والثالث عشر بنيوشاتل (1-6 سبتمبر 2014م) وهم : جون الكسندر (بريطانيا )، وتوماس هاج (الولايات المتحدة)، جانلكلانت (فرنسا)، أونقي فيلا(فرنسا)، مايكل بود (فرنسا)، جيب الله على جيب الله (مصر)، سلفتينا برسينا (روسيا)، خضر عبد الكريم أحمد (السودان)، مايكل أزيم (فرنسا)، هيلين جاكوث غردون (الولايات المتحدة)، أمجد بشير على (السودان) ونتاليا يومر نسبييا (روسيا).
وناقشت الجمعية العمومية للجمعية العالمية للآثار النوبية المواضيع المدرجة في جدول أعمالها والتى شملت منشورات الجمعية ، العضوية الجديدة ، إختيار الأماكن التي ستعقد فيها المؤتمرات القادمة للجمعية . وبعد التشاور والمداولات وتمحيص المقترحات ، وافق المؤتمرون على عقد المؤتمر العالمي القادم للدراسات المروية بمدينة "براغ" عاصمة جمهورية التشيك عام 2016م كما أختيرت العاصمة الفرنسية "باريس" مقراً للمؤتمر العالمي الرابع عشر للدراسات النوبية في العام 2018م . وفي الختام أزجى البروفيسور يوسف فضل حسن رئيس المجلس الأعلى للآثار بالسودان الشكر والتقدير لمنظمي المؤتمر على مابذلوه من جهد لإخراجه بهذه الصورة المشرفة.
وعلى هامش هذا المؤتمر عقد الباحثون السودانيون إجتماعاً ناقشوا فيه الفكرة المقدمة من البروفيسور عبد القادر محمود عبد الله (جامعة النيلين) والخاصة بتكوين إتحاد يجمع شمل الآثاريين السودانيين بغرض دعم العمل الآثاري في السودان من الناحية العلمية والبحثية .وتم تشكيل لجنة تمهيدية لخدمة هذا الغرض تضم البروفيسور عبد القادر محمود عبد الله (رئيساً)، والدكتور فوزي بخيت (الهيئة القومية للآثار والمتاحف) (مقررًا) وعضوية كل من البروفيسور عمر حاج الزاكي (أمدرمان الإسلامية) ، والدكتورة إنتصار صغيرون الزين (جامعة الخرطوم) والدكتور أحمد نصر كبوشية(جامعة النيلين) . وحددت مهمة هذه اللجنة بوضع النظام الأساسي للإتحاد ودعوة الجمعية العمومية لإجازته بهدف تشكيل اللجنة التنفيذية للقيام بالمهام لتحقيق الأهداف التي انشأ من أجلها هذا الكيان الأكاديمي بغرض دفع مسيرة العمل الآثاري خدمة للعلم والوطن.
خلاصة القول، فقد حقق المؤتمر العالمي الثالث عشر للدراسات النوبية الذي عقد بسويسرا (1-6 سبتمبر 2014م) نجاحاً منقطع النظير سواء على المستوى الأبحاث التي نوقشت بمستوى علمي رفيع أو عبر الإجتماعات التي عقدت بين مختلف العلماء والباحثين بغرض التعاون والتواصل الأكاديمي للإفادة من الخبرات ودفع مسيرة العمل الآثاري في السودان نحو الغايات التي حددت له لإماطة اللثام عن تاريخ هذا القطر العريق الذي لعب أدواراً جد مهمة في مسار الحضارة الإنسانية عبر أطوال التاريخ المختلفة .
وجدير بالإشارة ،أن كل مؤتمرات الجمعية العالمية للدراسات النوبية قد عقدت خارج السودان . لذا وجب القول ، بأن الوقت قد حان للدخول في دائرة تنظيم مثل هذه المؤتمرات بالخرطوم خلال السنوات القليلة القادمة سيما وأن هدفها الأول خدمة التراث السوداني الذي هو مناط هويتنا القومية ذات التاريخ المؤثل والمجد التليد. والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.
khabirjuba@hotmail.com
////////