حول طرد المنظمات الانسانية
8 March, 2009
الخرطوم .. اذا ما جاءت الفكرة !!
ala-4506@hotmail.com
ربما ستكتشفت الحكومة لاحقا انها من حيث ارادت الضغط على المجتمع الدولى او البلدان الغربية بالاحرى على دعمها لمذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس البشير ، بطردها ل 16منظمة انسانية غربية ، لحملها على الغاء المذكرة كما تطمع ، ستكتشف انها راكمت اسبابا اخرى تبرر الضغط عليها و تقلل التعاطف معها .
فأول ما تجدر الاشارة اليه ان القرار الحكومى بطرد المنظمات صدر بعد ربع ساعة من المؤتمر الصحفى للمحكمة الجنائية الدولية حيث بدا واضحا انه جاء كرد فعل حكومى على مذكرة التوقيف الصادرة ضد الرئيس البشير ، فمع ان حيثيات قرار الطرد تشير الى ان السبب كان ضلوع هذه المنظمات فى نشاط مساند لعمل المحكمة ، الا ان توقيت اصداره لم يكن موفقا ، اذ لا يعقل ان تكون السلطات قد اكتشفت تخابر تلك المنظمات مع المحكمة فى ذات اليوم الذى اصدرت فيه المحكمة الدولية قرارها . اضافة الى ذلك فان القرار شمل منظمة انقاذ الطفولة البريطانية التى قال لى مسؤول كبير فيها انه ليس لهم وجود فى دارفور اصلا و ان عملهم ينحصر فى معسكرات النازحين حول العاصمة وفى شرق السودان ، وقد بدا الامر وكأنه عقاب لبلد المنظمة بريطانيا احد الداعمين الاقوياء للمحكمة الجنائية اكثر منه قرارا مبنيا على حيثيات ادانة موضوعية ضدها كما ذكر المسؤول بالمنظمة . و لم يكن التصنيف الحكومى للمنظمات الضالعة فى نشاط تخريبى حتى وقت قريب يتجاوز اصابع اليد الواحدة ، فقد سمى مدير جهاز الامن و المخابرات ، الفريق صلاح عبد الله فى ورشة الوجود الاجنبى و اثره على الامن القومى التى نظمتها لجنة الامن و الدفاع بالبرلمان فى ابريل من العام الماضى منظمات بعينها قال انها ضبطت فى نشاط تخريبى وهى منظمات ( كير ، أطباء بلا حدود الهولندية ، لجنة الانقاذ الدولية ) العاملة في المجال الإنساني و اوضح انها (ارتكبت تجاوزات وفبركت معلومات عن دارفور) .
و تستند الحيثيات الحكومية التى اسست عليها عملية الطرد الى ان هذه المنظمات هرّبت شهودا و كتبت تقاريرا و لفقت ادلة لصالح المحكمة الجنائية الدولية ، و لعل هذا ما جعل الحكومة تتخوف من عتاد و عدة المنظمات العاملة بدارفور ، و يتجلى هذا الخوف فى حديث مدير جهاز الامن و المخابرات ، الفريق اول صلاح عبد الله فى حديثه امام ورشة الوجود الاجنبى حيث كشف (ان ميزانية هذه المنظمات تبلغ مليار و 880 مليون دولار في العام وتمتلك 5 الاف و 805 جهاز اتصال منها 1850 جهاز HF للاتصال بعيد المدى , 1352 HF متوسط المدى يستخدم للاتصال بين الاقاليم و 63 جهاز V.sat لنقل الصورة والصوت و 12 جهاز ربيتر لتقوية الاتصال كما تمتلك 794 جهاز ثريا. وابان أن المنظمات التطوعية ترفع تقارير يومية لبلدانها عن الوضع في دارفور والجنوب حيث انتفت ظاهرة رجل المخابرات واصبح منسقا فقط) . و لن تكون (الاتهامات) الحكومية للمنظمات بعيدة عن الصحة لجهة انه يجوز لمكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية وفقا للفقرتين (3-ج) و (3- د) من (المادة45) من نظام روما و لضرورات اجراء التحقيقات ان يلتمس تعاون اية دولة او منظمة حكومية دولية ، او اية ترتيب حكومى دولى ، و ان يتخذ ما يلزم من ترتيبات او يعقد ما يلزم من اتفاقات لا تتعارض مع النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية تيسيرا لتعاون احدى الدول او احدى المنظمات الحكومية الدولية او احد الاشخاص . و استنادا الى ذلك فأن مكتب المدعى العام ابرم عدة اتفاقات و مذكرات تفاهم مع هذه المنظمات الدولية و مع عدد من الحكومات ، و كان ينبغى ان تكون هذه الحقييقة حاضرة لدى الحكومة منذ ان قرر مجلس الامن الدولى احالة الوضع فى دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية .
و وفقا لدفوعات الحكومة السابقة المناهضة لمذكرة الاتهام ، فأن المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية بنى حيثيات اتهامه على تقارير للمنظمات الدولية العاملة بدارفور دون يزور مسرح الجريمة كما هو معروف فى التحقيقات الجنائية و بالتالى فأن رأيها استقر على ان هذه التقارير لا تصلح كبينات امام المحكمة و يمكن مناهضتها وفقا لقواعد الاثبات المعمول بها فى القانون ، و الى جانب ذلك فأن الحكومة تدفع بأن هؤلاء الشهود هم من منسوبى الحركات المسلحة و بالتالى فأنهم خصوم سياسيين و لا يعتد بشهادتهم امام المحاكم ، لكن الحكومة لم تمض فى اتجاه المناهضة القانونية بدعوى عدم اختصاص المحكمة . و استنادا الى ذلك فأن ردة الفعل الحكومية اللاحقة ازاء هذه المنظمات ستظهرها و كانها ارتكبت حقا جرائم فى دارفور كشفتها تلك المنظمات و تخشى افتضاح امرها وهو ضد الموقف الرسمى الذى يعتبر ادعاءات المحكمة محض كيد سياسى .
و كان احرى بالحكومة فى ردتها على الجهات التى دعمت المحكمة الجنائية الدولية ان تصب جام غضبها على الامم المتحدة اولا ، فهى التى احالت الوضع فى دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية عن طريق مجلس الامن تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة بموجب القرار 1593 ، و طلبت فى متن ذلك القرار من الدول الاعضاء التعاون مع المحكمة فى اداء عملها ، و لم تجد الحكومة نفسها اول الامر بحكم عضويتها فى الامم المتحدة ومصادقتها على ميثاقها بدا من التعاون مع المحكمة حيث ذكر المدعى فى اكثر من تقرير الى مجلس الامن و فى متن مذكرة الاتهام التى اصدرها ضد رئيس الجمهورية ، ان مكتبه قام بخمسة مهام فى الخرطوم التقى خلالها بمسؤولين فى الحكومة السودانية و تحصل على مواد خاصة بمسار تحقيقاته عن الوضع فى دارفور . و كان اكبر المتعاونين مع المحكمة الجنائية الدولية هى الامم المتحدة نفسها التى لها الان اكبر بعثة لحفظ السلام فى العالم تتضمن وجودا عسكريا كبيرا تخشى الحكومة من ان يتعدل تفويضه لاحقا الى ملاحقة المطلوبين من قبل المحكمة الجنائية نفسها ، لكن التصريحات الصادرة قبل و بعد صدور قرار المحكمة من المسؤولين الاممين تثبت انهم لا يخشون اى ردة فعل حكومية غاضبة ازاء بعثتى المنظمة الدولية فى السودان .
وغير الامم المتحدة فأن بلدانا كثيرة لها وجود ديبلوماسى فى الخرطوم تعاونت مع المحكمة الجنائية الدولية فى تحقيقاتها (بينها بلدان توصف حكوميا بأنها شقيقة) حول الوضع فى دارفور بناءا على توجيه القرار الاممى الذى احال قضية دارفور الى المحكمة الدولية ، فمذكرة الاتهام الصادرة عن المدعى العام ، اوكامبو فى يوليو من العام الماضى اثبت فيها ان مكتبه قام ب105 مهمة فى 18 بلدا من اجل جمع الادلة . و الى جانب ذلك فان اكبر البلدان التى توفر قوة الدفع السياسية و المادية لانشطة المحكمة هى الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا و غيرها من البلدان الاوربية ، و نجد هذه البلدان ظلت تمارس الضغط و الابتزاز على الحكومة بصورة يومية قبل و بعد صدور قرار المحكمة الدولية ، بل ان الولايات المتحدة اعلنت انها لن تتعامل مع البشير على اعتباره رئيس دولة و انما شخصا فارا من العدالة ، ومع ذلك فأن التمثيل الديبلوماسى لهذه البلدان فى الخرطوم لا يزال موجودا بل و يتمتع بالحماية الفائقة من السلطات . وكان مدير جهاز الامن و المخابرات الوطنى قد عبر عن ضيقه من ذلك فى حديثه بتلك الورشة بان (تجاوزات الوجود الاجنبي الدبلوماسي جعلت منه جهازاً رقابياً ومحاسبياً للسلطة التنفيذية في كثير من القضايا التي تهم الدولة مستخدمين آليات مختلفة للتأثير على الشعب وعلى قيادته) .
و يعطى طرد الحكومة ل16 منظمة عمل انسانية اشارة سالبة لجهة ان الحكومة غير عابئة بمصير شعبها فى دارفور الذى هدته المعاناة و تؤكد الصورة التى ظل خصومها الغربيون يحاولون دمغها بها من انها نظام حكم بلا فؤاد ، فالمنظمات تقول انها تقدم مساعدات لاكثر من 4 ملايين شخص فى اقليم دارفور المضطرب لن يجدوا من يهتم بهم بينما تؤكد الحكومة انها ستسد الفراغ الذى خلفه قرار الابعاد عن طريق المنظمات الوطنية و بمساعدات منها . لكن المعطيات السابقة التى وفرت المسوغ الموضوعى لدخول هذه المنظمات الى البلاد ، بجانب المعطيات اللاحقة و المتمثلة فى الازمة الاقتصادية المتوقع استفاحلها فى البلاد و العجز البائن فى الميزانية العامة لهذا العام وفى فصلها الاول الخاص بمرتبات العاملين فى الدولة و الشكوى الرسمية من ذلك منذ الشهر الثانى ، ستشكك فى قدرة الحكومة على الوفاء بالاحتياجات الانسانية للضحايا فى دارفور . و لا تنكر الحكومة الدورالايجابى الذى تلعبه هذه المنظمات فى دارفور وقد اقر مدير المخابرات نفسه بهذا الدور الكبير حينما قال ضمن حديثه انف الذكر ( ان حجم المساعدات الانسانية المقدمة إلى دارفور كبيرة وان المجتمع الدولي متفاعل مع السودان لتجاوز محنته) بالرغم من انه اشار الى السلبيات بقوله (لكن هناك فئات تحاول التأثير على الأوضاع في البلاد) .
ولان البعد الانسانى فى قضية دارفور كان هو اكبر المحركات للزخم العالمى الذى حظيت به القضية ، و ان الحركات المسلحة لا تجد تعاطفا كبيرا من الناحية السياسية فى الغرب لضعف اطروحاتها السياسية ، فان قرار الطرد سيجعل مجتمع العمل الانسانى قائدا للحملة المناوئة لاى تعاطف يمكن ان تحظى به الحكومة السودانية فى الغرب ، تحتاجه الحكومة فى حملتها المناهضة لقرارات المحكمة الجنائية الدولية و ولايتها القضائية على الوضع فى دارفور . بل ان قرار الطرد يمكن ان يعزز دعاوى المحكمة بان تعويق المساعدات الانسانية جزءا من استراتيجية حكومية لمحاربة مجموعات الفور و المساليت و الزغاوة التى تمثل غالبية الضحايا فى اقليم دارفور ، و انها تدابير رسمية تهدف الى اهلاكهم بصورة بطيئة و يمكن ان توفر اساسا معقولا لقوة دفع جديدة ويجعل قضاة المحكمة الجنائية الدولية يعيدون تقييمهم فى بينات المدعى العام حول تهم الابادة الجماعية التى كانوا قد قرروا استبعادها لعدم كفاية الادلة و لكنهم تركوا البابا مفتوحا للادعاء العام لامكانية استئنافها. و قد بدأ مسؤولين فى الامم المتحدة يشيرون الى انهم سيبحثون ما اذا كان قرار الطرد يمثل جريمة حرب ، بينما ذكر المدعى العام انه سيدرس قرار القضاة ليرى اذا ما كانت هناك امكانية لاستئناف قرارهم برفض تهم الابادة الجماعية ، و تعلم الحكومة الدلالة السياسية للاتهام بالابادة الجماعية التى اتخذ المجتمع الدولى عهدا على نفسه بالتدخل العسكرى فى اى بلد تمارس فيها جريمة ابادة الاجناس .
و بالطبع ليس مطلوبا من الحكومة ان تستجيب للابتزاز و تفرط فى امن البلاد القومى و لكن ايضا عليها ان تكون حذرة من ارسال اشارات للعالم يفهم منها انها تمارس الابتزاز على البلدان ذات الشوكة باتخاذها لمواطنيها دروعا بشرية و مادة اللابتزاز ، فأن جهات متشددة تعمل بدهاء لسوق الحكومة لمواقف اكثر تطرفا يصعب عليها ان تجد حلفاء فى العالم يقفون معها فيها و تصعب عليها اذا ما ارادت التراجع عنها ، وذلك للاجهاز عليها ، وفى هذا الصدد فأن علي مسؤوليها ان يقرأوا بعناية ما بين سطور التقارير الدولية التى تكتب عن الاوضاع فى السودان و بخاصة فى دارفور !! .