حيٌ في أم درمان عام 1960

 


 

 

 

رغم أن الحياة مقيّدة بقيود التقاليد المحافظة، إلا أن الحياة تبسط نورها كل صباح بفأل جديد. ورغم أن الحياة المحافظة قد رسمت للمرأة وللرجل وللأطفال، طريقا أقرب الشبه بخط السكّة الحديد المستقيم، قلّما يفلت منه أحد، ورغم أن الحياة المحافظة قد خطّت خطوطا للملبس، وطريقة للطعام، إلا أن الناس قد قبلت السلطة البريطانية، كإذعان طبيعي لمنطق القوة، وفرضها على الأهالي. وهم يسيرون عليها رغم مضي خمس سنوات من تاريخ رحيلهم عن السودان.

وفدت على أم درمان مجموعات من شتى القبائل السودانية، من الصعيد والسافل ومن غرب السودان ومن المجموعات النيلية منذ دولة المهديّة، من أبناء المواليد والمكادة و التكّارنة وأولاد الريف الذين انحدروا من مصر ومن المغرب، ومن شتى المِلل وتمازجت المجموعات من بعد حذر النزوح الأول وتوتره. أجرى الزّمان يده تُخفف غرابة التنوع، فتكوّن النسيج الفريد، ونشأ مجتمعاً أسرياً وعائلياً متراحماً في السّراء والضّراء، وخفتت القبلية رويداً رويدا.
زاحمت المدارس الأولية الخلاوي، فصارت الخلاوي درجة من التعليم قبل المدرسي. ولمدارس الأحفاد وبيت الأمانة والأهلية، جانب آخر موازٍ للتعليم الحكومي.

(2)

قدم طفلٌ صباحا إلى دكان الخيّاط عبد الحميد قائلا:

- أمي جابت ليك المرارة دي، إن شاء الله تاكلا وتموت.

رد الرجل:

- ليه تتمنى لي الموت يا ابني؟

فقال الطفل:

- قالت لي أمي لازم تنتظر تودّي المرارة للخيّاط، ولكني تأخرت من المدرسة،... الليلة أنا بجلدوني ...

*
تذكر الشاب عبد الرحيم أنه ركب " بصّ العظمة" في سَيّرة شقيقه محمد مساء الأمس، واضطّر لانتظار بص السّيرة كي يعود، لأنه نسي شيئا مهمّا في البيت، ولأن الثورة الحارة الرابعة، كانت بعيدة من حي العباسية وتقع أقصى شمال أم درمان. وفي الصباح أصبح بلا فلوس، وقف أمام أمه يطلبها شلنا ليذهب به للعمل. ولكنها ردته خائبا. فقال في سرّه:

- الله يقطع العِرس وأيامو، انقطّعنا من يوم العزوّمة، ما شفنا فيها غير الفلّس. دَة حالّتو الشُغل، وكيف نعمل مع الصبحيّة الليّلة!، أنا ما أخو العريس؟

*
نعيمة بتّ البشرى، كانت تذبح الخروف، وتدعو النّسوة من الجيران لتناول الإفطار، وفي العصر، جهّزت ( قهوة السيّد علي) كرامة. بلغ الخبر عثمان الحدّاد، فقال لعبد القادر:

- أنا العارفو نعيمة ما كان أهلا أنصار أو ختمّية...

فرد عبد القادر:

- بينا وبين الختمّية لحمة نسب.

فقال عثمان:

- أيواااه، تراني يا داب عِرفت السبب. لكن الحاجّة نعيمة مَرَة طيبّة ومواصلة. نحنا عِرفنا راجلا المرحوم، كان مواصل وخيّر ومجامل. نحنا جاملناهم في عزومة ولدا بكراعنا وبى إيدنا،... حسب قدرتنا.

(3)

صور تتداعى من الذاكرة، نلتقطها بدمها الحار المسكوب، ولغتها العامّية الغارقة في التعبير، تماما كما قضى الماضي على نَحب تلك الحياة، وهي تسير بطيئة، مثل صندوق العربة، التي يجرّها الحصان المنهّك، الذي ينقل حاجيات الحياة وأغراض السوق ويوزعها على بقالات الأحياء. الأزياء جُلباب وطاقيّة حمراء للرجال، أو ثوب من قماش الدّبلان على الكتف والخصر، مع سروال يمتد من الخصر إلى نصف الساق. وللمرأة ثوب زراق، أو قنجّة للواتي لا يتركنّ الحِداد على فقد عزيز لديهنّ، أما البنات فيرتدون فستان بدون زركشة أو تزويق، لنصف الساق وطرحّة كخمار على الكتف. أما الأطفال الذّكور، فيرتدون سراويل، مصنوعة من قماش الدمّورية أو الدبلان، تربط في الخصر وتمتد إلى منتصف الساق، ويترك باقي الجسد مكشوفا.

بدأ الحي أوّل أيامه منذ بداية القرن العشرين، في شكل بيوت صغيرة تتفاوت في بُعدها عن بعضها، تتصل بدروب المشاة والمواشي. وهي موطن السافانا الفقيرة، تنتشر فيها أشجار السدر ونبات الحسكنيت. بيوتها من الطين اللّبن على شكل قطاطي أو ضَهر تور، كما كانوا يسمّونها قديماً، وأسقّف مخروطيّة الشكل، نُسجت البروش من سعف النخيل والمدادات والجسور الحاملة من أفرع أشجار الدوم. الأسوار حول المساكن من النباتات الشوكية. وذلك قبل أن يقوم البريطانيون بتقسيم القطع السكنية بمسالحاتها وتمهيد الطّرق.


تبدو الحياة داخل بيوت الطين هادئة في حي العبّاسية، بعض الأفراد يتحركون في الطريق الترابي. تجد أنت الحمير في الطريق، و يركب عليها مزارعون يتنقلون من وإلى الجزر تحت كوبري النيل الأزرق. تمتلئ البيوت بالقطط والكلاب، والدجاج وأبراج الحمام والغنم، وتوضع الأخيرة داخل زريبة في ركن الفسحة الكبيرة، أما بقية الحيوانات الدّاجنة، فتجدها في كل مكان مع الناس في الغرف وساحات البيوت.

في كل بيت غرفة سوداء الحوائط منزّوية في أحد أركان البيت، تُخصص لصناعة الكِسرة وبقية الطعام. الوقود مكوّن من حزم صغيرة من الحطب وقش التُّمام، الذي تبتاعه النسوة من رجال يتجوّلون على حميرهم، يعملون على قطع الحطب من على بعد خمسة أميال غرب أم درمان، ويبيعونه لنساء البيوت.

الأسرة شبه مكتّفية، كانت تتوفر في البيوت كل ما يطلبه السكان: البيض من الدّجاج، واللبّن من الماعز، واللحم من الحمام. تقوم كل عائلة بطحن كيلّة من حبوب الذرة كل أسبوع، التي يشترونها من سوق الموردة، ويعطونها للوسيط عبد الرحيم لطحنها في مطحنة الحيّ، أما حبوب الشاي والبُنّ ورؤوس السكر، فيتم شراؤها من البقالة المجاورة. تبقّت زجاجة من الجاز لوقود الإضاءة، التي تبيعها البقالات في الأحياء.

(4)

كانت أم درمان كما وصفها في ذلك الزمان الروائي عثمان حامد سليمان:

{ إن المكان كما قلتُ مراراً ولا أملّ التكرار، هو الوعاء المكانّي الذي احتضن تجربتي بكل الحنو. فالنيل هو ابنها يلتّف في خاصرتها، فأنا أحد أبناء مدينة أم درمان، فقد ولدتُ وتشكّل وعيي. شبّ واستوى على خاصرتها. مدينتي، يسير النيل الأبيض كتفاً بكتف مع الأزرق، يحفّانها بالبركة والرجاء. مدينة أم درمان ونهرها ومزيجها " خاتفة لونين "، فشرقها كله ماء عذب، و انعكاس شمس الصباح على ملاءة الماء جمال، قلّ من يصحو فجرا ليشهده. سأتحدث عن المكان الذي احتضن تجربتي بكل الحنو والرفق.

كانت أم درمان ذلك الوطن الذي ينام على الضفة الغربية من النيل. يمتد من الموردة وحي الأمراء والهاشماب. المدينة بأحيائها، أسماء الأسر والعائلات، تبدو الأحياء قرية مسوّرة .الأمراء إلى مرقد الإمام المهدي، حيث القبّة والطابية وبيت خليفته، ثم الملازمين وبيت المال و ود دورو وحي السّيد المكي والركابّية وود البصير وأبو روف و ود البنا وحي القلعة و ود نوباوي، إلى مقابر شرفي أفندي والبكري والدباغة، ومدينة الثورة إلى الحارة الرابعة، ثم الرّكابية وحي العرب والمسالمة والمظاهر والبوستة والعرضة والعبّاسية، وأبو كدوك والشيّاخة وغرباً إلى مقابر العارف بالله الشيخ حمد النيل، ثم بانت شمالاً والموردة حيث الميناء النهري العتيد، خور أبو عنّجة وحي الضّباط ومن الجنوب الفتيحاب. أرض بما حوت من مصاهرات وأعرّاق وأجناس وثقافات. أم درمان الحركة الوطنية وأم درمان مؤتمر الخرّيجين وأم درمان جوامع وكنائس، ودور ومدراس وبيوت حانية بأهلها، وأندية النقابات، وأهل الرياضة والفن والقضاء والمجلس البلدي، وطير السمبِّر وآنسات الشاطئين والبرَدَّة والصارقيل والورل. قرب الشاطئ في الزمان القديم الطيور البرّية، الصقور واللقلق والدجاج البرّي و القطا، القمّري، الزرزور، الهدهد، الهزار، الكروان ، الطير الخداري، الغُرّبان و البوم، وتعيش أسماك نيلية متنوعة في نهر النيل، الذي يبدأ شرق أم درمان. أشهرها، أبو السعن و أبو المغازل والغطاس البحري....
أم درمان السيّاسة وأم درمان الفن وأم درمان المسرح القومي والإذاعة والأسواق والمهن والصناعات والتعليم. أهلها يمارسون حياتهم حيث اجتمعت النِحل والمِلل وكل شيء هناك .}

عبدالله الشقليني
25يناير2020

alshiglini@gmail.com

 

آراء