(1) لن أحدّثك عن قرامشي ولا عن الجاحظ ولا عن إدوارد سعيد ، ولا عن كارليل وسواهم ممن أوردت أسماءهم، فالقاريء الذي قرأ ما دبّجت من كلام عن شخصي ، لا عن مساهماتي الأدبية والدبلوماسية، يدرك أن كتابتك محض انفعال موشّى ، باستشهادات استعراضية ، فحسب. لكأنّ من ضعف حجّة صاحبها، مسعاهُ الفطير لتلمس المنطق والحكمة من مراجع بعيدة، ليقنع نفسه -لا الآخرين- بأنّ قلمه ينطق عن فكر وثقافة ومباديء. . لن أحدثك هنا ولا أناقش خطل ما كتب قلمك الذي كنتُ أقدّر ما يسيل منه من حبر، إلا هذه المرّة ، التي رأيتك فيها وعلى صفحات صحيفة "السوداني"، وقد آثرت أن تنزل من على درج الفكر إلى درك السفَهِ وسوء الإحترام وإكثار الهتر. غير أني أقف عند خسارتي فيك الخسارة الكبرى ، فبدا لي انكشاف الطوية عن حقيقتها ، وعن نفاق بان شائناً من تحت دثار. لا يليق بمن ألبسه الناس ثيابَ الفكر واحترموه زمانا وهو يكتب عن حذق ودربة ، بأكثر ممّا رأيته عند عدد من زملائه السفراء والدبلوماسيين، أبناء جيله. كنا نتابع ونحمد لك إطلالتك على جمهور الفضائيات، تجالس من تجالس حول قضايا فيها السياسة، كما فيها الأدب والإبداع، وفي زمن الثورة التي أزاحت نظام الطغيان وظلم الوطن وإذلاله لأهله ثلاثين عاما . كنا نرى قلماً رصينا وصوتا صادقا. لكنّي أسألك: من منّا- وخلال كل تلك السنوات الثلاثين- لم يفطن لتلك المآسي التي تسبّبت فيها سياسة تغييب من لا يتبع الفكر "الإسلاموي"، بادعاء احتكار الحكمة كلها..سوى تلك الفئة التي أنت منها ؟ طفق ذلك النظام يقصي كلّ مَن ليس مؤيداً لتوجّهاته ، عبر سياسة "التمكين" دون جناية ارتكبها ، فقصم ظهر الوطن بإبعاد أبنائه بالآلاف المؤلفة بدعاوى "الصالح العام" ، وهم من كفلتْ الدولة تعليمهم وضمنت تدريبهم داخل البلاد وخارجها، وكلفتهم بالمهام يسيرها وعسيرها للنهوض بالوطن الجريح.. جاء نظام "الإنقاذ" عبر انقلابٍ عام 1989، ليعتمد تطرّفاً إسلاموياً سعى سعياً حثيثاً محموماً لإقصاء هذه الآلاف من ساحات العمل، في وطن أحبّوه، وهُم في بذلهم يردّون دين الوطنية ، فقط لأنهم ليسوا إسلامويين. .
(2) دعني أذكّرك أني من جيلٍ غير جيلك ، ومن تعليمٍ غير تعليمك ومن جامعات غير جامعاتكم. كنا صغاراً في المرحلة الأولية لا نمشي إلى تلك المدرسة في الطريق الذي يمشي عليه معلمونا ، إحتراما وتقديرا. إلمعلم في شرعنا هو ذلك المربّي القريب لشخص الوالد- إن لم يكن امتداداً له- نحفظ له تبجيلاً مستحقا واحتراما لازما. من ذلك المسلـك، تعزّزت في دواخلنا قيمة كبرى من القيم الأخلاقية الراقية منها ، خصلة توقير الكبير واحترامه وحفظ مكانته. لا نعلي الصوت فوق صوته، ولا نقول له أفٍّ ، وإن حاد عن جادة المنطق، إلا بالتزام حدود الأدب. حين دلفتُ إلى وزارة الخارجية دبلوماسيا ناشئاً ، وقبل خمسة عشر عاما من التحاق نفر جاءت بهم بدعة "التمكين" المنكرة وأنت واحد منهم، ليكونوا سفراء ودبلوماسيين بالتعيين لا بالتنافس الحر، لم تفارقني ولم تفارق أياً من أفراد جيلي تلك الخصلة الحميدة. بيني وبينك ومن قبل أن "تفكّ الخط الدبلوماسي"، أكثر من خمسة عشر عاماً من الخبرة الدبلوماسية ، فكيف تجيز لقلمك أن يطال مقامي . . ؟ ليسَ المقام مقام تواضع، بل مقام احترام وتوقير. ولأضرب المثل بسفيري الرّاحل عيسى مصطفى رحمه الله، وقد كان مديراً للشئون الإدارية في وزارة الخارجية. دخل علينا ونحنُ في تلك السنّ الباكرة في الدبلوماسية ، وكنتُ مكبّاً على ملفٍ، وما تنبهّت حين هبَّ زميلاي من مكتبيهما احتراما وإجلالا للسفير الذي دلف إلى مكتبنا خلسة، وأنا جالس إلى ملفي ولم أنتبه . ذكّّرني سفيرنا معاتباً لإبداء الاحترام الواجب، فانتصبتُ واقفاً، ولكن كان عليّ أن اعتذر اعتذاراً مطوّلاً ، لم يطلبه منّي، ولكن لإحساسي أني لربّما تجاهلت قيمة وخصلة، كنتُ أعتزّ بهما ، وإن لم أتعمّد إهدارهما أمام السفير المحترم.
(3) ولأهمية الهيبة في الوظيفة الدبلوماسية، أحكي هنا عن إثنين من الدبلوماسيين النجباء وقد صارا بعدذاك سفراء كبارا. عرفتهما طلابا قبل ذلك في جامعة الخرطوم ، حين كنتُ أتولى تقديم سمنارات يُكلّف بإدارتها عادة طلاب السنة الخامسة في كلية الإقتصاد . صار الإثنان- بعد تلاحق الكتوف كما نقول- سفيرين نابهين، وأظنك تعرفهما يا صاحب البهار، كامل المعرفة. أولهما هو الراحل السفير أبوبكر صالح ، وثانيهما هوالسفير الذي يديرمنذ عامين مكتب الجامعة العربية في الصين: محمود حسن الأمين. درَج كلاهما على مداعبتيي دائماً وباحترام لا يخفى : "أنت أستاذنا يا سعادتو". . ! لم أكن مُعلماً بالمعنى، بل كنتُ أدير تلكم السمنارات، وكانا في الفصل الذي أتولاه وقتذاك. في الدبلوماسية المهنية، خصالٌ ويا للحسرة، لا تورّث لسفراءِ ودبلوماسيي "التمكين". . !
(3) كنت أسمع همهمات عن مثل ذلك التقدير لشخصي منكم شخصياً ، فأتذكّر أساتذتي في المدرسة وفي الجامعة مثلما أتذكر معلميّ في وزارة الدبلوماسية، فيطمئن قلبي أنّ قيمة الاحترام في حفظٍ وأمانٍ عند كل جيلٍ قادم. غير أن ذلك الظنّ قد خاب، وأنا أطالع مثل كتابتك التي تجاوزت عدم التقدير إلى التطاول ، وإهدار الإحترام وإبداله بالاستخفاف المجاني. غير أني لا أعجب لأني أدرك أن مثل هذا المسلك هو ما انغرز في الأنفس بفعل ومبمسلك نظام الطغيان عبر حقبة بلغت ثلاثين عاما ، تبدلت فيها القيم وتشوّهت الأخلاق ، والأفدح من كلّ ذلك هو شيوع الاستبداد بالرأي . أما وقف الطاغية الأكبر بعد يومٍ من استفتاءٍ شطر الوطن إلى نصفين، ورفع عقيرته منادياً: لقد انتهى اليوم عهد "الدغمسة". . !؟
(4) إن الثورة التي ذهب الشباب فدىً لها، فتيات وفتيان، وأسقطوا دولة الطغيان بدمائهم وجراحاتهم ، واستعادوا إرادة الوطن ، فكأنه يحقق استقلاله في تاريخ ديسمبر من عام 2018 ، تسامحت كل التسامح الممكن مع أزلام النظام المُباد. وإنك ترى بعض كبارهم الذين أسرفوا في إذلال الناس ما زالوا يمشون على هذه الأرض الكريمة طلقاء ولكنهم ما زالوا في غيهم يعمهون. وإنك ترى على الشاشات الطاغية نفسه، كيف يتنقل بالفاره من السيارات المؤمّنة والمحروسة، فلا يذله أحد . وإنك تقرأ ما يحبّرّ بعض أزلام النظام وأتباع الطواغيت من باطل القول عن ثورة اقتلعتْ - كقول ابنعوف- إقتلاعاً مُحكما لأركانها الهشة برغم طول السنين، فما تصدّى لأقلامهم إلا من يمسك قلماً مثله ، فيقارع الحجة بالحجّة ، أو يدفع الباطل بالمنطق. . لعل إطلالتك على الشاشات، أنبأتك كيف هي روح الثورة، وكيف تكون مساحات التسامح وتعايش الأفكار والآراء على اختلافها ، في دولة الثورة التي سترسّخ تلكم المباديء ، فلا يبرز من يدّعي وحده الإمساك بالحكمة ، أو يحتكر صكوك الإبداع فيمنحها لمن يشاء أويمنعها عمّن يشاء . ذلك إدّعاء أجوف وتعالٍ مزموم ممّن رأى الناس عنده بضاعة مكتوبة فيها بعض فائدة لهم، ولكنها برغم لغتها الموشاة بجميل البلاغة، تتنزّل من قلمه وكأنه يتفضّل عليهم بها ، مُستعرضاً مثل لاعب في ساحات الرياضة يمارس مهاراته في المراوغة وإخفاء الكرة تحت قدميه، فيرتبك قاريء الصحيفة اليومية بين من يحيله إلى طه حسين والعقاد ومن يعيده ليطالع كتابات فلاسفة غربيون تستغلق عليه حتى قراءة أسمائهم ، دعك من أفكار تلكم الأسماء المرجعية وآرائها وطروحاتها.
(5) ما لا أريد أن اسهب فيه هنا في ردّي على صاحب البهار ، هي إشارته إلى إدارتي للنطق الرسمي عن وزارة الخارجية قبل نحو خمسة عشر سنة، وكأنه يوحي للقاريء عن ممارسة فيها شييءٌ من النفاق، من طرف سفيرٍ بدا مؤيّداً لنظام "الإنقاذ"، ولكنه كان يضمر له العداء كله. تلك فرية بيّنة تأتي ممّن لا يتبين الأداء الدبلوماسي المهني من الأداء السياسي الموالي ، والقرق جدّ كبير وواضح. لمن كان متابعاً بحصافة، للاحظ كيف لم ترد ولا مرّة واحدة على لساني كلمتي "نظام الإنقاذ"، وقت نطقي عن وزارة الخارجية . كنتُ أقصر تصريحاتي جميعها لتكون عن السودان الوطن، لا عن سودان "الإنقاذ"، إذ كنتُ أنطق عن وزارة خارجية "حكومة الوحدة الوطنية" بعد "نيفاشا" ووزيرها سياسي منفتح الذهن، هو الدكتور لام أكول أجاوين. ترى هل يستبين سفراء "التمكين" هذا الفرق الذي أقول بين المهنية والموالاة، إلا من من هدى ربي؟
(6) وحتى تتصل التجارب وتستقوي بنماذج موثقة، فإني وضعت كتابا لم ينشر بعد، حوى تفاصيل تلك التجربة وأساليبها ومرتكزاتها ومقوماتها ، لتكون هادياً مُرشدا بعد ذلك، لمن يتولى تلك المهمة بالمهنية المطلوبة، وبالحذق اللازم، فيحدّث عن دبلوماسية السودان التي أسسها ووضع لبناتها الأولى، نفرٌ من سفراءٍ كبار، وتركوا إرثاً حريّ بنا أن نتعهده بالحماية والإعمار . جمال محمد أحمد وقد جاء ذكره على لسانك، هو أحد بناة وزارة الدبلوماسية التي أنشأتها الحركة الوطنية ، بعيداً عن تجاذبات التيارات السياسية السائدة وقتذاك، فهي ملك للوطن لا للأحزاب ولا للطوائف. جمال من بين أولئك السفراء الذين عملوا على حماية المهنة الدبلوماسية من تغوّل السياسيين، بغيرة غير مسبوقة، إذ الوزارة سباكة سودانية كاملة الدسم، ولم يصنعها المستعمر. من غيرته تلك فقد تقدّم باستقالته في سنوات الستينات من القرن الماضي لرئيس الدولة، حين كان وكيلاً للوزارة وتغوّل على صلاحياته وزيرٌ حزبيٌّ كُلف بإدارة وزارة الخارجية بصفةٍ مؤقتة.تراجعت الحكومة وعاد جمال إلى موقعه إحقاقا للحق. لجمال رؤية حكيمة وقاطعة، هي أن التفريط في الدبلوماسية السودانية ، بل وأيّ دبلوماسية اختطتْ وفق الاتفاقيات الدولية المرعية ، سيجعل منها مهنة منتهكة، قـد يتولاها حتى بعض شذاذ الآفاق أو سواهم من الطامعين في تجيير دبلوماسية بناء الوطن لتستغل في تعزيز تيار سياسي بعينه أو طائفة تسعى للإستئثار بمطمعٍ يخصّها. من تخوّف جمال من مثل هذه السلوكيات ، رحل وما ظن أننا ناكصون عن كل هذه الثوابت.
(7) إن قصص التمكين لم تتوقف عند وزارة الخارجية، بل تعدّتها إلى جميع الوزارات وكلّ هياكل الخدمة المدنية ، وتمدّدت إلى القوات النظانمية بجميع تشكيلانها. . في وزارة الخارجية، جاء نظام "الإنقاذ" بالعشرات من سفراء التعيين وبعشرات العشرات من دبلوماسي التعيين. لم يملك أكثرهم دراية بالدبلوماسية وتقاليدها ، ولا خبرة في المجال البتة . ليسمح لي القاريء أن استطرد وأحكي عن تجربة مؤسفة لي في العمل مع سفيرٍ من بين هؤلاء، كان يحمل دكتوراة في الرياضيات ولكن ليس في الدبلوماسية. جاءوا به من جامعته وعينوه سفيراً في إيران ، ليس لأنّ للسودان تطلع لعلاقات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية معها ، بل لأن النظام القائم استهدف في تحالفه مع إيران، إنشاء علاقات سياسية تؤهله لقيادة الحركات الإسلاموية في العالم. ولأنّ ذلك السفير آثر أن لا يصنفني إلا "علمانياً" بأسلوب عشوائي مثير للسخرية، فقط لأني لا أنتمي للتنظيم الذي جاء به سـفيراً، فعمل على تهميش مهمتي وتسفيه ما أقوم به من أداء. فشل الرجل في مهمته تلك في إيران، ولربّما نجح في أمرٍ خفيّ لا يعرفه الناس، هو في إسهامه تذليل دخول "إيليتش راميرز سانشيز" المشهور بـ"كارلوس"، بوساطة اللبناني المصنف عند فرنسا إرهابياً: "أنيس نقاش" والمقيم متخفياً وقتها في طهران. ذلك إنجاز من ضمن منجزات خرقاء أفضت بتصنيف السودان راعٍ من كبار رعاة الإرهاب الدولي. غادر ذلك السفير عاصمة إيران، بعد قرار الوزارة نقله منها، وكأنه شخصٌ مطرودُ وغير مرغوب فيه. تجاهلت وزارة الخارجية الإيرانية وداعه وهو مغادر مطار مهراباد". حين أبلغت الخرطوم قام وزير الخارجية – وهو سفير مهني معتق- باستدعاء سفير إيران ووبخه على الفعل المسيء للعلاقات بين البلدين.
(8) ذلك مثل واحد أعرفه المعرفة الحقة لأداء سفير واحد من بين أكثر من ثلاثين سفيراً جاءتْ بهم سياسة "التمكين " الخرقاء، بعد مذابح الصالح العام عام 1989 وما بعدها. أحال نظام "الإنقاذ" المباد بقرارات للصالح العام أكثر من ثلاثين سفيراً وأضعافا مضاعفة من الدبلوماسيين والإداريين بوزارة الخارجية . أكثرهم ظلم ظلماً بائناً فشردتهم تلك القرارات في الآفاق، وبعضهم مات بغبنه وخناجر "بروتوس" في خصورهم، ولم يكن ذلك الـ"بروتوس" رومانياً، بل كان سودانياً قحّاً، تصورنا أنّه من طينتنا وممّن "أنصت معنا إلى مدائح أولاد الماحي وود سعد ، وأطربتهم ألحان أحمد المصطفى وعثمان حسين والكابلي" . . تلك السجايا هي بعض معايير للهوية السودانية اعتمدها أخي الأستاذ المحبوب عبدالسلام في مقال عميق نشره علينا قبل أيام، مستلهماً بعض أسطر ممّا كتب عبقريّ الرواية العربية الراحل الطيب صالح .
(9) لعلّي أدين للأخ العزيز الشاعر النابه د. خالد فتح الرحمن بتقديرٍ وإعزازٍ كبيرين، فإنّي أثمِّن تقييمه لموقفه وقراءته للمواقع التي شغلها في وزارة الخارجية أو موقعه في السفارة التي عهدوا بها إليه في الخارج، فتقدم باستقالة مهذّبة اللغة، قبلتها قيادة الدبلوماسية الجديدة بعد الثورة. تذهب الوظيفة، التي كلفه "نظام الإنقاذ" بتوليها من بابٍ غير باب مهنية الوظيفة الدبلوماسية. لكن يبقى خالد شاعراً عظيما لا ينازعه في موهبة الشعر منازع، حتى لو كان ممّن يمنح أو ينزع صكوك الإبداع وشهادات الاعتماد، من أمثال ناثر البهارات الزائفة هذا. . مالك لا تسلك مسلك خالد وأنت ترى بعينيك أن نظاماً استدناك قد زال؟ هو نظام هيأك دبلوماسياً مبتدئاً منذ تقرّبك للنظام عبر مجلس الصداقة الشعبية الذي كلف بإنشائه مصطفى عثمان إسماعيل بين عامي 1989 و 1990 ، في بعض مكاتب ضيقة في مبنى البرلمان المحلول وقتذاك في أم درمان..؟ إن خطل فكرة الدبلوماسية الرسالية التي تبنتها "الإنقاذ" قد بان للناس ، وكل السفراء في وزارة الخارجية رأوا وسمعوا كيف استولى الرئيس المخلوع في قصره بجماع شئون الدبلوماسية، وأمسك بملفات الوزارة جميعها ، بل وحتى سفرائها يتصرف في مصائرهم آمراً وناهياً، حتى وصل به مستوى الاستخفاف بالدبلوماسية مستوىً نزع بعده ملفات علاقات السودان بأهم الدول وأودعها بأيدي مساعديه من أزلام النظام . وكان جميع سفراء وزارة الخارجية ينتظرون أن يتفضّل "فخامة الرئيس" بترشيح السفراء للسفارات الخارجية، في بدعة فارقت الأعراف المرعية في كلّ أنحاء الدنيا، إذ الوزارة هي التي تعد الترشيحات ، ويبقى من حقِّ رئيس الدولة أن يعدِّل أو يُضيف ، ولكن ليس ليتولى المهمة كلها. لربّما ذلك ما قاد إلى تذمّر وزير الخارجية حول الهجمة على وزارته، أمام البرلمان فأخرجه الرئيس منها. . !
(10) هل هذه دبلوماسية لدولة يهلّل لها الناس ويطربون. .؟ مَلَـك ذلك النظام الهالك مقوّمات الطغيان كلها وأحدث خللاً في إدارة الدولة، وليس فقط إحداثه خطايا يحاسب فاعليها من الفاسدين. قارع ذلك الحراك الثوري الذي امتد شهوراً طويلة منذ 18 ديسمبر 20118 ، نظاما متآكلاً منهارا ، ضيع البلاد وأغرقها في عزلة مهينة. أشبع فاسديه إلى حد التخمة، وفرّط إلى أبعد حدود التفريط ، في موارد البلاد وركائزها الأساسية . شهد المجتمع الدولي مثلما شهدتْ شعوب العالم ،عظمة هذه الثورة ، فهل تعشى عيون بعض أهل البلاد- حتى ولو كانوا من أتباع النظام المباد -عن رؤية هذا الشموخ الذي حققه الشعب السوداني. . ؟ تابع العالم كله ما انطوت عليه ممارسات النطام الهالك ، من إذلالٍ لشعبٍ أعزل، واضطهاد لشابات وشبان خرجوا بصدورٍ مفتوحة ، متحدين رصاص الملثمين من مأجوري النظام ومن أراقوا دمائهم ، فاستشهد منهم من استشهد، وجرح من جرح، وفقد من فقد، وطواه النيل الشامخ حتى الساعة.
(11) تعيش البلاد فترة انتقالية ، علينا جميعا حمايتها لإكمال مهامها المنصوص عليها في مواثيقٍ توافق عليها المكوّن العسكري والمكوّن المدني لهذه الثورة، فتسير سفينة التشارك بمجلس سيادي ومجلس وزاري تنفيذي ، وسلامٌ قادم ومجلس تشريعي قريب الانجاز. ليس من مهام الفترة الانتقالية الحجر على حرية الرأي ، أو إهدار الحقوق. من تظلم من قرارات الدولة سواء حول إزالىة "التمكين" أوغيره، فبابُ الاستئناف – كما سمعت- مفتوح والمراجعة واردة. وإني هنا، يا صاحب البهار ، محض دبلوماسي متابع لما يدور من شئون في بلادي، ولي اهتمامي بالعلاقات الدولية والدبلوماسية، ولا أقحم نفسي فيما لا يعنيني . لكن يجب أن تعرف أن ليس لي صلة شخصية بشكواكم عما أصابكم ، ولست معنيا بذلك. وإني مراقب بعيد لا أملك صلاحية حتى أن أوصي بشيء أو أنصح بسياسة، لكني استمسك برأيٍّ مقتنع به وليس لي أن ألزم أحداً به.. أقولها بملءِ الفم، إني أؤيّد سياسة الثورة في إزالة تمكين نظام "الإنقاذ" ، وقد تمدّد لثلاثين عاما ، وما كتبت إلا مذكراً بقصصٍ عن معاناة دبلوماسيين وسفراء ، لاقوا عنتا وظلما بيناً ، بعضهم فارق الفانية بغبنه ، وبعضهم لا زالوا أحياء تسعى الثورة الماثلة أن تعيد لهم الاعتبار والاحترام والعودة إلى وطن فقدوه زماناً طويلا.
(12) إن كنت يا صاحب البهار، تراني وتنثر بهارك عليّ في الصحف السيارة، فإني أستعجب كونك لا ترى من أصابك بما لا تطيب له نفسك، وأدعوك أن تنثر فلفلك وقرنفلك عليه . أما الذي ابتنيته معك وحسبته صداقة مستدامة وعلاقة مثمرة ، فإنّ صدمتي فيه فادحة ومحزنة . ما جرّدتُ سيفَ قلمي يوماً ، إلا على شخصٍ واحدٍ، أوردتَ أنت حديثاً عنه عرضا في مقالك، ونقلت عنه أنه عارضني لأني تدخلت في عمله ، وأعني السيد محمد ابراهيم خليل. أحيلك والقراء للإطلاع على مقالات ثلاث بعنوان "قصتي مع مفوضية الإنفصال" في موقع صحيفة سودانايل الإلكترونية ، ولا حاجة بي لدحض ما كتبت فالرد هناك. ولي مقال رابع بتاريخ 15 /7/2011 ،بعنوان "رسالة ليهوذا الانفصال"، وذلك مقالٌ أشيح بعينيّ عنه دائماً، فهو مثل قصيدة المتنبي في هجاء ضبة بن يزيد وقد شبهه بذبابةٍ في تلك القصيدة، وظلّ يتكرَّه إنشادَها ولا يطيق أن يحكي عنها. .
أختم مقالي هذا بأني لا أرغب أن أخاطر بكتابة ثانية ، تماثل ما كتب المتنبي من هجاءٍ لضبّة بن يزيد. .